15 أكتوبر 2024

جيش الإبادة يحافظ على البيئة بتقليل استخدام البلاستيك!

<strong>جيش الإبادة يحافظ على البيئة بتقليل استخدام البلاستيك!</strong>

لطالما كنتُ أسعى لإكمال دراستي في درجة الدكتوراة والتخصص الدقيق في مجالٍ يُسهِم في تقديم حلولٍ هندسيّةٍ تقنيّةٍ لمشاكل بيئيّة عالميّة. من هنا، اخترتُ التخصص في معالجة جزيئات البلاستيك الدقيقة العالقة في مياه الصرف الصحيّ، من خلال التركيز على استخدام تقنية معالجة صديقة للبيئة. ومع تقدم بحثي وحصولي على نتائجَ ملحوظةٍ ومحققة لأهداف المشروع البحثيّ، شعرتُ بأهميّة تطبيق هذه التقنية في بلدي الأم، وتحديداً في مدينتي غزّة، كجزءٍ من حلولٍ بيئيةٍ مستدامةٍ لدعم المجتمع المحليّ. لكن جاءت حرب الإبادة لتقضي على الفكرة، ولِتُظهِرَ لي الوجه الحقيقي للنفاق البيئيّ العالميّ.

بالتزامن مع انعقاد العديد من المؤتمرات الدوليّة التي تُركِّز على التغيير المناخي وخفض الانبعاثات الكربونيّة وتُنَاقش الحلول المستدامة، كان قطاع غزّة يشهد تدميراً مُمنهجاً لِنُظم بيئيّةٍ كاملةٍ على مرأىً من العالم كلّه دون القدرة على إيقافها أو مساءلة مرتكبها ضمن اللوائح والنظم القانونيّة البيئيّة التي وضعتها المنظمات الدوليّة على مدار العقود الماضية. فمع بداية الإبادة، دمّر الاحتلال النظم البيئيّة والبنى التحتيّة مُسبّباً كارثة بيئية كبيرة ستكون لها آثار وتبعات طويلة المدى.

طفل يمشي بالقرب من بركة مياه الصرف الصحي ويمر عبر أكوام من القمامة والأنقاض على طول شارع في مخيم جباليا شمال قطاع غزة في 14 آب/ أغسطس 2024. (تصوير: عمر القطا/ وكالة فرانس برس)

تعددت الأسباب و"التلوث" واحد!

أبرز مظاهر هذه الكارثة؛ الركام الذي نتج عن القصف المستمر، ويُقدّر بحوالي 42 مليون طن، وهو ما يقارب 12 ضعف حجم الهرم الأكبر. وهذا الركام يُمكن أن يكون ملوّثاً بالأسبستوس ومواد البناء الملوّثة الأخرى المحتوية على قنابل غير منفجرة ونفايات بيولوجيّة قابلة للتحلل، مثل بقايا الطعام وبقايا الحيوانات عدا عن الأدوات الطبيّة التي اختلطت به نتيجة استهداف المستشفيات. 

إضافةً إلى وجود ما يزيد عن 10 آلاف شهيد لم تستخرج جثامينهم بعد، بسبب عدم توفر المعدات والآليات الثقيلة، مما تسبّب بالكثير من الأمراض الصدريّة والتنفسيّة التي يمكن أن تنتقل من خلال الهواء بعد تبخّر بعض الجثث أو الأمراض المنتقلة من خلال المياه بسبب تحلّل الجثث تحت الركام، عدا عن إمكانية تسرّب هذا التلوث إلى شبكات المياه والخزانات الجوفيّة. 

عدد من الفلسطينيين فوق أنقاض منزل عائلة حرب الذي دمرته غارات جيش الاحتلال التي شنها على مخيم البريج وسط قطاع غزة، في 18 حزيران/ يونيو 2024. (تصوير: بشار طالب/ وكالة فرانس برس)

من جانبٍ آخر، فإنّ انهيار منظومة إدارة النفايات الصلبة والاستهداف المباشر للآليات والمعدات اللازمة لنقل النفايات من منطقة لأخرى، وعدم إمكانية الوصول إلى الكثير من المناطق بسبب ظروف الحرب، كل ذلك أدّى إلى ظهور ما يقارب 225 موقعاً عشوائياً للنفايات، يمتد بعضها بأطوال تصل مئات الأمتار، وتُشكّل تربةً خصبة لتكاثر الحشرات والقوارض والأمراض وانتشارها بين النازحين. 

اقرؤوا المزيد: "الخيارات المستحيلة.. كيف تجد الماء في غزّة؟"

وتشير صور الأقمار الصناعية إلى أن أكثر من نصف آبار المياه ومحطات الضخ والخزانات في غزّة قد تضرّرت بشكلٍ جزئيّ أو تدمّرت بالكامل، وتوقفت معظم محطات معالجة مياه الصرف الصحي ومحطات التحلية عن العمل لفترات طويلة. وقد أدّى هذا التدمير إلى تسرب مياه الصرف الصحي غير المعالجة إلى البحر وفي الشوارع والأحياء المختلفة وهناك خطر من تسربها إلى المياه الجوفيّة أيضاً، وهو يساهم في تصاعد أزمة الأمراض المنقولة بالمياه، خاصّةً بين الأطفال والنساء وأصحاب الأمراض المزمنة.  

خيام النازحين الفلسطينيين بجوار بركة من مياه الصرف الصحي في أحد شوارع دير البلح في وسط قطاع غزة في 23 تموز/ يوليو 2024، وذلك بعد تدمير جيش الاحتلال بنية الصرف الصحفي باستهداف بالقصف المتكرر. (تصوير: إياد بابا / وكالة فرانس برس)

المهم ألا تتلوّث "إسرائيل"!

ما يدعو للسخرية البالغة، أنّ "إسرائيل" في عام 2024 زادت ميزانية وزارة البيئة الخاصة بها للتعامل مع "الأضرار البيئية"، التي قد تتعرّض لها جراء دمار غزّة الذي تسبّبت هي فيه. وفي الوقت الذي كانت "إسرائيل" تدمر فيه قطاع غزّة بالكامل باستخدام أسلحة فتّاكة كالفوسفور الأبيض واليورانيوم، وهي أسلحة يمكن أن تنتقل آثارها عبر الهواء والماء والتربة إلى دول الجوار، كان جنود جيش الاحتلال يشتكون من الاستخدام الواسع للبلاستيك خلال الأيام الأولى من الحرب. الحل؟ استبدال الأكواب البلاستيكية بأخرى قابلة لإعادة الاستخدام للحفاظ على "الاستدامة البيئية"!

فلسطينيون يتفقدون أحد أحياء مدينة خانيونس بعد أن قلص جيش الاحتلال هجومه البري عليها في 7 نيسان/ أبريل 2024، وقد ألحق بها دماراً كبيراً. (تصوير: أحمد حسب الله/ جيتي إيماجيز)

بينما تقصف "إسرائيل" القطاع بأسلحة خطيرة ومحظورة دولياً، تتفاخر في الوقت نفسه بأنّها تُقلّل الأضرار الناتجة عن أكواب البلاستيك، في مشهدٍ لا يمكن وصفه إلا بأنه أقصى درجات النفاق البيئي. وبينما يتحدثون عن أكواب البلاستيك لا يتحدث أحد عن الانبعاثات الكربونيّة الناتجة عن الشحنات المتتالية من الأسلحة الثقيلة القادمة من الولايات المتحدة خلال العام الحالي فقط، ولا عن الغازات المنبعثة نتيجة القصف المستمر والدمار واستخدام الاحتلال للآليات والمعدات الثقيلة. هذا عدا عن تعطيل الأنشطة البيئية الإيجابية مثل الزراعة التي تمتص ثاني أكسيد الكربون، ما يؤدي إلى زيادة صافية في انبعاثات الكربون والغازات السامة. يُذكّر أن الاحتلال دمّر قرابة نصف بساتين الزيتون والحمضيات في قطاع غزّة وأكثر من 20% من الدفيئات الزراعية.

تأتي هذه الإبادة البيئية في فترة من الزمن، اعتقد فيها العالم أنّه حقّق أهدافاً مستدامة ضمن حركات المناخ والسلام والتجمعات الدوليّة البيئيّة، لكن ما قامت ببنائه هذه المنظمات البيئية على مدار عقود طويلة؛ هدمته "إسرائيل" خلال عامٍ واحدٍ من الإبادة البيئية المستمرة في قطاع غزّة.