قصفت أميركا سيّارة قائد فيلق القدس الإيرانيّ قاسم سليماني، وهو الرجل الذي أشرف على هندسة مشروع إيران التوسعيّ في المنطقة، والذي مكّنها من مدِّ يديها إلى أربع عواصم عربيّة، فتقلِبَها رأساً على عقب، وتُمزِّق نسيجها الاجتماعيّ، وتساهم في منع تطوّر حراكها الشعبيّ التواق للحريّة، لصالح حماية نفوذها وتحقيق مصالحها.
في العراق تحديداً، المكان الذي قُتِل سليماني فيه، كانت إيران تُنَسِّق مع الأميركيين لـ "تنظيف" الأماكن التي أَبْدَت مقاومةً للاحتلال الأميركيّ والهيمنة الخارجيّة، وصولاً إلى الموصل التي أشرف سليماني بنفسه، ومن خلال قوات الحشد الشعبيّ، على مسحها عن بكرة أبيها، بتنسيقٍ وغطاءٍ من الطيران الأميركيّ.
ومن تناقضات الواقع السياسيّ وتركيبه المُعقد أنّ سليماني هو أيضاً الجنرال الذي دعم المقاومة الفلسطينيّة في غزّة، وساهم في تدريب وتسليح كوادرها وقدّم لها المشورة العسكريّة. بدأت العلاقة بين إيران والمقاومة الفلسطينيّة مُبَكِّراً، منذ الثورة الإيرانيّة. لاحقاً راكمت "حماس" على هذه العلاقة، التي بدأتها منظمة التحرير، وخاصّة ما بعد عام 2006، وصولاً إلى عام انطلاقة الثورات العربيّة 2011. ومع احتدام الثورة السوريّة، قررت "حماس" الخروج من سوريا1كما أنّها دعت "حزب الله" للخروج من سوريا حفاظاً على فكرة المقاومة.، وسجّلت موقفاً منحازاً للثورة، على الرغم من حاجتها الملحّة لهذا النوع من التحالف مع النظام السوريّ. أدّى ذلك إلى فتورٍ جديٍّ في العلاقة مع إيران، التي بدورها رأت في هذه الخطوة خروجاً عن محورها "الممانع".
إلا أن العلاقات عادت تدريجيّاً، وتحديداً بعد عام 2014، بعد نكسة الثورات العربيّة في سوريا ومصر بالأخصّ، وهي الأماكن التي عوّلت "حماس" على نجاح ثوراتها. هنا برز دور سليماني باعتباره أحد الداعمين لإعادة إحياء تلك العلاقات. بالتوازي مع هذه العودة، لم تُغيّر "حماس" موقفها من قضايا المنطقة، كما أنّها لم تشارك في أيّ من صراعاتها، وحافظت على رؤيتها السياسيّة القائمة على العمل داخل حدود فلسطين فقط، والتركيز في الدفاع عن المنطقة المسؤولة عنها وضمن حدود قدراتها وإمكاناتها.
في المقابل، كانت "حماس"، بوصفها حركة تحرّر، وبوصفها كذلك سلطة تحكم قطاع غزّة، تقف أمام مسؤولياتٍ وتحديّاتٍ مباشرة وملحّة، وتسعى إلى إعادة ترميم العلاقات التي تضمن استمرار دورها النضالي. جاءت هذه العودة للعلاقات مع "إيران" في الوقت الذي أصبحت فيه "حماس" تُحاصر من كلّ جهة، وفي كلّ مكان، وتُجفّفُ مصادر تمويلها، وتُطارد كوادرها وقياداتها في الدول العربيّة (مؤخراً اعتقلت السعودية عدداً من أنصار "حماس" وكوادرها، إضافة إلى التضييق على خطوط تمويلها هناك).
عن الأخلاق الطائرة
عقب تعزية "حماس" و"كتائب القسّام" في مقتل سليماني، ومشاركة قياداتها في جنازة الرجل، انطلقت موجةٌ من الانتقادات، عبّر عنها عددٌ من أنصار الثورات العربيّة وأبنائها، وغيرهم من العرب والفلسطينيّين كذلك، تنوّعت بين العتب والمزاودة. ليست هذه المرة الأولى التي توضع فيها العلاقات بين إيران وحركة "حماس" موضع النقد، إلا أن ما تطوّر مؤخراً، هو محاولة تصوير "حماس" والمقاومة الفلسطينيّة عامّةً كمتنكّرين لعمقهم العربيّ والإسلاميّ.
تعالت أصواتُ النقد وفق نظريةٍ في "الأخلاق" تحلّق في الهواء، يعجز من يطرحها عن الالتزام بها، فكل الناس أخلاقيّون في الصحراء، وكلّ شخصٍ يمكن أن يدعو إلى أرفع القيم إن كانت حدود فعله هي الكتابة على منصات التواصل الاجتماعيّ. أما حين يتعلق الأمر بمصير الآلاف من الناس المرهونين بخياراتك السياسيّة سواء في فلسطين أو سوريا أو غيرها، فإنّ أخلاقك ذاتها ستدفعك لأخذ خيارات قد لا تحبذها، في سبيل إنقاذهم.
ولو أخذنا هذه النظرية "الطائرة" عن الأخلاق، وحاولنا أن نفحص تحالفاتِ ثورتنا السوريّة2تحديداً العلاقة بأميركا، وليس ثمة حاجة للتذكير بدورها في منطقتنا خصوصاً تدمير العراق وأهله. ، فإنّنا قد نكون قُساةً عليها، وسنظلِمُها في وضع اشتراطات طهرانيّة على تحركها في سبيل خلق مساراتٍ للفعل وسط الحقائق الصعبة التي تواجهها.
تفتقر "الأخلاق الطائرة" لما تدعو إليه بالذات وهو "الأخلاق" بالفعل، كما ينقصها التواضعُ والصّدقُ والمعرفةُ بالواقع. ولذلك فإنّها غير أخلاقيّة في جوهرها؛ فمن يطالب "حماس" بالتخلي عن تحالفاتها القليلة المُتَبَقية (الوحيدة الملتزمة معها منذ سنوات)، فإنّه يطالبها بالتخفّف من أدوات قوّتها، وبالتالي من حماية أهلها وناسها لصالح أن تتماهى مع نظريته، وهو أمر غير أخلاقيّ بالمحصلة؛ فلن تقاتل "حماس" في حربها القادمة بـ"بوستات الفيس بوك". هذا بديهيّ، إلا أنه لا يبدو كذلك اليوم!
إنّ الواقعةَ الحزينة التي خلقت وضعيةَ النقاش الذي نخوضه اليوم هي هزيمة الثورة السوريّة. والهزيمة من لعنتِها قادرةٌ على أن تحوّل السّياسة فينا إلى محض غضب وعُصاب، وهي تُنتَج من "السيكولوجيا" أكثر مما تنتج من السّياسة. وما مَشاهدُ الفرح من أنّ عدوّنا قد أخذ ثأرَنا من عدوِّنا إلا مشاهد كاشفة عن هذا التعب النفسيّ، وعن استحالة السّياسة إلى محض تشفٍ، وهذا مدعاة لحزننا على أنفسنا ومصائر إرادتنا أكثر منه مدعاة لفرحٍ جديّ بانتصار ما.
دفعت "حماس" ثمناً باهظاً بخروجها من سوريا وقت الثورة، وهو موقف سجلته الحركة في تاريخها معلنةً بأن تحالفاتها مع محور "الممانعة"، لن يُخضعها للابتزاز حين يتعلق الأمرُ باتخاذ موقفٍ وقتَ احتدام الأمور. بعد دخول المنطقة في نفقٍ مظلمٍ، بدأت "حماس" بترميم علاقاتها وفتح قنوات الاتصال مع إيران، خصوصاً في الجانب العسكريّ، دون أن يظهر أنّ هذه العلاقة قد وضعتها في خانة الارتهان، فهي ليست ذراعاً لإيران كحال معظم المليشيات التي تعمل كأذرعٍ للمشروع الإيرانيّ، بل هي حليف في مسألةٍ مُحددةٍ جداً وهي عداء "إسرائيل"، وهذه حدود هذا التحالف وذلك أفقه.
عن التحالف ومخاطر الانزلاق
إنّ هذا التحالف ليس تبادلاً للخدمات وليس تحالفاً نابعاً من حاجة محصورة بالدعم الماديّ على أهمّيته، وليس اضطراراً بالمعنى الضيّق (أكلاً لـ"لحم الميتة" بالتعبير الفقهيّ)، لأن تصوير الأمر على هذا النحو (تحت ضغط المزاودة) يغامر في وضعه في خانة "الارتزاق"، والأمر أبعد من ذلك بكثير: فهو تحالف جديّ ضدّ عدوٍّ مخصوصٍ ومشتركٍ. وفي ظلّ غياب أيّ حليفٍ استراتيجيٍّ جادٍّ في عداء "إسرائيل"، فإنّ "حماس" لا تملك خياراً آخر إذا أرادت تطوير قدراتِها القتاليّة في سبيل القيام بمهمتها في الدفاع عن معقلنا الأخير المقاوم لـ"إسرائيل"، خصوصاً في أجواء منطقة تتجه شيئاً فشيئاً إلى الحرب.
لقد قاتلت فصائل المقاومة الفلسطينيّة "إسرائيل" نيابةً عن الأمّة كلّها، وهي اليوم مأزومة في حدود قطاع غزّة تحاول رفع الحصار عنه (وغير قادرة على مساعدة الضفة الغربيّة حتى)، وأزمتها لا تنفصل عن مجمل الأزمات التي يعيشها وطننا العربيّ في سعيه نحو التحرّر. يقع عداءُ "إسرائيل" في قلب هذا التصور: "إسرائيل" عدوّ للمنطقة، وقتالها ليس مسألةً محليّةً أو وطنيّةً تتعلقُ بالفلسطينيّين فقط، وعلينا أن نذكّرَ بذلك دائماً. ومن الغريب في زمننا هذا أن تتحوّل الحقائقُ الراسخةُ إلى "كليشيه"، أو أن تُصنّف في أذهاننا -نحن أبناء فترة الثورات العربيّة- بوصفها فكراً كلاسيكياً يجب تجاوزه، لأن من يرى "إسرائيل" عدوّاً محليّاً يخصّ الفلسطينيّين وحدهم لا يفهم جوهر وجودِها ودورها في تطويع المنطقة وترسيخ الاستبداد. وفي حدود هذه المهمة - قتال "إسرائيل"- على الفصائل الفلسطينيّة أن تستعين بكلِّ من يمدّ يدَه لها، وتتقاطع في ذلك مع كلّ من يملك ذات الهدف، في إطار هذا الصراع، وفي إطاره فقط.
ولكن، يجب دائماً أن يتمّ التعبير عن تقاطع المصالح بما هو كذلك، وهذا التعبير ليس أمراً ثانويّاً على الإطلاق، بل هي مسألة يجب أن تكون محاطة بالحذر لأنها غير مفصولة عن حقيقة التحالف نفسه. من المهم التذكير بذلك لأنّ "حماس" تندلق في أحيانٍ كثيرة في سلوكها الإعلاميّ إلى درجة الاستهتار، فقاسم سليماني ليس "شهيدَ القدس" كما عبّر عن ذلك إسماعيل هنيّة، وليس المطلوبُ من موقفٍ سياسيٍّ أن ينزلق إلى صيغ عقائديّة تضفي طابعاً رسوليّاً على دور سليماني أو دور غيره. من المهم أن نذكّر هنا أن الرجل كان يعمل ضمن رؤية تناقض مفهوم الأمّة الذي تحمله "حماس" وتنتمي إليه، ولا أدلّ على ذلك من أن مئات الآلاف من أهلنا وناسنا في العراق وسوريا ولبنان واليمن يحملون ثأراً شخصيّاً مع الرجل ومع المشروع الإيرانيّ من خلفه.
ينسحب هذا النقدُ على بعض أنصار المقاومة الفلسطينيّة، ممن أخذتهم الحمية (حمية الجاهلية) في الدفاع عن هذه العلاقة حدّ التعالي على مشاعر الناس في وطننا العربيّ، والمطلوب فهم غضب هؤلاء وتقديره، لأنّه غضبنا أيضاً، إذ أنّ كلّ دم أُريقَ وكلّ أحلام تبخرت في محيط أمتنا بفعل هذا النفوذ الإيرانيّ، هي دماؤنا وأحلامنا نحن أيضاً، ولكنّ محدودية القدرة هي ما جعلت الظروف على شكلها الحالي.
وقد ارتكبت "حماس" ذات الخطأ قبل ذلك في بيانها المؤيد لعملية "نبع السّلام" التركيّة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وخلطت بين تقديم موقف سياسيٍّ وبين تأييدٍ مفتوحٍ لمعركة بدت عند "حماس" وكأنّها تكتسب وضوح الحقّ والباطل، إذ وصفتْ حينها تدخلَ تركيا بأنّه يضع حدّاً "لعبث الموساد بالمنطقة"، وهو ما لا تدّعيه تركيا نفسها، التي قدّمت العمليّة بوصفها دفاعاً عن أمنها القوميّ.
وما تحتاج "حماس" لتذكّره وتذكير حلفائها به هو أنّها تشتغل معهم، ولا تشتغل عندهم، وأنّ حاجتها إليهم قد لا تقلّ عن حاجتهم إليها، وأنّ التحالف بما هو تحالف لا يعنى التماهي، بل التأكيد على التمايز في قلب الاتفاق على المشترك، لأن هذا هو ما يحفظ لك احترامك، ولا يجعل خروجك من سوريا يوم خرجت محض نزوة أو ارتجال.