11 مارس 2019

حكومة اشتية

"فتح" تعود إلى الواجهة

"فتح" تعود إلى الواجهة

كلّف الرئيس الفلسطيني محمود عباس يوم الأحد 10 مارس/ آذار محمد اشتية وزير الأشغال العامة والسكان السّابق، وعضو اللجنة المركزّية لحركة "فتح" بتشكيل حكومةٍ فلسطينيّةٍ جديدةٍ، هي الحكومة الثامنة عشر بعد توقيع اتفاقيّة أوسلو.  جاء ذلك بعد أن أعلن رئيس الوزراء الأخير رامي الحمد الله في يناير/ كانون الثاني الماضي عن وضع استقالة حكومته -حكومة الوفاق الوطنيّ- تحت تصرف الرئيس،  وهي الاستقالة التي قبلها عباس بعد ساعات من إعلانها، وكلّف الحمد الله بتصريف الأعمال إلى حين تشكيل حكومة جديدة.

فتح تدخل من الباب هذه المرّة

منذ فوز "حماس" في الانتخابات التشريعيّة الفلسطينيّة في يناير/ كانون الثاني 2006، وتشكيلها للحكومة العاشرة، ثمّ سيطرتها على قطاع غزّة، توّسع نطاق المشاكل التنظيمية والبنيوية التي تُعاني منها "فتح". من جهة لم تستوعب حركة "فتح" موجات الصدمات التي بدأت منذ فوز "حماس" في الانتخابات التشريعيّة ولم تنتهِ بسيطرتها على قطاع غزّة بالقوة المسلّحة، ومن جهة ثانية، كانت قضايا الفساد التي أرهقت الحكومات التي شكّلتها "فتح" في السّابق تضغط على التنظيم بقوّة، وتهزّ من صورته أمام الداعمين والمانحين، مما جعل الاتحاد الأوروبيّ والولايات المتحدة يشترطان بأن تتولى وزارة المالية شخصياتٌ مستقلّةٌ أو غير محسوبة على السّلطة الفلسطينيّة سابقاً. من جهةٍ ثالثةٍ، لا ينفصل عن ذلك استياء الرئيس عباس من التنظيم وصراعات مراكز القوّة فيه، مما جعله يقلّص من حضور التنظيم في الملف الحكوميّ.

كلّ ذلك جعل التنظيم -أي فتح- يتراجع بشكلٍ كبيرٍ في المشهد السياسيّ الذي أعقب سيطرة "حماس" على قطاع غزّة، ففي العام 2007 كلّف محمود عباس سلام فيّاض بتشكيل حكومة من الكفاءات والتكنوقراط. عمل فياض حينها على تقليص حضور التنظيم بشكل واضح في ملفات الحكومة وخصوصاً الأجهزة الأمنية والوزارات، ثم تبعه رامي الحمد الله في الحكومة الخامسة عشر، والذي بقي مديناً لمحمود عباس وحده واصطدم أكثر من مرة بحركة "فتح".

لكن على خلاف رغبات محمود عباس السّابقة والحالية أيضاً، فإنّ حركة "فتح" أصرّت بشكلٍ كبيرٍ على تعيين رئيس جديد للوزراء يكون منها، بل ومن أعضاء لجنتها المركزّية، وذلك نظراً لحساسية الظرف التاريخي الذي تمر به السّلطة أولًا ومحمود عباس ثانياً، خاصةً في ظلّ مرض الأخير وشيخوخته التي جعلته يدخل المشفى عدة مرات في السنة الأخيرة، وظهور ملامح الإعياء الشديد عليه حتى في خطاباته التلفزيونية. في هذه الظروف، وفي حال شغور منصب الرئاسة، وفي ظل حل المجلس التشريعي، سيكون رئيس الوزراء هو الشّخصية الأولى في النظام السياسي الفلسطيني نظراً لكونه أعلى المناصب الموجودة وقتها، ولكونه مسؤولاً عن الأجهزة الأمنية ولديه الصلاحية لإجراء تعديلات وتغييرات بداخلها، ولكونه يشرف على الجسم الأساسي في منظومة السّلطة البيروقراطية، ولذلك أصرت "فتح" دوماً أن يكون رئيس الوزراء منها.

في ضوء ذلك، منذ شهر يناير/ كانون الثاني، أي منذ بداية السنة الحالية، بدأت حركة "فتح" بتحريك تنظيمها والشارع الفلسطيني باتجاه إقالة حكومة رامي الحمد الله -كما فعلت سابقاً مع حكومة سلام فيّاض-، مستغلة النقمة التي خلفتها الحكومة في الشارع الفلسطيني في الضفة الغربية على إثر محاولتها إقرار قانون الضمان الذي لاقى معارضة شديدة وواسعة، وقد أسفر هذا الضغط الذي بدأ يتشكل في اجتماعات اللجنة المركزية والمجلس الثوري عن إجبار الحمد الله على وضع استقالته تحت تصرف عباس كمحاولة أخيرة للمناورة مع حركة "فتح".

محمود عباس، معضلة البديل والوريث

تميّز سلوك محمود عباس منذ توليه المناصب الثلاثة دفعةً واحدةً، رئيس حركة "فتح"، ورئيس السّلطة، ورئيس منظمة التحرير، بالعدوانية الشديدة تجاه مراكز القوة داخل حركة "فتح"، أو داخل السلطة، أو داخل منظمة التحرير. اتبع عباس نمطين من المواجهة مع هذه المراكز؛ الأول هو المواجهة الصّفرية -بدون حلول وسط- مع الشخصيات التي أظهرت نديّةً له، وبدا ذلك واضحاً من حربه الداخليّة ضدّ محمد دحلان وأنصاره، والثاني هو إضعاف مراكز القوى التي لم تُظهِر نديّةً له ولكنها أظهرت احتمالية لذلك، مثل تعامله مع مروان البرغوثي وجبريل الرجوب.

في المقابل، كان عباس دائماً معنياً بتصدير شخصيات ضعيفة تنظيمياً وشعبيّاً لقيادة المناصب الكبرى، أو شخصيات تدين بالولاء الكامل له وغير معروف عنها التحيّزات التنظيمية ضدّه. لجأ عباس إلى ذلك أكثر من مرة، بعدما كان يترك العديد من الشواغر فارغة نظراً لحالة الضغط التنظيمية الشديدة، ولمحاولته قدر الإمكان التوفيق بين امتصاص حالة الاستقطاب الداخليّ، وبين تخوفه من أي بديل له، مثلما فعل بتعيين صائب عريقات أميناً لسرّ اللجنة التنفيذيّة في يوليو/تموز 2015، ومحمود العالول نائباً لحركة "فتح" في شباط/فبراير 2017.

كل ذلك جعل رئيس السّلطة يحاول قدر الإمكان إبعاد التنظيم عن رئاسة الحكومة، فوجود شخصية فتحاويّة قويّة في رئاسة الحكومة سيكون مرهقاً كثيراً له، وسيخلق مركز قوّة طبيعياً وحقيقياً بجانب مركزه، وسيجعل "شبح البديل" قريباً منه دائماً، وهو الشبح الذي كانه هو في عهد الراحل ياسر عرفات.

رغم أن الضغط التنظيمي الداخلي لتعيين رئيس حكومة من أعلى هيئة قيادية في الحركة، وهي اللجنة المركزيّة، قد نجح، إلا أن عباس سيكون معنياً بعدم إعطاء مجالات واسعة للحكومة ولرئيسها في عهده، من خلال سلوكه في الإمساك بملفات حساسة داخل الأجسام التي يتولاها، وربما سيسعى ليكون مرجعية بعض الوزارات السياسية في الحكومة الجديدة.

هل بدأت مراكز القوّة تعيد ترتيب المشهد؟

قبل تكليف محمد اشتية بتشكيل الحكومة ومنذ بدء الحديث عن إمكانية إقالة حكومة رامي الحمد الله، برزت خلافات كبيرة داخل اللجنة المركزية لحركة "فتح"، واحتدمت بين شخصيتين أساسيتين، هما محمد اشتية وحسين الشيخ. رغم أن حسين الشيخ كان يتمتع بمميزات عالية، منها علاقته الممتازة مع جهاز الـ"شاباك" الإسرائيلي نظراً لمسؤوليته عن وزارة الشؤون المدنية، وعلاقته الممتازة مع رئيس السّلطة، إلا أنه أثار تخوفات واسعة وخصوصاً داخل مراكز القوى داخل حركة "فتح"، فشخصيته الحادّة والقويّة ستخيف معظم هذه القيادات، كما أن خلفيته الأمنيّة ستضعف من شرعية الحكومة التي سيشكّلها أمام العديد من الأطراف والمانحين الدوليين.

وعليه فإنّ الخيار حُسِمَ لصالح محمد اشتية، كشخصية توافقيّة، ليست بقوّة حسين الشيخ أولاً، وحدّته ثانياً، وبمقدورها التوفيق بين مراكز القوى المختلفة. كما أن تجربة اشتية المهنيّة السابقة تعطيه شرعيةً أمام العديد من الأطراف الداخليّة والخارجيّة، نظراً لكونه شخصية اقتصادية موثوق بها داخل حركة "فتح"، فهو مسؤول المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار (بكدار)، وتوّلى المفوضية المالية داخل حركة "فتح"، كما أنه من أقلّ أعضاء اللجنة المركزيّة اصطداماً بتشابكات الواقع السياسي الفلسطيني.

ختاماً، رغم ما يقال عن توّجهات محمد اشتية الوطنيّة، وخصوصاً ما يمكن أن يقدمه فيما يتعلق بالوحدة الوطنية، أو العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي، أو وقف الإجراءات العقابية التي اتخذتها السلطة ضد قطاع غزّة في أبريل/ نيسان 2017، إلا أنه من غير المتوقع أن يتخذ خطوات جوهرية تختلف عن الحكومات السابقة، على اعتبار أن الحكومات السابقة لم تكن هي صانعة التوجهات السياسيّة للسلطة الفلسطينية، بل كان دورها غالباً خدماتياً وإدارياً أكثر من أي شيء آخر، إذ أن مطبخ القرار في السلطة كان وما زال منحصراً في محمود عباس وفريقه، وأي تحولات حقيقية ستكون بناءً على ما يقرره هذا الفريق، علماً أن هذا الفريق يعاني مؤخراً من حالة عجز عن المناورة السياسية، خاصةً بعد انحسار العلاقة مع أميركا في ضوء ترتيبات ما يُعرف بـ"صفقة القرن" وما يرافقها.

في المقابل، من المتوقع أن الحكومة الجديدة ستواجه إشكاليات ومعضلات مرهقة، مثل المأزق الاقتصادي بعد قرار السلطة بعدم استلام أموال المقاصة بعد اشتراط الاحتلال خصم مخصصات أسر الشهداء والأسرى منها، وكذلك حالة السخط الشديدة تجاه أداء السلطة عموماً داخل الشارع الفلسطيني بسبب سياسات محمود عباس وأهمها الإجراءات العقابية تجاه قطاع غزة، عدا عن قضية الانتخابات التشريعيّة، والتوافق على عقدها من عدمه.

بالتالي، فإنّه يمكن قراءة تعيين اشتية رئيساً للوزراء وتكليفه بتشكيل حكومة جديدة، في سياق حالة ومناخ من الإشكاليات والتعقيدات الداخليّة المرتبطة بمراكز القوة داخل حركة "فتح"، ولا يُدلل ذلك التعيين على توجهات حقيقية لإحداث تغييرات في السياسة الداخلية والخارجية للسلطة، خاصّةً فيما يتعلق بالقضايا الوطنيّة الفلسطينية.