على امتداد قرن من الزمن، شكّل ملف الطاقة للحركة الصهيونية ثم للدولة "الإسرائيلية"، محوراً أساسياً في سياساتها الاقتصادية والأمنية، من احتكار توليد الكهرباء في عهد الانتداب البريطاني، إلى السيطرة على حقول النفط والغاز وتطوير شبكة طاقة منفصلة عن محيطها العربي. ومع تراكم الخبرات والمشاريع والتحالفات، تحوّل هذا الملف من أداة لتأمين الاحتياجات الداخلية إلى ورقة استراتيجية للنفوذ الإقليمي، مكّنت "إسرائيل" من فرض معادلات جديدة في أسواق الطاقة، وربط مصالحها مع دول المنطقة والعالم في شبكة معقدة من الإمدادات والتحالفات.
"لن يمد العرب الكهرباء لفلسطين"
في عام 1921، وقف رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل مدافعاً عن قرار منح شركة "كهرباء فلسطين المحدودة"، التي أسسها اليهودي بنحاس روتنبرغ، الامتياز الحصري لإنتاج وتوزيع الطاقة الكهربائية، قائلاً: "لن يتخذ العرب في فلسطين خطوات فعالة نحو ريّ فلسطين وكهربتها ولا بعد ألف عام". كان ذلك بالنسبة لتشرشل مبرراً لمنح الحركة الصهيونية سلسلة من العقود الكبرى، والسماح لها بالاستحواذ على موارد طبيعية وجغرافية متعددة، بينما رأت الحركة الصهيونية في كل عقد خطوة نحو تأمين إمداداتها وتعزيز وجودها على الأرض في مواجهة التجذر الفلسطيني.
تأسست شركة كهرباء فلسطين في عام 1923، وكانت تعتمد في بداياتها على الفحم لتوليد الطاقة. بعد النكبة، تغير اسمها إلى "شركة كهرباء إسرائيل"، وأخذت تتجه نحو مشاريع الطاقة الشمسية بهدف إنشاء شبكة طاقة مستقلة عن الدول العربية وتعزيز الاكتفاء الذاتي.
أما محاولات التنقيب عن النفط فبدأت في عام 1947 في السهل الساحلي الجنوبي، ثم في أوائل الخمسينيات توالت اكتشافات وتطوير حقول النفط وآبار الغاز لتصل إلى حوالي 480 حقلاً وبئراً، سواء في البر أو البحر. ومع ذلك، كانت الكميات المستخرجة غير كافية لتلبية الطلب المحلي المتزايد أو لتحقيق جدوى اقتصادية في التوريد. لكن، بعد نكسة 1967، استولت "إسرائيل" على حقل أبو رديس في سيناء واستخرجت منه كميات كبيرة من النفط، إضافة إلى آبار غاز أخرى.
اقرؤوا المزيد: جُندٌ وجوعٌ وجراد.. فلسطين في عام النفير
على مدار تلك الحقبة، كانت الاستراتيجية الإسرائيلية ترتكز على تعزيز الاكتفاء الذاتي من خلال الفحم الحجري والطاقة الشمسية، حتى حدث حصار النفط العربي في عام 1973، الذي أحدث تغييراً جذرياً وجعل الطاقة أداة للأمن القومي والسيادة الجيوسياسية، مما أدى إلى منع الدول العربية من التحكم في أمن الكيان وعلاقاته ومستقبله. نتيجة لذلك، تم إنشاء "الهيئة الوطنية لأمن الطاقة" التي ربطت رؤيتها بالتخطيط العسكري والمدني، ليصبح ملف الطاقة من مسؤوليات مجلس الأمن القومي.
كما أطلقت "إسرائيل" مجموعة من المشاريع المحلية والإقليمية لتنويع مصادر الطاقة، بما في ذلك "البرنامج الوطني لتطوير الطاقة الشمسية" ومشروع أنابيب "إيلات – أشكلون"، الذي استخدم كمسار بديل لنقل النفط دون الحاجة إلى المرور عبر قناة السويس، بالإضافة إلى توقيع اتفاقيات سرية مع شركة النفط الوطنية الإيرانية (NIOC) بمساعدة من جهات أوروبية، وبدء إنشاء احتياطي استراتيجي من النفط والوقود في مرافق تحت الأرض في صحراء النقب، لضمان تدفق الإمدادات لعدة أسابيع خلال فترات الحرب أو الحصار.
تجلت أولى بوادر التوسع الإقليمي بعد إبرام اتفاقية "كامب ديفيد" مع مصر، التي سعت "إسرائيل" من خلالها إلى تحقيق تنسيق طاقوي يفوق في أهميته التنسيق الأمني والاستخباراتي. تم ذلك عبر تأسيس خط أنابيب العريش – عسقلان، الذي أقرّت بموجبه اتفاقية عام 2005 تزويد "إسرائيل" بـ57 مليار متر مكعب من الغاز، مما يشكل 40% من احتياجاتها المحلية، وذلك على مدى 15 عاماً. وبهذا، أصبحت مصر الرائدة بين الدول العربية في تصدير النفط والغاز من سيناء إلى "إسرائيل"، ملتزمةً بتوفير الدعم الاستخباراتي الفعّال لمواجهة أي تهديد محتمل.
"تمار" و"ليفياثان".. نقطة التحول
بين 1979 و2013، تحولت "إسرائيل" من دولة تعتمد على سلامة أنابيبها لضمان أمنها الطاقوي إلى قوة إقليمية مصدّرة للغاز الطبيعي، قادرة على فرض التطبيع الاقتصادي على محيطها وابتزازه بفضل احتياطياتها التي تفوق الإمدادات المصرية. جاء هذا التحول، أولاً، بعد اكتشاف حقل "تمار" في عام 2009، الذي بدأ الإنتاج في أوائل 2013، موفراً سبعة مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً، ما ضاعف قدرة القطاع المحلي على الطاقة لأكثر من 50 عاماً، وفتح المجال لـ"إسرائيل" للتصدير الإقليمي بدءاً بالأردن منذ عام 2016.

وجاءت النقطة الثانية في هذا التحول، بعد أقل من عام، حيث تحقق أكبر اكتشاف غاز في تاريخ "إسرائيل"، وهو حقل "ليفياثان" في عام 2010، الذي جعلها منذ بدء الضخ في عام 2019 دولة مصدرة رئيسية للغاز إلى كل من مصر عبر خط العريش، والأردن عبر شركة الكهرباء الوطنية، وجزئياً إلى أوروبا، مما عزز شعورها بالهيمنة المستقبلية وتفوقها على محيطها.
اقرؤوا المزيد: ماذا تكشف مذكرات كوشنر عن اتفاقيات التطبيع؟
وبوتيرة مدروسة، تغيرت الاستراتيجية الإسرائيلية لأمن الطاقة بين عامي 2000 و2020، وفق مسارين أساسيين: الأول، بناء بنية تحتية دفاعية للطاقة تقوم على افتراض الحرب والهجوم كأساس في أي تخطيط حضري أو معماري للطاقة ومساراتها؛ والثاني، تحويل أمن الطاقة من هاجس قطري إلى إجماع إقليمي من خلال سلسلة تحالفات إقليمية جعلت الطاقة عنوانها الرئيس.
فقبل عام 2006، كانت الهندسة الإسرائيلية لتوزيع الطاقة تعتمد على ربط مساحات جغرافية واسعة بنقطة طاقة واحدة محمية، لكن حرب 2006 شكّلت نقطة تحول استراتيجي، بعدما أثبتت صواريخ حزب الله قدرتها على تهديد البنية الطاقوية الحيوية. وعليه، أُعيد تعريف مواقع الطاقة باعتبارها "أهدافاً استراتيجية سيادية" تستحق حماية تعادل مفاعل ديمونا أو مطار بن غوريون.
اقرؤوا المزيد: هكذا تحوّلت الضفة إلى قوة احتياطية لـ "إسرائيل"
إثر ذلك، عدلت "إسرائيل" خرائط بناء محطات الغاز في عسقلان والخضيرة وحيفا وإيلات، وأحاطتها بأسوار خرسانية مضادة للشظايا، وبنت ملاجئ طاقوية تحتها، وربطتها بأنظمة تحكم عن بُعد، كما دفنت معظم أنابيب الغاز وربطتها بأجهزة إنذار واستشعار. ومع اكتشاف حقول تمار وليفياثان، صُممت المنصات الطاقوية وفق هندسة أمنية حربية، تضمنت مناطق أمنية بحرية مغلقة وزوارق حربية وغواصات ورادارات، إضافة إلى أنظمة دفاع جوي بحرية.

كما أطلقت "إسرائيل" مشروع "جزر الطاقة"، الذي يقوم على تقسيم الحقول والمنصات إلى وحدات إنتاج ونقل متعددة مرتبطة بأنظمة متشابكة، مع تنويع مصادر الوقود الاحتياطي، بما يتيح التحول الفوري بين مصادر الطاقة في حال تعطل أي منها. وبالتوازي، سعت إلى بناء "قبة حديدية إقليمية" عبر تحالفات تجعل أمن الطاقة هدفاً مشتركاً.
وكان "منتدى غاز شرق المتوسط" أول هذه التحالفات، وقد عُقد في القاهرة عام 2019 بمشاركة مصر وقبرص واليونان والأردن والسلطة الفلسطينية وإيطاليا و"إسرائيل"، وتطور من مؤتمر إلى منظمة دولية لتنسيق إنتاج وتصدير الغاز ومد أنبوب بحري نحو أوروبا، بدعم مالي أميركي، في مواجهة الاتفاق البحري التركي – الليبي.
"إسرائيل" المستفيدة الوحيدة
مطلع العام 2020، وقّعت "إسرائيل" ودول عربية "اتفاقيات أبراهام"، التي رافقتها مشاريع طاقة إسرائيلية – إماراتية، منها إعادة إحياء خط إيلات – عسقلان لنقل النفط الخليجي إلى أوروبا، ومشروع "الكهرباء مقابل الماء" الذي جمع الإمارات والأردن و"إسرائيل"، إضافة إلى مذكرات تفاهم لضخ استثمارات إماراتية في قطاع الطاقة الإسرائيلي، واستخدام موانئ البحرين والإمارات لتصدير الغاز المسال، وصولاً إلى مشاريع ربط كهربائي غير معلنة مع السعودية.
ومطلع عام 2023، برز مشروع "الممر الاقتصادي" بين الهند وأوروبا عبر الخليج و"إسرائيل"، لكن عملية "طوفان الأقصى" وما تبعها من تصعيد مع "المقاومة الإسلامية" في لبنان، وهجمات صاروخية وحصار بحري من "أنصار الله" باليمن، فضلاً عن التصعيد مع إيران، وضعت أمن الطاقة الإسرائيلي أمام اختبارات صعبة.
اقرؤوا المزيد: ماذا تكشف مذكرات كوشنر عن اتفاقيات التطبيع؟
ونتيجة لذلك، أطلقت "إسرائيل" نسخة محدثة من مشروع "جزر الطاقة" لتشمل المشافي ومضخات المياه وأنظمة الاتصالات، مع قدرة فصلها عن الشبكة الوطنية للعمل بشكل مستقل خلال الأزمات. وبدأت تطبيق المشروع في مستوطنة "أفيفيم" وبلدات الجنوب، وروّجت له كتقنية للتعاون الإقليمي.
كما منحت "إسرائيل" في آذار/ مارس 2025 تراخيص استكشاف غاز قرب ليفياثان لشركات محلية وأجنبية، ورفعت صادرات الغاز لمصر والأردن، وحصلت على دعم أوروبي وأميركي لخط "أنابيب شرق المتوسط". وفي أيار/ مايو 2025، وقّعت اتفاقاً لربط كهربائي تحت البحر مع قبرص، ضمن مبادرة لربط آسيا والشرق الأوسط وأوروبا.

أما الربط البري، فقد تحقق عبر ممر يربط موانئ الإمارات والبحرين بإيلات، مروراً بالسعودية والأردن، مختصراً زمن نقل الطاقة والبضائع من 14 إلى 4 أيام، ومتجاوزاً تهديدات البحر الأحمر. وفي هذا السياق، تتوقع "إسرائيل" انضمام دول جديدة لمسار التطبيع، مثل السعودية وسلطنة عمان وسوريا، بما يمنحها فرصاً أوسع للهيمنة على قطاع الطاقة إقليمياً.
اقرؤوا المزيد: "إسرائيل" - الإمارات وبالعكس.. تحالف ضدّ من؟
في خطاب له، في تموز/ يوليو 2025، تفاخر نتنياهو بخططه، قائلاً: "سنربط آسيا والشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية بمصادر الطاقة الهائلة التي تمتلكها، مع الغرب. نحن نعتزم تعزيز قدرات إسرائيل في مجال الطاقة. لدينا قدرة هائلة". وكان في خطابٍ سابق له في أيلول/ سبتمبر 2023 قد وصف الممر الاقتصادي في قمة العشرين عام 2023 بأنه أكبر مشروع تعاون في تاريخ "إسرائيل"، مؤكداً أنه سيساهم في تغيير وجه "إسرائيل" والشرق الأوسط والعالم بأسره.
تتجاوز الطاقة -وفق الذهنية الإسرائيلية- مفاهيمها التقليدية من خطوط الإمداد وكميات التخزين والاحتياطيات المستقبلية، لتغدو خارطة أخرى من خرائط التوسع المتواصل، تُقاس بها قوة اليوم ونفوذ الغد، وحدود سيطرة وُجدت لتطالب دوماً بالمزيد، أملاً في تجاوز العقد الثمانين، بأكثر من مجرد دولة، بل بكيانٍ مهيمن على مسارات الطاقة بين الشرق والغرب، يحركها وفق معادلات أمنه وإيقاعه، ويرسم بها جغرافيا جديدة بالنار والوقود والاتفاقيات لتثبيت حضورٍ يتجاوز حدود البلاد وعمق البحار وخيالات المستقبل.