13 سبتمبر 2024

"رح أعمل عملة أرفع فيها راسكم".. تفاصيل لأول مرة عن كمين الدمج

"رح أعمل عملة أرفع فيها راسكم".. تفاصيل لأول مرة عن كمين الدمج

اللوحة الأولى: الحربوش والحسِم

-1-

فتح محمد طلال يديه اللتين اسودتا وتورّمتا من كثرة استخدامهما في تعبئة العبوات بالبارود، وشكى لصديقه: "راح كل تعبي ع الفاضي، كل وجع أيدي، أكثر من 140 عبوة الي زرعتهم، ولا إشي نجح". كان ذلك في صباح 29 آب/ أغسطس الماضي، أي بعد نحو 30 ساعة على بدء جيش الاحتلال عمليته العسكرية1الساعات الأولى من 28 آب/أغسطس 2024، أعلن جيش الاحتلال عن بدء عملية عسكرية واسعة النطاق في مناطق شمال الضفة الغربية المحتلة، وتحديداً في: جنين، وطولكرم، وطوباس. أطلق الاحتلال على عمليته العسكرية "المخيمات الصيفية" إشارة لاستهداف المخيمات بالأساس حيث تتمركز كتائب المقاومة المسلحة. فيما سمت فصائل المقاومة العملية بـ "رعب المخيمات". وقد امتدت في مرحلتها الأولى لعشرة أيام متواصلة ارتقى خلالها 39 شهيداً، وألحق الاحتلال دماراً واسعاً بالبنى التحتية. على شمال الضفة الغربية، فهذه المرة اقتحم جيش الاحتلال مخيم جنين بأجهزة تشويش معلقة على آلياته، ما أدى لإفشال تفجير العبوات عن بعد. 

لم يكن محمد آبهاً إلا لشيء واحد: "هل سيحتسب ربّنا كل هذا التعب حتى لو لم تنفجر العبوات؟"، تساءل. "جيب بارودتك وأطلع من المخيم"، اقترح صديقه. لكن ردّ محمد جاء حاسماً: "مستحيل أطلع من المخيم.. والله رح أعمل عملة، ارفع فيها راسكم كلكم.. اطلعوا على أيدي، مش رح يروح اشي ببلاش". 

محمد طلال، أحد مقاتلي كتائب القسام في مخيم جنين، وعمره 18 عاماً. منذ صغره، يلقّبه أصحابه بـ "الحربوش"، وذلك لخفّة حركته وكثر تنقلاته. ومصداقاً لذلك، تمكّن للمرة الثانية خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على المخيم، من أن يصل إلى منزل أهله ويلتقي بوالديه صباح يوم الجمعة، إذ اعتاد شرب القهوة مع والده على درج منزلهم المطل على أجزاء من المخيم وخلفها سهول جنين الممتدة. 

غادر "الحربوش" منزل أهله بعد ساعة، ثمّ عاد مجدداً في اليوم نفسه، الساعة الخامسة مساء، استحم، وارتدى الملابس التي انتقتها له والدته، تُعلّق: "حكالي سلام، برجع"، لكنها تستدرك: "وما رجع"!

-2-

31 آب/ أغسطس، حوالي الساعة العاشرة صباحاً، دوّى الرصاص في "حارة الدمج" في مخيم جنين، ووصل مسمع والدة محمد طلال، فانتفضت من مكانها، وأخذت دقات قلبها بالتسارع، وصرخت: "هاد حربوش، أنا متأكدة، قلبي حاسس". 

في زقاق داخل حارة الدمج، على بعد أمتارٍ من جامع الأنصار، حيث يتمركز جنود الاحتلال داخل الجامع وفي المنازل التي تحيطه منذ ثلاثة أيام، وصل "الحربوش" وصديقه أمجد القنيري إلى باب منزل يتوسط الزقاق، وكمنوا خلفه منتظرين وصول جنود الاحتلال. كان الهدوء يعمّ المكان، حتى أنّ الجنود لا يسمعون سوى خطى أقدامهم، فأي "انتحاري" قد يختبئ هنا حيث لا مفر من الموت؟!

الشهيدان أمجد القنيري ومحمد طلال منفذا كمين الدمج. (المصدر: بوستر نشرته كتيبة جنين)

ما إن اقترب الجنود من الباب، حتى انهال عليهم رصاص محمد وأمجد وعبواتهم، وخاضا اشتباكاً معهم قبل أن يرتقيا شهيدين. يقول محمد شقيق أمجد لـ متراس: "تمكن أمجد ومحمد من الانسحاب بعد الاشتباك، وابتعدوا على ما يبدو نحو 50 متراً، قبل أن يغتالهم قناصو الاحتلال". وقد تبنت كتائب القسام العملية، مؤكدة أنها تسبّبت بمقتل جندي وإصابة أربعة آخرين على الأقل. وبقيت جثامين الشهيدين أمجد ومحمد 48 ساعة ممدة على الأرض، قبل أن يحتجزها جيش الاحتلال.

-3-

وصلنا إلى الزقاق، الذي أصبح مزاراً. يُشير أحد شبان الحي إلى بقعتين من دم الجنود، احتفظت بهما الأرض رغم مرور أسبوع على الحدث، فيما احتفظ جدار المنزل الملاصق برصاص الاشتباك. وخلف الباب، وجدنا سقف المنزل قد أطبق على أرضه، إذ قصفه جيش الاحتلال خلال الاشتباك بعدة قذائف، ليتأكد من عدم نجاة أحد من المقاومين.  

أحد أزقة حارة الدمج في مخيم جنين، حيث أعد الشهيدان محمد طلال وأمجد القنيري كميناً لجنود الاحتلال، قتل فيه جندي وأصيب آخرين. (تصوير: شذى حماد/ متراس)

تقول والدة محمد لـ متراس: "محمد كان نفسه بالشهادة، بس يتمنى يُقتِل قبل ما ينقتل، ويكرر دائماً ما بدي أروح ببلاش.. وكان يتمنى يموت طخ مش حرق، ومثل ما تمنى ربنا أكرمه". 

انخرط محمد بالمقاومة وهو في عمر الـ 15 عاماً، وكان أحد فتية العبوات في المخيم. وقد أُصيب في اقتحام تموز/ يوليو 2023 برصاصة أصابت كبده، خلال محاولة زراعة عبوة في طريق جرافة عسكرية إسرائيلية. تعلّق والدته: "ربنا شهيد كيف محمد كان يقاوم وهو مريض، من صغره وهو بعاني من تكسر بالصفائح الدموية، وكان لما يشتغل كثير بتصنيع العبوات يروح تعبان ويستفرغ دم، ورغم مرضه وتعبه استمر حتى استشهد".

أما أمجد قنيري (23 عاماً) أحد مقاتلي سرايا القدس، والذي حمل اسم الشهيد أمجد العزمي، كان مختلفاً عن صديقه محمد، "كتوماً وغامضاً" كما يصفه شقيقه. كان أحد مقاتلي مخيم جنين منذ معركة "سيف القدس" عام 2021، وبشهادة رفاقه المقاتلين، فإنه خاض اشتباكات عديدة تصدياً لاقتحامات المخيم، كما نفّذ أيضاً عدة عمليات إطلاق نار على أهداف إسرائيلية. يقول شقيقه: "كان أمجد إنسان بسيط، محبوب من الكل.. وكان ملقب بالحسم، لأنه شخصية حاسمة".

أفرجت أجهزة السلطة عن أمجد قبل شهرٍ واحدٍ من استشهاده، وذلك بعد اعتقال دام ستة أشهر في "سجن الجنيد" في مدينة نابلس، وضغطوا عليه خلال فترة اعتقاله لتسليم سلاحه. يقول شقيقه: "وقعت المحكمة أمجد على كفالة مالية بقيمة 10 آلاف دينار حتى لا يعود للقتال، كما فرضت عليه الأجهزة الأمنية التوقيع على كفالة ثانية بقيمة 15 ألف دينار". لكن "الحسِم" كان لديه رأيٌ آخر، فيقول شقيقه: "في يوم الإفراج عنه، لم يغادر المهنئون منزلنا إلا بحدود الساعة الثانية فجراً.. فوراً دخل أمجد ليستحم ويأكل، ثمّ ودع أمي، وحمل بارودته.. ما نام ولا ليلة في الدار".  

اللوحة الثانية: حارة الدمج

-1-

عند باب واحدة من غرف المبنى المتهالك لعائلة أبو صبيح، المجاور لجامع الأنصار في حارة الدمج، وقفت صحفية أجنبية مع أحد أفراد العائلة، تحاصره بأسئلتها محاولة الحصول منه على إجابة يُحمّل فيها المقاومة سبب ما حلّ بعائلته، إذ فجّرت قوات الاحتلال في 5 أيلول/ سبتمبر الجاري بيتهم. أعادت الصحفية سؤالها أكثر من مرّة بصيغ مختلفة: "من سبّبَ انفجار بيتك؟ المقاومة أو الجيش الإسرائيلي؟ من تُحمّل المسؤولية؟"، ولكنها في كل مرّة لا تحصل إلا على الإجابة ذاتها.

يبدو وكأن زلزالاً أصاب المبنى المكون من أربع شقق يسكنها أبناء جمال أبو صبيح وشقيقه، وذلك بعد أن فجّر جيش الاحتلال حفرة امتصاص أسفل المبنى، ما ألحق دماراً بأساساته، وزعم أنها مغارة تستخدمها كتيبة المخيم لاستكمال شق النفق الذي سبق أن أعلن الاحتلال العثور عليه في 4 تموز/ يوليو 2023، أسفل جامع الأنصار. 

اقرؤوا المزيد: هذا ما رأيتُه في مخيّم جنين..

بين الجامع ومبنى العائلة، وقف جمال أبو صبيح (67 عاماً) وهو يحاول التقاط أنفاسه، فلا يكف عن تنظيف الفوضى التي أحدثها الإنفجار، مواصلاً تفقد المبنى، لعلّ وعسى أن ينجح باستصلاح شيئ فيه. يقول جمال لـ متراس: "خسارتنا مش مادية، كله بتعوض، بس خسارتنا الأكبر معنوية.. القهر الذي يمارسه علينا الإسرائيلي 24 ساعة". 

منذ الخمسينات وعائلة أبو صبيح تعمر بيوتها وتوسعها كلما ادخر أبناؤها قليلاً من النقود. "احنا اليوم أصبحنا في العراء بعد ما حاولنا سنين نصمد في المخيم.. إعمار بيوتنا اليوم بحاجة لمؤسسات توقف معنا وتدعمنا"، يقول جمال، ثمّ يستدرك: "لا يوجد لنا مفر من المخيم، أنا وأبنائي ما بنطلع من حارة الدمج إلا على قريتنا الكفرين، ما في بديل إلنا إلا بلادنا الأصلية". 

جدار في حارة الدمج عليه آثار رصاص الاشتباكات بين جنود الاحتلال والمقاومين، خُط عليه: "زقاق الموت". (تصوير: شذى حماد/ متراس)

-2-

بالقرب، كان جار جمال، علي الدمج يكنس الغبار الحجارة المحيطة بجامع الأنصار، والتي خلّفها الاستهداف الأخير للمسجد، هذا ما اعتاد أن يفعله يومياً، وكأنه دائم الاستعداد لحضور المصلين للصلاة. أوشكت صلاة الظهر أن تُقام، فقد سمعنا الأذان يُرفع في مساجد مخيم جنين، لكنه لم يُرفع بعد هنا. فالجامع أصبح مكاناً خطراً آيلاً للسقوط، بعد أن استهدفه جيش الاحتلال مرتين بالقصف والتفجير، في تموز/ يوليو 2023  وفي آب/ أغسطس 2024. 

يقول علي لـ متراس وهو يشير إلى الجامع الذي تمتلئ جدرانه بآثار الرصاص والقذائف: "كل أهل حارة الدمج شاركوا ببناء الجامع، وسميناه جامع الأنصار، لأنه النصر من هون". ويضيف علي، الأب لابنين من ذوي الاحتياجات الخاصة وابن أسير: "لو كل يوم يجوا مش رح يأثر علينا، احنا عشنا انتفاضة الأقصى، وقتها دخلوا على الحارة بالمدفعيات والدبابات، احنا صامدين حتى زوالهم". 

هذه هي "حارة الدمج". تتميّز بسكّانها، وأيضاً بموقعها الاستراتيجي، إذ تتوسط حارات المخيم وتؤدي بطرقها السبعة إلى حارات "الخبز" و"الحواشين" و"السمران" و"الساحة"، وقد اتخذتها كتيبة جنين مركزاً لتواجدها وعملياتها خلال التصدي لاقتحامات جيش الاحتلال. فيما يحاول جيش الاحتلال في كل اقتحام، إخضاع الحارة بإخلاء أهلها، ومحاولة الاستفراد بالمقاومة الكامنة في الحارة. وقد اتبع مؤخراً أسلوب الدخول من جدارن المنازل بعد تدميرها وتفجيرها، مبتعداً عن خطر الأزقة المزروعة بالعبوات، والمزروعة بمقاومين يتربصون قدومه. 

اللوحة الثالثة: دالية مشارقة  

-1-

تتوسط حارة "جورة الذهب" في مخيم جنين، رقعة خضراء، تكاد تكون الوحيدة في الحارة؛ دالية عائلة مشارقة. لقد داهمها الخريف مبكراً هذه المرّة، فأوراقها صفراء، ولا قطوف تتدلى منها. 

أذكر هذه الدالية جيداً. في 27 كانون الثاني/ يناير 2023، جلست تحتها مع محمود مشارقة، وقد أخذ يحدثني كيف سحبوا جثمان الشهيد عز صلاحات، الذي ارتقى مشتبكاً بالقرب من البيت، وكيف حاولوا إسعافه قبل أن يستشهد بين يديهم. 

اقرؤوا المزيد: "لم أرَ مثل ذلك في حياتي من قبل".. جنين في يوم المجزرة

لم يكن عز غريباً عن العائلة، بل صديقاً مقرباً لابنهم جمال، الذي تلقى خبر استشهاد صديقه وقتها وهو يؤدي مناسك العمرة. عاد جمال، ابن الـ 21 عاماً، ممتلئاً بثأر صديقه. يقول والده محمود لـ متراس: "كان جمال عارف طريقه ودربه وين رح يوديه، ترك وصية خلفه، أوصى صحابه على الصلاة والجهاد، وأوصانا نبني مسجد"، ثمّ يعلّق الوالد: "لو أبيع كل ما أملك رح أبني لجمال المسجد".  

دالية العنب أمام منزل مشارقة يظهر فوقها بوستر معلق يحمل صورة الشهيد جمال مشارقة. (تصوير: شذى حماد/ متراس)

لقد كان جمال يكرر على مسمع والدته، الآية 170 من سورة آل عمران: "فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ"، ثم يجلس بقربها ويهمس: "ادعيلي اني استشهد"، فترد عليه: "والله ما بسامحك، إنت عكازتي، إنت كل أملنا، إنت أبونا وأمنا بس نعجِّز أنا وأبوك". لكنه كان يجيب: "أنا بدي استشهد وألحق أصحابي". 

مثل داليته، يبدو محمود مشارقة، لا يشبه ذلك الذي قابلته العام الماضي، تعباً ومنهكاً، امتلأ رأسه شيباً، وعيناه متورمتان من البكاء. يقول محمود: "قصفوا جمال وأربعة مقاومين أثناء اشتباكهم مع قوات الاحتلال خلف بيتنا.. استشهدوا الشباب، وتصاوب جمال إصابة خطيرة"، لكنه بعد 10 أيام، في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، استشهد.

-2-

لم يحتمل ميسرة رحيل ابن عمه ورفيقه في كل اشتباك، جمال، وهو الذي وعده ذات يوم: "وعد إذا استشهدت لألحقك". وفعلاً، بعد تسعة أشهر، وفّى ميسرة بوعده. 

في 30 آب/ أغسطس الماضي، قرّر ميسرة وعدد من المقاتلين الانسحاب من المخيم والاشتباك مع قوات الاحتلال من خارجه. قال لعمه محمود: "الهجمة شرسة، وامكانياتنا ما بتسمح نبقى في المخيم". قرابة الساعة الخامسة عصراً، حمل اتصال جاء لعمّه، نبأ استشهاد ميسرة ورفيقيه عرفات عامر ووسام خازم، بعد استهداف مركبتهم في بلدة الزبابدة بطائرة مسيرة، ثم محاصرتهم والاشتباك معهم. ينقل محمود عن رواية شاهد عيان: "كان ميسرة مصاب لمّا اقترب منهم أحد الجنود، ولمّا تأكد منه أطلق عليه النار من مسدس يحمله". ولم يغادر جيش الاحتلال المنطقة، إلا باحتجاز جثامين الشهداء الثلاثة. 

"هو من أروع الناس، من المقاتلين العنيدين، معدنه نظيف وجيبته نظيفة، دائم الصيام والصلاة وصادق في عمله"، يقول عمه. وقد كان ميسرة أحد قادة كتائب الأقصى في مخيم جنين، واعتقل في سجون الاحتلال لمدّة ثماني سنوات. خلالها، توفي والده دون أن يتمكن من وداعه. وبعد تحرره بعام، عاد ميسرة ليصبح أحد المطاردين، إذ استمرّ الاحتلال في ملاحقته لمدّة ثلاث سنوات، لم يستقر ميسرة خلالها مع أطفاله الأربعة، ولم ينم ليلة واحدة معهم، وحُرم أيضاً من الاعتناء بوالدته المصابة بالسرطان، فقد كان وحيدها من الذكور. 

جمال وميسرة، من عائلة قدمت منذ انتفاضة الأقصى نحو 50 شهيداً. ومنزل العائلة الذي ما زال يستقبل من يواسيهم على فقدان أبنائهم، كان حضناً يأوي إليه عشرات المطاردين، يشعلون النار في الشتاء البارد ويتجمعون حولها، هنا في هذه الساحة، حيث يتجمع الناس معزين باستشهاد ميسرة، الذي يقول عمّه: "كان الناس تعيد في الأعياد، وهو يحمل البارودة ويطلع مع الشهيد محمد الزبيدي يروحوا يعيدوا على الجيش، يطخوا على الحواجز، ويرجعوا يقولوا: هيك عيدنا". 

اللوحة الرابعة: أحفاد أبو رياض

على بعد 2.5 كم من مخيم جنين، تحولت الحارة الشرقية في مدينة جنين إلى ميدان معركة آخر، إذ زرعت المقاومة شوارع الحي وأزقتها بالعبوات والمتاريس، وكمن المقاومون للاشتباك مع جيش الاحتلال، الذي ركز عمليته العسكرية في الحارة طيلة الأيام العشرة منذ منذ 28 آب/ أغسطس - 6 أيلول/ سبتمبر الجاري، والتي انتهت بتدمير واسع في بنيتها التحتية ومنازلها ومحالها التجارية وهدم جدران في مسجد خالد بن الوليد الذي يتوسط الحارة. وحسب الدفاع المدني، فقد قُدّرت المساحة التي دمرها جيش الاحتلال في جنين بنحو 25 كيلو متراً. 

أينما تلتفت عيناك في الحارة، لا ترى إلا الدمار والخراب: المقبرة، المنازل، واجهات المحال التجارية، المركبات، جدران المسجد، وحتى قفص الدجاج. ولا تُقدِّر حجم الدمار، إلا بعيون أهالي الحارة الذين تحولوا إلى خلية نحل، تسابق الزمن في إصلاح ما دمرته آلة الخراب، وهم الذين يعرفون جيداً أن عودتها ستكون قريبة. 

كنت أصعد الشارع المحفّر باتجاه منزل شهيد الحارة، توفيق قنديل (82 عاماً)، وفي كل خطوة كان الناس يشاركونني ما أصابهم. يقول طفل غاضب على تدمير قفصه الذي كان يربي فيه الدجاج: "قتلولي 55 دجاجة و15 ديك، نفسي أمسك عصاة وأنزل ضرب بـ D9 حتى أكسرها". ويقول شاب: "دارنا واقفة على رحمة الله، بأي وقت ممكن تسقط"، واستدرك بما يكرره أهالي الحارة: "صح بنتقموا منا ومن بيوتنا، بس هاد حجر بنبنى وبتعمر، المهم سلامة الشباب.. كله فدا المقاومة".

أربعة من أحفاد الشهيد أبو رياض يجلسون أمام منزله حيث تستقبل العائلة المعزين. (تصوير: شذى حماد/ متراس)

وصلت أخيراً لمنزل الشهيد توفيق (أبو رياض)، فاستقبلني عدد من أحفاده الذين يتجاوزون الـ 40 حفيداً من أبنائه وأبناء أبنائه. فيما كانت الجدة آمنة تجلس في منتصف صالون الضيوف، ممسكة بمسبحتها ومتمسكة بابتسامتها، تستقبل المعزين، وتحكي لهم عن استشهاد زوجها الذي ذهب باحثاً عن الخبز، فعاد إليها شهيداً. "أبو رياض كان ما في أحسن منه"، تقول آمنة لـ متراس.

بعد 76 عاماً، لحق أبو رياض بجده يونس قنديل الذي ارتقى شهيداً برصاص الانتداب البريطاني، في قريته سيدنا علي (الحرم) التي كان يغني لها أبو رياض يومياً مواويله، ويسأل الله: "متى يا ربي على بلادنا بنعود". تقول حفيدته تجويد لـ متراس: "كان سيدي يضل يحكيلنا عن قريتنا سيدنا علي، كان يحكيلنا إنه إلنا بيارات فيها.. والسنة الماضية قررت أزورها أنا وأبوي، ورحنا على قبر سيدنا الشهيد يونس".  

رحل أبو رياض قبل أن يعود، لكنه رحل بيقينه أن المقاومة وحدها من ستعيدهم. يقول أحد شبان الكتيبة لـ متراس، إن أبو رياض كان يُردد التكبيرات، منتصراً للمقاومة بتكبيراته، فأعدمه قناصو الاحتلال بتسع رصاصات. رحل أبو رياض، وترك خلفه 40 حفيداً، محملين بأمانة العودة.