الساعة الثانية فجر 18 آذار/ مارس 2025، استيقظت على اهتزاز جدران البيت، وتطاير ستائر الغرفة التي كشفت عن عتمة الليل المضاء بالوهجٍ البرتقالي من الصواريخ المتساقطة علينا، تبعتها أصوات انفجارات الأحزمة النارية المتتالية. كانت أذناي تطنّان من أصوات الانفجارات المتتابعة، وارتطام الشظايا بسطح البيت المتصدع، أناملي ترتجف وتشتبك بعضها ببعض، بينما عقلي يطرح سؤاله: هل هذا كابوس مُفزع أم الحرب عادت من جديد؟
أمسكت هاتفي باحثة عن إجابة بين عناوين الأخبار المتسارعة التي لم أجد فيها ما يطمئنني، بل وجدت أخباراً عن: مجازر جديدة، وجثامين أطفال، وفزع الناس، ومشاهد نزوح جديدة، وارتقاء أكثر من 151 شهيداً. لقد خرقت "إسرائيل" الهدنة الإنسانية بعد 59 يوماً، لازمتنا خلالها الزنانة على مدار الوقت حتى استوطنت رؤوسنا، وحاصرت مسيّرات "الكواد كابتر" الناس بالنيران، وإلقاء القنابل على رأس كل من يحاول الوصول إلى بيته.
هل نفدت فرص نجاتنا من هذه الحرب القاسية؟ نحن الذين نجونا من الصواريخ والنار، من الجوع والحصار.. هل سننجو من الحرب إلى الموت أو إلى حياة جديدة؟
أكثر من عام ونصف عايشنا خلالها الحرب وعشناها، بُمرها ومرارتها، لكن أقساها كانت عودة الحرب من جديد، بقصف من 100 طائرة إسرائيلية مقاتلة، هل لك أن تتخيل الرعب الذي تنتجه أصوات القصف والانفجارات؟ رعب قادر على إيقاف قلوبنا، كما توقف قلب زميلتي هيا مرتجى، التي استشهدت خوفاً من الأصوات، وتركت خلفها طفلتيها مريم وشام، وحيدتين تواجهان هذا الخوف مثلنا، في كل لحظة.
عاد سؤال بحثنا عن المكان: وين نروح؟ هل من مكان يحمينا؟ هل من بيت أو زقاق أو شارع نحتمي فيه من صواريخ "إسرائيل" وقنابلها؟ أين نخبئ أحلامنا التي نجت؟
لم أجد إجابات لأسئلتي بعد!
أنظر في وجوه أفراد عائلتي، أتأملها وأحفظها جيداً، والخشية من فقدانهم ما زالت تفزعني، هل سيكتب لنا الله النجاة مرة أخرى؟
أتأمل طويلاً وجه أمي، وفي كل لحظة، أجدني لم أحفظه جيداً. وجهها الذي يحتفظ بألمها وخوفها علينا. واستعيد صرختها التي كانت أعلى من صوت القصف، حين نادت علينا الواحد تلو الآخر لتطمئن علينا وتجمعنا بين ذراعيها.
كانت أمي حينها الوحيدة المستيقظة في البيت، كعادتها تُصلي قيام الليل، وتحرسنا بدعائها. ما زال همسها المرتجف يتكرر في رأسي: "اللهم سلمنا، الله يستر الليلة وكل ليلة… يا رب لطفك بعبادك". وتعدد أسماءنا لتخرجنا من غرفنا للاحتماء داخل المطبخ مرة أخرى؛ كما فعلت في مرات سابقة.
كنا نسمع أصوات بكاء النازحين وصراخهم يركضون في الشارع، وقد فروا من الموت من المناطق الشرقية لحي الشجاعية، كانت صرختهم واحدة: "وين نروح في حالنا؟ وين نروح بصغارنا؟!
أنسانا القصف، أنه وقت السحور، كان يدور في رأسي كيف تتسحر العائلات الآن خارج غزة، أي هدوء وطمأنينة تعيشه؟ أما نحن المتسحرون في غزّة، فجائعون، نازحون، خائفون، مثقلون بالخذلان. أمهاتنا لا يجهزن السحور، وإنما يودعن أبناءهن في ثلاجات الموت، أو ربما يجمعن بأيديهن أشلاء أطفالهن. وأمهات ما زلن يصرخن فوق أنقاض المنازل، بحثاً عن أبنائهن المفقودين، عسى يردون النداء، عسى أن يكونوا أحياء!1منذ استئناف الإبادة في 18 آذار/ مارس - 3 نيسان/ أبريل، ارتقى 1,001 شهيد، وأصيب 2,359 آخرون، إضافة إلى وجود عدد من الضحايا ما زالوا تحت ركام المنازل المدمرة وفي الطرقات لا تستطيع طواقم الإسعاف والدفاع المدني الوصول إليهم.
كنا ندرك جيداً في كل يوم أن الاحتلال سيخرق الهدنة، كعادته، لا جديد في ذلك! وسيستخدم قصفنا ليل نهار، وقتلنا بالآلاف ورقة ضغط، بينما العالم يلتزم صمته. وكنا نُحضر "حقائب الطوارئ"، كما طلب والداي من كل واحد منا.
تسودّ الدنيا في عينيّ حين أسمع "حقيبة الطوارئ" التي نعرفها وتعرفنا، الحقيبة السوداء، التي تصارع معنا في معركة البقاء والنزوح، كم أتمنى لو أنها حقيبة سحرية، كفانوس علاء الدين في الحكايات الشعبية، تتسع لأحتمي بداخلها، أنا وعائلتي وأُدخل البيت بمحتوياته فيها.
بينما أنا في الواقع أقف على حافة السرير، أجمع وأفاضل في تعبئتها ما بين (أوراق ثبوتية، وعلب حليب، ولهّايات الأطفال، وألعابهم، ومسكنات طبية، وملابس صيفية وشتوية، وإضاءة، وزجاجة ماء…) تطول المفاضلة في تعبئة الحقيبة، التي لا تتسع للفرشة ولا الحرام ولا لِوجبات الطعام… يطول معها الانتظار الذي يسرق أعمارنا، أرواحنا وتفكيرنا، بعد عدة أيام من الضربات الجوية والبرية التي تصلنا من قذائف المدفعية، بتنا نتلقى التهديدات العلنية من قبل الاحتلال الإسرائيلي على منصات التواصل الاجتماعي، ثم نتلقى المكالمات عبر الأسطوانات المسجلة: "إلى سكان قطاع غزّة، عليكم التوجه نحو الجنوب…"
غزّة بشمالها وجنوبها، ليست آمنة ولا مخرج لنا من هذا السؤال: "وين نروح يا عالم إنساني"!
تُجيبنا "إسرائيل" وأمريكا بمقترحات نحو هجرة طوعية، بعدما حصدت أرواحنا ونسفت ودمرت بيوتنا ومستشفياتنا ومدارسنا ومساجدنا وكنائسنا، وكل رقعة في قطاع غزة. لكننا صامدون في وجه الموت، ونقيس أكفاننا يومياً، ليظل جواب هذا السؤال نتلمسه بانتظارنا لصباح تحرير ونصر جديد.