3 نوفمبر 2025

بين الجثث.. رحلة البحث عن شامة زوجي

بين الجثث.. رحلة البحث عن شامة زوجي

في كل مرة كنت أعلم أن هناك جثثاً جديدة وصلت لشهداء مفقودين، كنت أتهيّأ كأنني أذهب إلى معركة جديدة، أستجمع قوتي وأكتم أنفاسي، وأبدأ البحث عن جثة زوجي الشهيد سلامة العروقي "أبو يحيى"، بين صور الجثامين المنشورة على موقع "صحتي" التابع لوزارة الصحة في غزة1تقوم لجنة مختصة في مستشفى ناصر الطبي بالتقاط صور لجثامين الشهداء التي يُفرج عنها الاحتلال، ونشرها عبر رابط على موقع "صحتي" التابع لوزارة الصحة في غزة، لمساعدة أهالي الشهداء في العثور على جثامين أبنائهم ودفنهم، وذلك بعد امتناع الاحتلال عن إرفاق قائمة بالبيانات الشخصية للشهداء.

أبحث عن شامةٍ على خده الأيمن أحفظها جيداً أنا وأطفاله وكل من يحبه، أبحث عن جاكيت، أو بنطال، أو حذاء، عن أيّ دليل يناديني ويقول لي: "ها هو أبو يحيى".  لكن الملامح كانت تتشابه في قسوة التعذيب، وكأنهم جميعاً استُشهدوا بالطريقة نفسها، كنت أنتهي كل مرة وفي قلبي صورتان متناقضتان؛ واحدة لوجه حبيبي الذي لم أجده، وأخرى لوجوه أبطال عظماء لن أنساها. 

مضى أكثر من أسبوعين على انتهاء حقبةٍ دامية من حربٍ امتدت لعامين في غزة، رأينا فيها أهوالاً عظيمة ومررنا بفجائع ليس التعافي منها أمراً هيناً. وبعد أن هدأ صخب المدافع والطائرات المقاتلة، بدأت أخوض حربا جديدة اشتعلت في قلبي وأنا أترقب مع أطفالي الثلاثة أي خبر عن زوجي الذي ارتقى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023،  وظلّ جثمانه محتجزاً عند الاحتلال الإسرائيلي.

حين سُلبنا البكاء 

لست الوحيدة، فمنذ سريان وقف إطلاق النار تشاركني مئات العائلات الغزية رحلة البحث عن أبنائهم المفقودين الذين شاركوا في عملية العبور في السابع من أكتوبر، والذين تُقدر أعدادهم بأنها تتجاوز الألف مقاتل. ورغم ذلك لا توجد أرقام دقيقة عن مصير من عادوا أو استشهدوا، أو حتى من أضحوا في الأسر داخل سجون الاحتلال.

كانت النجاة من الحرب أشبه بالمعجزة، رغم أننا لم ننجُ بعد مما تركته فينا، فما زالت ذاكرتي تضجّ بتفاصيل المقتلة الجماعية وصنوف المأساة التي عايشتها، كل ذلك لم يكن يُخمد لهفتي ولا يُطفئ شوقي لمعرفة أي خبر عن زوجي الذي وصلني خبر استشهاده بداية الحرب. 

أستودع نفسي كل مرة أدخل فيها تلك المقبرة لأبحث عن شهيدي، لم تكن تلك الصور عادية، بل كانت وجوهاً غيّب الاحتلال ملامحها تحت قسوة التنكيل والتعذيب، أجساد أنهكها العنف، أيادٍ مبتورة أصابعها، وآثار سياطٍ حفرت خطوطها على ظهور بعضهم، وجثث معصوبة الأعين ارتقى أصحابها شنقاً.

 الشهيد سلامة العروقي "أبو يحيى"
الشهيد سلامة العروقي "أبو يحيى"

وفي إفادة لوزارة الصحة في غزة أوضحت أن الجثث التي سلمها الاحتلال تُظهر أدلّة واضحة على التعذيب: مثل وجود حبال حول الرقبة، أو أذرع وأرجل مقيدة بالأشرطة البلاستيكية. كما ذكرت تقارير أن بعض الجثث عليها آثار "عجلات دبّابات" أو آثار مرور أعيرة من مسافة قريبة.

كان عليَّ أن أبتلع كلّ ذلك دفعة واحدة، أن أواجه الرعب دون أن أملك مهلة للبكاء، كنتُ أغيب عن الوعي للحظات، تتجمّد أطرافي، ثم أعود أجرّ أنفاسي بصعوبة وأتابع البحث.

اقرؤوا المزيد: الفقدان الذي لم نعتده في غزة

لم تكن هناك وسيلة أخرى، ففي غزة التي وُلدت من رمادها بعد حربٍ طويلة، لم يبق شيء على حاله، لا مستشفيات طبية مجهّزة، ولا مختبرات متقدمة لفحص DNA، كل شيءٍ صار خراباً وركاماً بعد عامين، إلا القلب، ظلّ نابضاً بالانتظار. 

أما الفحص البصري فهو طريقنا الوحيد نحو الحقيقة، أن تجلس كلّ أم، وزوجة، وأخ، وابن، أمام صفوف الجثث الباردة أو المختلطة بالرمال، تفتّش في تفاصيلها عن ملامحٍ تعرفها، عن أثرٍ من حُبّ، عن ندبةٍ صغيرة كانت تعرف مكانها على جسد فقيدها الطاهر.

هل مرت صورته دون أن أعرفه؟

في كل مرة كنت أقلب فيها الصور، كان يخنقني شعور قاسٍ بأنني ربما مررت على جثمان زوجي دون أن أتعرف عليه، ذلك الإحساس كان يفتت روحي ويضاعف ألمي؛ أن أكون وسط عشرات الجثث المجهولة، وأمامي احتمالان مؤلمَان: أن يظل مفقوداً إلى الأبد، أو أن يكون بين الصور التي مرّت أمامي دون أن أستطيع تمييزه، أي عجز، وأيّ قهر أواجهه وحدي!

صديقة لي فقدت زوجها أيضاً، وتصارع معي تجربة البحث القاسية، راسلتني ذات ليلة تسألني: "كيف يمكنني أن أستدل على زوجي؟ أنا أفقد روحي، أخاف أنا أصاب بالجنون وأنا أقلب بين الجثث، وربما لا أجده، كيف أتعافى من فقده وكيف ستنجو ذاكرتي من هذه المشاهد وأنا التي لم أتعافَ من ويلات الإبادة، حتى النوم، لا أستطيع أن أغمض عينيّ منذ ثلاث ليالٍ".

قلت لها بصوت حاولت أن أخفي فيه انكساري: "لن يُضيعنا الله يا حبيبتي، لله كل أوجاعنا".

وددتُ لو أني أمسح عن قلبها لو جزءاً يسيراً من هذا الألم، كنتُ عاجزة عن مواساتها، فأنا التي أعيْ جيداً ما تقوله، نحن معاً نبحث عن بقايا أجساد أنهكها التعذيب والوقت، وجوه طمستها القسوة بعد عامين من الاستشهاد.

لوحة لـ جميلة عابد.
لوحة لـ جميلة عابد.

رغم ذلك كله، واصلت التفتيش بقلب يحترق كنت أبحث عن أي علامة قد تدلّني على زوجي بسهولة، عن شامة صغيرة كانت على خده الأيمن لم أترك وجهاً واحداً دون أن أتفحّصه وأتأمله، وأفتش بداخله.

اقرؤوا المزيد: "عقدة في الحلق".. الحزن في منفى غزة

حقيقة كان يفجعني فقد أحبتي، كنتُ أظن أن الموت نهاية الألم، فأنا التي تراكمت فواجع الفقد على قلبي، فقدت أخي "أبو حمزة" شهيداً في حرب 2008، ثم خطفت مني الحرب الأخيرة أختي "أم حسام" وجميع أفراد عائلتها، جميعهم لم يمنحني القدر فرصة عناقهم ووداعهم الأخير.

 في كل مرة كانت الصواريخ تحول أحبتي إلى أشلاء ممزقة، وأكتفي باحتضان أكياس بيضاء، لكن مع فقدي جثة زوجي أدركت أن غياب الجسد يجعل الحزن ممتداً، فحين تقف عاجزاً حائراً لا تعرف قبراً لشهيدك، يصبح كل طريق أمامك مقبرة.

رعب يتحول إلى طقوس باهتة 

أدرك الاحتلال أنه حين منع وصول أسماء الشهداء إلينا أنه لا يكتفي بإخفاء الجثث فحسب، بل يشنّ حرباً أخرى على قلوبنا، حرباً من نوع مختلف، لا تُخاض بالنار بل بالانتظار، وبالأمل الذي يتحوّل إلى عذاب، بهذا القرار القاسي.

أجبر الاحتلال المجرم الأمهات والزوجات والأهالي على خوض رحلةٍ موجعة في البحث بين الجثامين المجهولة، يتفحّصون ملامح مُشوّهة تحت آثار التنكيل، علّهم يجدون وجهاً يشبه أحباءهم الذين رحلوا، غيّب أسماءهم لكنه لا يعلم أنه يواسينا أن أسماءهم عند الله حاضرة.

وسيتعاظم هذا الألم ويتوسع في الأيام القادمة، فحتى اللحظة لم يُسلم الاحتلال سوى 195 من أصل 450 جثماناً، وذلك حسب اتفاقية وقف إطلاق النار. 

الشهيد سلامة العروقي "أبو يحيى".
الشهيد سلامة العروقي "أبو يحيى".

هكذا، لم يكتفِ الاحتلال بقتل أجسادنا، بل أراد أن يواصل حربه على أرواحنا وما تبقى منّا، على قلوبٍ لم تُمنح حتى رفاهية الحزن، إلى أن وجدتُ نفسي أمام هذا الرابط الذي تُنشرُ عليه "صور الجثث"، أقلب بين صورٍ رُقمت وصُوّرت، لنغوص بداخلها، ونتعرف على الشهداء.

اقرؤوا المزيد: مقاومة لا تراها الطائرات

تلك التجربة لا تُحكى، إنّها الرعب حين يتحوّل إلى طقوس باهتة، ويصبح النظر في وجوه الموتى جزءاً من البحث عن الحياة، تجربة مريرة من البحث بين الجثث أخوضها كغيري من ذوي الشهداء المفقودين.

وحتى الآن لم أجد جثمان زوجي لكنني أدركت شيئاً أعظم، أن الشهداء لا يغيبون حين لا نجدهم، بل حين نتوقف عن ذكر أسمائهم، لذلك أكتب، لا لأروي فاجعة جديدة، بل لأقول إننا ما زلنا هنا نحمل صورهم في قلوبنا، نغسل الغياب بالدموع، ونرمم باليقين والإيمان كل أوجاعنا فالملتقى الجنة مع شهدائنا العظماء.