29 أكتوبر 2025

حين عرفت الله لأول مرة في السجن

حين عرفت الله لأول مرة في السجن

لا يدرك السجّان، أن الجدران حين تُغلق على الجسد، قد تفتح أبواباً أخرى في القلب، أبواباً لم يكن الأسير يعرفها من قبل. فهناك، في الزنازين الباردة، يتعلّم الإنسان عبادة نادرة: عبادة التأمل، العبادة التي تغيب وسط صخب الحياة، تتجلى هنا بكل قوتها. 

في الزنزانة، يجد الأسير نفسه وجهاً لوجه أمام أعماقه، يقرأ صفحة الروح كما يقرأ كتاباً مفتوحاً. يتحدث إلى الله بلا موعد، وبلا خطط. حديثاً صافياً، كأنه أول لقاء به وكأن الله أقرب من قيوده، ومن دمه، ومن كل نفس يتردد في صدره.

في السجن، يصبح الدعاء حياة، كأن النفس حين يخرج يدخل معه "يا الله" دون أن تشعر. تصير دموعك صلاة، وصمتك تسبيحاً، ونبضك ذكراً. حتى الشهيق والزفير يتحوّلان إلى تواصل مستمر مع الخالق، كأنك لم تعد بحاجة إلى رفع صوتك، لأنه معك، وفيك، لا يغيب عنك لحظة، حينها تدرك أن صلتك بالله لا تحتاج إلى وسيط، وأن أقرب الطرق إلى السماء يبدأ من قلبك المقيّد.

اقرؤوا المزيد: ثقب "سديه تيمان" الأسود

في الزنزانة، يتعرّى القلب من كل ما يلهيه، فلا يبقى للأسير إلا صمته وذاكرته وخالقه. هناك، في العتمة، تتفتّح أبواب الفهم الداخلي، ويصبح الصمت مدرسة، والانتظار صلاة، فيكتشف الإنسان أن الظلام الذي يحيط به ليس عدواً، بل مرآة تكشف له خبايا نفسه. ففي صمت الليل الطويل، حيث لا ضوء إلا نور داخلي خافت، يتعلّم الأسير معنى السكينة، وأن القوة الحقيقية لا تأتي من السيطرة على الخارج، بل من القدرة على ضبط الداخل. 

كل تسبيحة، كل آية تُحفظ عن ظهر قلب، تصبح جسراً بين الروح والخالق، وبين الألم والأمل، وكأن السجن ذاته يصبح محراباً، والحديد سقفاً للسكينة، والجدران معراجاً للروح.

يتعلّم الأسير معنى الأنس بالله: كيف يكون وحده لكنه لا يشعر بالوحدة، كيف يرى في القيود حرية، وفي العُزلة صحبة، وفي الظلام نوراً، تتضح له حقيقة أن الصلاة حالة وجدانية، وتجربة داخلية تعيد ترتيب قلبه وعقله. 

كنز الزنزانة

كل لحظة تمرّ عليه في الزنزانة تصبح تدريباً على الصبر، على الحب الغائب في الخارج، على التسليم الكامل لله، على أن يترك كل شيء بيد الخالق، وأن يرى كل ألم مدرسةً لتربية الروح.

وهكذا، في قلب القيد، يتعلّم الأسير أن الحرية الحقيقية لا تُقاس بما يملك من حريات جسدية، بل بما يمتلكه من صفاء داخلي، وما يحققه من اتصال حقيقي مع الله، اتصال لا يُقطع، لا يُشترى، ولا يُباع، اتصال يبقى معه مهما عزلته الجدران، ومهما خانته الأشياء من حوله.

اقرؤوا المزيد: صلاة بأطراف الرموش في "سدي تيمان" 

أثمن ما تجده في الزنزانة، شاب يحفظ كتاب الله عن ظهر قلب. يجتمع حوله الأسرى في حلقة صغيرة، فيغدو قارئاً ومفسِّراً، معلّماً ومؤنساً. يقسِّم النهار بين تلاوة وتدبّر، والليل بين دعاء وقيام. 

وهكذا، يتحوّل الجدار البارد إلى محراب، والمكان الضيّق إلى فضاء رحب، تفتحه الآية كنافذة على السماء، فيغدو السجن برغم قيوده، مدرسة للروح، ورغم ظلمته محراباً من نور.

العبادة ليست وحدها ما يولد في السجن، فالمحروم من الكتب يحوّل الجدار المهترئ إلى دفتر، والخدش على الحجر إلى مكتبة. يكتب ما يستطيع، يحفظه في قلبه، ثم يورثه لرفاقه. هناك حيث يظن السجّان أن العقول تُكسر، تتفتح ينابيع الإبداع، ليصير السجن - على قسوته - معهداً للروح والفكر معاً.

معرفة من العدم 

خلال تجربتي في سجني عوفر والنقب، عايشت كيف تُخلق الجامعات من العدم في الزنزانة: دروس في اللغة، محاضرات في التاريخ، حلقات في السياسة، حتى دروس في الفيزياء والرياضيات. أسير يعلّم رفيقه الأبجدية من خلال الخربشة على الأرض، وآخر يشرح قواعد النحو بآيات القرآن، وبعضهم يتعلم لغات جديدة ليتواصل مع العالم حين يعود. آخرون ينظمون الشعر كأن الكلمات أجنحة تُخرجهم من الجدران، أو يغنون بأصوات خافتة في الليل ليكسروا هذا الصمت المطبق.

السجن الذي أراده الاحتلال مقبرةً للعقول، يصبح مصنعاً للوعي. كل جلسة نقاش بين الأسرى تتحوّل إلى درس في الصمود. كل حكاية عن الوطن تنقش في القلوب عهداً بالعودة. وحتى النكات والضحكات التي يتبادلونها رغم القيود، ليست سوى سلاح آخر ضد القهر، إعلان صريح أن الروح لا تهزم، وإن أُحكم القيد عليها.

في السجن، تُولد ثقافة المشاركة من رحم الحاجة؛ رغيف خبز يُقسم بين ثلاثة، غطاء واحد يدفئ جسدين، حبة دواء يتقاسمها من هم أشد حاجة، كأس ماء تتنقل بين الأيادي على دفعات. هناك، تتأسس حياة كاملة على التضامن، يدرك كل أسير أن بقاءه مرتبط ببقاء رفاقه، وأن توحدهم أقوى من عزلتهم.

اقرؤوا المزيد: صراخي لم يسمعه أحد.. عندما أغلقوا عليّ نعش السجن

اقرؤوا المزيد: عندما أكلنا خضاراً محشوة بالدُّود في "سدي تيمان"

وليس التضامن مادياً فقط، بل عاطفياً أيضاً، كلمة مواساة قد تنقذ أسيراً ينهار، وضحكة خفيفة قد تُعيد الروح لوجهٍ غلبه الحزن. وفي لحظات الألم، يصبح كتف الرفيق وطنك المؤقت، وصوته بيتك، وعينه نافذتك الصغيرة نحو الحياة.

ومع الوقت، يكتشف الأسير أن السجن لم يكن قهراً فحسب، بل كان تهيئةً لأن يرى الله بوضوح أشد. أن يفهم أن الحواجز الحقيقية لم تكن في الجدران، بل في انشغالنا وضجيجنا في الخارج. 

هنا، كل شيء يُسحب منك: الحرية، العائلة، الأصدقاء، الكتب، حتى الهواء النقي. لكن شيئاً واحداً لا يستطيع الاحتلال أن يسرقه: إيمانك، وعندما يتعرّى الإنسان من كل شيء، لا يبقى أمامه إلا أن يرى الله بصفاءٍ لم يعرفه من قبل.

في تلك اللحظات، يُعاد ترتيب الأولويات. لم تعد الأحلام الكبيرة تشغلك بقدر اللحظة الخالصة مع الله. لم تعد التفاصيل اليومية في الخارج تلهيك، حيث كنت تنشغل بالكثير من الملهيات والصغائر. 

ولادتنا الجديدة 

هنا، في العزلة، تتجلى لك الأبصار، فتتكشف لك الحقيقة الكاملة للروح، وتدرك أنك وُجدت أصلاً لتظل على صلة بمن خلقك، وأن كل ما كان يشغلك في الخارج كان مجرد ستار يحجب عنك الجوهر الحقيقي.

السجن الذي أراده الاحتلال قبراً، يتحول أحياناً إلى مهد جديد. مهد لعقل أنضجته التجربة، لقلب صقلته المعاناة، ولروح تعلمت أن ترى الله وجها لوجه. من هناك، يخرج الأسير أكثر وعياً، وأشد صفاءً، وأوثق ارتباطاً بقضيته وإيمانه. 

يخرج الأسير وهو يعرف أن الحرية ليست فقط غياب القيد عن الجسد، بل حضور النور في القلب، فالزنزانة التي خُصصت لكسر الأسرى، تصبح مكاناً لرؤية الله أول مرة بصفاء كامل. مكاناً يدرك فيه الأسير أن الروح لا تُقيّد، وأن القلب حين يخلص، يفتح لنفسه نافذة على السماء لا يستطيع أي سجّان أن يغلقها.

اقرؤوا المزيد: وحوش بزي أطباء.. شهادتي عن سجن "سدي تيمان"

وهكذا، تكشف الزنزانة أسرارها لكل من يختار أن يرى، كل نور، كل بصيرة، كل تجلٍ للروح، لا يحدث إلا إذا قررت أنت أن تتجاوز الحزن والهم، وأن لا تستسلم لليأس، فالقيود والجدران، والضيق والألم، لا تملك أن تمنعك من الوصول إلى صفاء قلبك، إلا إذا تركت لها السيطرة عليك، فالعلاقة بالله، وحضور الروح، وتجلّي البصيرة، كلها ثمرات اختياراتك الداخلية. 

من قرر أن يرى، رأى؛ ومن رفض الانكسار، وجد طريقه إلى الصفاء؛ ومن أبى الاستسلام، اكتشف أن كل ألم يمكن أن يتحول إلى محراب، وكل قيد إلى جسر يقوده نحو ذاته وإلى خالقه. 

في النهاية، الحرية الحقيقية هي نور القلب وصفاء الروح، والإرادة التي تجعل من الزنزانة مدرسة للحكمة، ومن كل لحظة ألم باباً مشرعاً إلى الله.