1 فبراير 2024

بَلفرة الوعي: دولة اليهود في خيال العرب

بَلفرة الوعي: دولة اليهود في خيال العرب

تمهيد في صورتين

- صورة أولى: ما يلي ليس مراجعة لكتاب، بل تفصيلاً صغيراً انتبهت له أثناء القراءة وأجده -رغم صغره- جديراً بالحكاية: في كتابه "فلسطين قبل الضياع" يكتب الباحث، واصف عبّوشي، مقدّمة أنيقة لعمله. صدَر الكتاب عن دار نجيب الريّس عام 1985، ويحمل عنواناً فرعياً يقول: "قراءة جديدة في الوثائق البريطانية". الكتاب مهمٌ بالفعل ويحمل جهداً بحثياً حريّاً بالاحترام. إلى هنا، كل شيء يبدو طبيعياً. لولا شيءٌ واحد. ففي آخر فقرة من مقدمة الكتاب يخبرنا المؤلف أن مستقبل القضية ينتظره احتمالان اثنان لا ثالث لهما. الأول هو الخسارة الشاملة لكل الأطراف، عرباً ويهوداً، وذلك بالنظر لامتلاك "إسرائيل" سلاحاً ذرياً وما يعنيه ذلك لأي مواجهة عسكرية. احتمال سوداوي ومريع، لكن ليس هذا ما يدعو للدهشة (على جسامته)، بل الاحتمال الثاني. الثاني هو المفاجأة الحقيقية. وموطن المفاجأة هو أن الكاتب -بعد أن وعدنا به- لا يذكره. ما يحصل هو أن المقدمة تنتهي فجأة ممهورةً بتوقيع المؤلف: واصف عبوشي. وعليه، لا يعود ممكناً أن تهرب من السؤال: أين الاحتمال الثاني؟ ومَن سرق بقية الجملة؟ ولماذا ترك المؤلف مستقبل قضيتنا معلقاً في مقدمة مريبة تزمّ شفتيها في السطر الأخير؟ ربما يكون الأمر زلة من الكاتب، أو هفوة في المطبعة. لكنّ باباً لسوء الظن انفتح، وهذا بابٌ يسهل فتحه لكن إغلاقه حكاية أخرى. الخبر الجيد هو أن للغز حلاً، ومفتاح الحل هو أن "فلسطين قبل الضياع" لم يُكتب بالعربية، بل نشره مؤلفه بالإنكليزية في المملكة المتحدة قبل أن تتولى دار نجيب الريّس تعريبه على يد المترجم علي الجرباوي. تعود للأصل الإنكليزي، وتتضح القصة حينها: الاحتمال الثاني موجود حقاً، لكنّ قوله بالإنكليزية كان أسهل من العربية، فأساسه هو "السلام بين الطرفين وإنهاء النزاع". ربما حُذفت العبارة بطلب من المؤلف، أو بقرار من الناشر أو باجتهاد من المترجم، أو ربما بتوافق الثلاثة سوياً، لكن الأمر ليس بحثاً في المسؤولية فهذه مسألة سخيفة. المهم في هذا المثال هو رمزيته لعلاقة المثقف العربي بسؤال: ما موقفك من دولة اليهود القومية وحقها المدّعى في الوجود؟

فلسطين قبل الضياع: النسختان، العربية والإنكليزية، لكتاب واصف عبوشي.

- أود أن أطوي كتاب واصف عبوشي وأمضي قُدُما، لكن الأمر ليس سهلاً، فالقصة لا تقتصر على المقدمة بل تجدها مجدداً في آخر الكتاب. في النسخة العربية ينتهي الكتاب بعبارة: "أدى قيام إسرائيل إلى وأد فلسطين.. ونتيجة لذلك تشرد معظم الفلسطينيين العرب وأصبح الكثير منهم لاجئين.. يرنون إلى اليوم الذي ستبعث فيه فلسطين من جديد". تعود الآن للأصل الإنكليزي فتكتشف أنه مختلف تماماً، فكاتبنا لا يتحدث هناك عن أي بعثٍ لفلسطين، وإنما عن ضرورة إدراك اليهود والعرب أنْ ليس بوسع أي منهما "أن يستفرد بالكعكة ويأكلها لوحده". في النسخة العربية، فلسطين طائر فينيق ينبعث من تحت الرماد. في الإنكليزية، نترك الأساطير وندخل المطابخ وتصبح البلاد طبقاً من الحلوى يحتاج اقتساماً بارعاً.. لا تحريراً مُكلفاً. أيهما يمثّل حقاً مستقبل فلسطين في قناعة الكاتب؟ هل النسخة الإنكليزية هي مخادَعة للجمهور الغربي، أم أن النسخة العربية مخادعة لنا؟ أم أن الأمر هو تلوّن بحسب السياق، وما من قناعة في العمق، والمخادعة تسري على الجميع؟ 

مطلع المادة المنشورة عن اللواء عبدالله التل.

- صورة ثانية: كان قائد "معركة القدس" خلال النكبة هو اللواء عبدالله التل. الشواهد كثيرة على القتال البطولي الذي شهدته تلك المعركة بقيادة التل، وقد كان الرجل معروفاً بحسِّ تمردٍ تجاه القيادة الإنكليزية للجيش الأردني بوقتها ممثلة بشخص غلوب باشا. وهو لم يكن عسكرياً وحسب، بل وكاتباً أيضا بنَفَسٍ عروبيٍّ وإسلامي واضح، فعلاوة على مذكراته "كارثة فلسطين" فقد ألّف عملاً يكفي عنوانُه لكشف مزاجه الفكري: "الأفعى اليهودية في معاقل الإسلام". في شباط/ فبراير من العام الماضي 2023، نشر موقع "الجزيرة" مادةً رقمية عن الراحل تحت عنوان: "عبدالله التل ورجاله.. أبطال الانتصار العربي المنسي على إسرائيل عام 1948". وتفتتح المادة نفسَها بصورة للتل يبدو فيها بعقاله العربي وبزّته العسكرية وابتسامته العريضة. الصورة مفعمةٌ بالشجن لما تثيره من نوستالجيا بلونيها الأبيض والأسود وما تحكيه عن زمن سالف وُلدت في خضمه قضية فلسطين. لكن، وبعيداً عن الأشجان، هناك شيءٌ غريب في الصورة: ذراع القائد اليسرى تبدو ممدودة صوب الأمام. هل كان يصافح أحدَهم بيسراه؟ غريب. حتى الأعسر يصافح غالباً باليمنى. وعندما تضع المُركّبة الإسلامية للتل في ذهنك، تزداد الغرابة، فالتيامن مسألة إسلامية راسخة. تساءلت وقتها إن كانت الصورة مقلوبة لاعتبار تقني عند الجهة الناشرة، وأنها إذا ما عُكست سيظهر التل وهو يصافح بيمناه لا بيسراه. تحت وطأة هذا الفضول التافه، حاولت البحث عن الصورة الأصلية، فاتضح أن الصورة مقلوبة بحق، لكني تنبّهت لشيء آخر بالمعية وهو أنها –علاوة على انقلابها- مقصوصة أيضاً، وأن للصورة تتمة يظهر فيها موشيه ديان وهو يصافح عبدالله التل. المشهد كان في أواخر العام 1948 ضمن واحدة من الاجتماعات المخصصة لإبرام اتفاق الهدنة. لا أقدّم هذا بوصفه اكتشافاً. أكثر من عملٍ في تأريخ تلك المرحلة يضم تلك الصورة وهي ليست سراً. 

- كثيراً ما تُستغَل الصور الساكنة لتحميلها بأحكام خارجة عن ظرفها التاريخي. ورغم حرصي على اجتناب رذيلة كهذه، إلا أن أمراً واحداً يبقى على حاله، وهو أن الصورةَ غريبة، وأن قرار محرر الموقع بطمس جزء منها يحمل رمزية بذاته، ولا يمكن للمرء -أمام مشهد كهذا- إلا أن يخالجه ذات السؤال الفائت: ما موقفنا حقاً من دولة اليهود القومية وحقها المدّعى في الوجود؟ وهل لموقفنا المعلن تتمة مطموسة ويد تصافح خارج الإطار؟

الصورة الكاملة: لقاء توقيع اتفاق الهدنة بين موشيه ديان وعبدالله التل.

نحن و"إسرائيل"

- التكرار يورث الموت، وكثير من ألمع الأفكار لم تلقَ حتفها بالهجر والنسيان بل بالعكس تماماً؛ بفرط الزحام وتدافع المحبّين. واحدة من هذه الأفكار –المخنوقة وسط عشّاقها- هي تلك التي كتبها كلاوشفتز قبل قرنين ولا يكاد أحدٌ يجهلها اليوم: "الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى". ورغم شيوعها الهائل، لا زال في العبارة أشياء يمكن قراءتها، لا لأن كاتبها عناها بالضرورة، ولكن لأنها غنية بذاتها وولّادةٌ للنار. في مقولة كلاوشفيتز إشارة صامتة لجوهرية فعل السياسة وثانوية فعل الحرب، فالثانية ليست سوى استمرار للأولى. السياسة هي الأصل.. الحرب هي التتمّة. لكن هل يمكن التفكير بالعكس، وتحديداً في سياق القضية الفلسطينية؟ هل يمكن التفكير بالحرب بصفتها أصلاً وبالسياسة فرعاً؟ قد يبدو السؤال موغلاً في التجريد ومِن حقّ قارئه أن يشمّ رائحة بيزنطية تفوح منه، فما المعنى العملي لأن تكون السياسة (أو الحرب) أصلاً أم فرعاً؟ وهل للسؤال فائدة أصلاً؟

- تاريخ القضية هو تاريخ تعاقب وتداخل لما هو سياسي وما هو عسكري. ولأجل هذا فالحديث عن أصل وفرع يبدو عبثاً هنا. لكن السؤال لا يتعلق بأيهما أسبق على الآخر، بل أيهما سينتهي به الصراع: بتسويات السياسة (مع كيان العدو الذي لن يبقى عدواً حينها)، أم بحسم الحرب (التي إن نجحت فسيزول بها الكيان)؟ وهكذا ننتهي لسؤال أبسط، هو المفتاح الفعلي لكل المسألة: في تخيلنا لنهاية هذا الصراع، ما هي "إسرائيل" وأي مكان ستحتل؟ كم من مثقفينا ومفكرينا يتسع إدراكهم لمشهد ختامي (متخيّل) دون دولة قومية لليهود في قلب العالم الإسلامي؟ الآن يغدو السؤال أوضح، ويكتسب جوابه قيمة عملية وعلمية.

- كان الراحل الكبير، عبدالوهاب المسيري، يعود مراراً لقصة في أحاديثه عن قضية فلسطين، وخلاصتها أن المسيري طرح سؤالاً افتراضياً على السيناتور الأميركي جيمز أبو رزق حول مشهدية العالم لو أن "إسرائيل" لم تكن. وكان جواب السيناتور حينها: "لا أستطيع تخيل العالم دون إسرائيل". العبارة لها وقْعٌ خاص اليوم لأن رئيس الولايات المتحدة الحالي، جو بايدن، قدّم لنا نسخة مطوّرة عنها في تصريحه الشهير: "لو لم توجد إسرائيل لتوجّب علينا أن نوجدها". مِن المفهوم أن تأخذ "إسرائيل" موضعاً كهذا في التفكير الغربي، لكن كيف استطاعت أن تأخذه في المقابل العربي؟ كيف وصلنا للحظة يكون فيها التسليم بوجود "إسرائيل" فاتحة التفكّر السياسي بمستقبلنا؟ أتخيل سؤالاً يُطرح على لفيف من أشهر المثقفين والمفكرين العرب، بل والفلسطينيين منهم تحديداً: هل تَرى أن الحل النهائي لقضية فلسطين سيكون قائماً على تراضٍ سياسي مع هذا الكيان؟ الشواهد من حولنا لا تترك هامشاً كبيراً للشكّ. والواقع أنك لست بحاجة لسؤال أحد. استنطاق الجواب سهلٌ من مجمل الكتابة السياسية المعاصرة في العالم العربي.

- من السهل أن تنزلق الكتابة في موضوع كهذا صوب مسار لا ينتهي: إلى تتبع تاريخي للتوتر بين فعل التفاوض والكفاح المسلح. لكني أحاول قراءة شيءٍ خارج هذا: مواقف كتّاب ومثقفين ممن يسهمون في بناء الوعي العام تجاه القضية. هذه المحاولة تستدعي للذهن كتاباً صدر قبل ربع قرن، كتبه بلال الحسن تحت عنوان "ثقافة الاستسلام"، وراجع فيه أقطاب الخطاب العربي المتصهين (واللفظ للتوصيف لا للتشهير) عبر مجموعة من الكتّاب، عرّابهم الأول كنعان مكّية، مروراً بالعفيف الأخضر وانتهاء عند الذروة (أو القاع) التي يمثّلها -بهذا السياق- حازم صاغية. والكِتاب -في أكثره وتجاوز بعض التفاصيل- قيّمٌ بالفعل ويفكك أدبيات هذا التيار وعداءَ رموزه لمفهوم المقاومة ومطالبتهم أن يطوّر العربُ أنفسهم حتى يغدوا جديرين بقبول الصهيونية لهم. هذه الدائرة من الكتّاب لا تستوجب اهتماماً في السياق الحالي لأكثر من سبب، أبسطها أن بلال الحسن أدى مهمة قديرة في تشريحها، علاوة على أن شخوصها يمثّلون حالة طرفية قصوى دوافعها -على الأغلب- لا تمت للفكر والقناعات بِصِلة كبيرة، وإنما تنبع من اعتبارات من نوع آخر. ما يهمّنا في سياقنا الحالي هو الوسط الغالب في أدبيات القضية الفلسطينية، والسؤال يدور حول أمر محدد: كيف تبلور التسليم بوجود "إسرائيل" في الكتابات العربية عن مآلات القضية؟

- ورغم ما تقدّم، فالأشياءُ بالأشياء تُذكَر، ومن المفيد أن نتلمّس جذراً مؤسساً لهذا الخطّ من الطروحات. عام 2021، أصدر محمود محارب كتاباً لافتاً مبنياً بجملته على وثائق الأرشيف الصهيوني تحت عنوان طويل: "العلاقات السرية بين الوكالة اليهودية وقيادات سورية في أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى". ورغم اختصاص العنوان بالقيادات، إلا أن الوثائق التي درسها محمود محارب تعرّج أيضاً على جهد الوكالة اليهودية للهيمنة على الوعي العام في المشرق العربي تجاه القضية. وعلى امتداد عشر صفحات مريرة -ينبغي لكل مهتم بالشأن الفلسطيني أن يقرأها- يستعرض المؤلف مراسلات لأقطاب الوكالة المذكورة، تنسيقاً للجهود وتوزيعاً للأعطيات ومناقشةً لأسعار الذمم الصحفية، وذلك للاستحواذ على جرائد في بيروت ودمشق، علاوة على النشر المنتظم لمقالات تحت أسماء مستعارة في صحف عربية عديدة ترويجاً لقبول الهجرة اليهودية وتأليباً ضد المقاومة. ويصل الأمر إلى تعجّب مسؤول الوكالة، إلياهو ساسون، مِن يُسر العملية كاتباً بإحدى مراسلاته: "كما ترى، هذا عمل ثمنه قليل ونتائجه كبيرة". ويكاد يكون مستحيلاً أن يقرأ المرء تفاصيل هذا الاقتحام العبري للصحافة العربية -قبل تسعين عاماً- دون أن يتساءل: كم من هذا يحصل اليوم؟ وأين بلغت حدود هذا الاجتياح؟ ولأي حدٍّ تطورت تقنياته وأدواته؟ ولأي حدٍّ أثّر -ولازال يؤثر- في إدراكنا العام لما يجري؟

الازدواجية والغموض

- في مداورة السؤال الذي يهمنا تكتشف جانباً من الإشكال: أن الآراء في هذه المسألة قليلاً ما تقال على نحوٍ مباشر، تحديداً عندما تكون الكتابة بالعربية، وأصحابها يناورون بين ما يؤمنون به حقاً وبين ما يرونه حساسيات الناس. هنا تتعسكر كلمة "لعم" وتظهر ازدواجات تَقرأ فيها الشيء وعكسَه جنباً لجنب. بعد 3 أشهر من "طوفان الأقصى"، كَتب باحث ومثقف فلسطيني وعضو سابق بالمجلس الثوري مقالاً مهماً أعلن في سطره الأول أن "حلّ الدولتين مات وشبع موتا". ويقدم المقال مراجعةً ممتازة لمنشأ فكرة "حل الدولتين" ويواكبه بالأضرار الفادحة التي ألمّت بالقضية تحت هذا العنوان السياسي. هكذا يمضي النص إلى أن تقترب من خاتمته حيث تقرأ: "..حتى نستفيد من عودة الاهتمام العالمي بالقضية الفلسطينية بما فيها حديث المجتمع الغربي عن حل الدولتين.. فالمطلوب الوصول إلى مقاربة أخرى مع المجتمع الدولي.. تُحدد بشكل نهائي إمكانية تطبيق هذا الحل من عدمه وتنقل الكرة إلى الملعب الإسرائيلي وتضع جدولاً زمنياً لتحقيق هذا الحل.. فالنقاش يجب أن ينصب على تنفيذ الحل وليس ماهيته". وهكذا فإن ما بدأ تأبيناً للميت (حل الدولتين)، انتهى مطالبةً ببعثه. بالوسع القول أن التناقض الظاهر مقصود، وأن المطروح هو مناورة ذكية لإحراج المجتمع الدولي، أو لإحراج الكيان العبري، أو لملء الفراغ السياسي. لكن الأهم الذي يسكن خلف المناورات والتناقضات يلخص السمة الغالبة لطروحات كثيرة من هذا النوع: ما يبدو قبولاً من حيث المبدأ -وعلى مضض دون شك- بوطنٍ قومي لليهود على الأرض الفلسطينية.

- ومع تنحية المقال السابق جانباً (وتقديرنا للتاريخ النضالي لكاتبه)، فليس هذا قوساً نادراً في الفكر السياسي الفلسطيني؛ القوس الذي أساسه القبول الضمني بالتسوية، ثم الركون للفوز بإحدى الحُسنيين: حصول التسوية، أو رفض العدوِّ لها وإغراقه بالحرج. يفهم المرء هذا التذاكي السياسي من سياسيين منخرطين في فعل التفاوض، لكن لماذا ينخرط فيه كتّابٌ ومنظّرون؟ مسألة كهذه تغريك بالذهاب خارجها بحثاً عن شيء يتجاوز التفصيل المباشر: هذا التحول في مفهوم المثقف (أو المفكر) في العقود الماضية، والصعود المضطرد لشخصية "الباحث" التي كثيراً ما تعني مثقفاً منزوع المواقف، وتبدو كتابات أصحابها أقرب لنصوص الذكاء الاصطناعي والإنشاء المؤتمت. المؤكد أن التاريخ لم يعرف ازدحاماً كما يَعرف اليوم في مراكز الدراسات والأبحاث ومنصات الإعلام وسوق النشر السياسي والكتابة الفكرية، ناهيك عن طوفان الترجمة. وسط هذا التزاحم الذي تختلط فيه مقتضيات الثقافة بلوازم العيش، تحضر للذهن أشياء قديمة. أوائل القرن الماضي ظهر نصّ أشبه ببيانٍ صوفيّ تحت عنوان: "خيانة المثقفين"، كتبه فرنسي يدعى جوليان بندا. في النص المذكور صورة جليلة للمفكر المتمرد، الرافض للوضع القائم، والوفيِّ للعبارة اليسوعية: "مملكتي ليست من هذا العالم".. المثقف الخارج عن سطوة الواقع، ليس بالهرب صوب أبراج العاج بل بالمقارعة المباشرة والدفع المستمر لحدود الممكن والخيال. في غياب هذه الرؤية، تَحوّل كثير من مفكرينا إلى معلِّقين، وغرقوا في حدود "الآن"، وصاروا جزءاً من وطأة الواقع وكتلته وهم من كانوا موْكَلين بالعكس تماماً.

- لكن عودةً للسؤال: كيف ومتى تشكّلت هذه المسلّمة البلفورية في الكتابات العربية؟ طلائع أدبيات النكبة بريئة بالتأكيد. عام 1948، كتب قسطنطين زريق "في معنى النكبة"، وكتب فخري البارودي "كارثة فلسطين العظمى"، وكتب عارف العارف "نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود"، وكتب عبدالله التل "كارثة فلسطين". البدايات الفعلية للتسليم بحتمية صهيونية كانت وليدة الهزيمة الكبرى الثانية في نكسة حزيران، ويمكن قول الكثير في دور بعض أدبيات "نقد الهزيمة" في تمهيد الساحة لهذه الحتمية المدّعاة. لكن لدينا مسألة أخرى تستحق تنبهاً أكبر، وهو فيض الكتابة باللغات الأجنبية عن القضية الفلسطينية منذ حرب الأيام الستة، وتحديداً من كُتاب عرب وفلسطينيين مقيمين في الغرب. أشك أن أحداً أجرى إحصاءً لنسبة المنشورات حول القضية الفلسطينية، بين تلك الصادرة بالعربية وتلك الصادرة بالإنكليزية، رغم أهمية هذه المقارنة. المسألة ليست لغوية بل فكرية بالكامل، فما يُكتب لمخاطبة القارئ الغربي لا ينتهي عند ذلك القارئ وحدَه، وأكثر ما يؤلّف بهذا المضمار يعاد تدويره عربياً في النهاية. هذه كتابات تأخذ بالاعتبار حساسيات غربية في صياغتها، فماذا يحصل عندما يقرأها العربيُّ مترجَمةً؟ هل تخدش حساسيته، أم أنها تزيح حساسيته صوب نظيرتها الغربية؟ 

عن التمييز بين الواجب والممكن

- لا معنى لكل ما تقدم دون الوقوف أمام المرافعة الدفاعية الأهم لأنصار "حل المعضلة الفلسطينية"، وجوهرُها هو التمييز بين القناعات والممكنات: بين الإيمان الشخصي وبين المتاح السياسي. بين ما يجب أن يكون، وبين ما يمكن أن يكون. هؤلاء لا يؤمنون بحق شرعي للعدو، لكن الواقع قد وقع وما من مفرّ. هذا -بتجاوز الإطناب- هو جوهر المرافعة والحامل الفلسفي لكل من يرى أن حل القضية الفلسطينية لابد أن يتضمن توافقاً مع "إسرائيل"، فحجة هؤلاء هي ضرورة الفصل بين الحقّ الذي في الوعي والحقائق التي على الأرض. هذا الانزياح بين ما يؤمن به المرء وبين ما يعتقده ممكناً هو مدعاة مسرّة كبرى عند زئيف جابوتنسكي -وهو الآن في قبره- فهو الذي كتب قبل قرنٍ أن المشروع الصهيوني يجب أن يُعدِم الأمل بالانتصار في نفوس العرب، وحينها فقط سيكفّ قادتهم عن كلمة "أبداً!".. ويأتون للتفاوض. هذا بالضبط هو بلفرة الوعي.

- كُتب الكثير في السابق حول هذا الموضوع (أي الفارق بين القناعات والإمكانات في سياق القضية الفلسطينية). وأمام الكتابة الكثيرة يغدو ممكناً -ومفيداً- أن يبحث المرء عن نسق أوسع وأن يتلمّس التشابهات مع أمثلة أبعد. في التوتر الأزلي بين المبدئية والواقعية هناك مضمارٌ وتاريخ يصلح مادةً لكتابٍ كامل. من أين تبدأ؟ من احتجاج عمر بن الخطاب في صلح الحديبية: "ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ ففيم نعطي الدنية في أنفسنا". أم نلجأ للثنائية التي رسخها علي بن أبي طالب في كلمته عن "السِّلة والذِّلة". أم نتجاوز التاريخ القديم ونذهب لكلمات يوسف العظمة الأخيرة قبيل معركة ميسلون، وهو مدركٌ سلفاً لعاقبة المواجهة. أم نغرّب صوب تونس ونراجع سيرة صالح بن يوسف عندما رفض اتفاقاً مرحلياً مع الفرنسيين ودعا لاستمرار القتال ودخل مواجهةً حادة مع الحبيب بورقيبة، إلى أن دفع ثمن موقفه اغتيالاً بعدها بسنوات. ورغم التباين الكبير بين كل واحدة من هذه الأمثلة، فهي تؤكد مركزية هذا التوتر في كل القضايا الكبرى.

كيف ينتهي القتال: تاريخ الاستسلام.

- أوائل العقد الماضي، صدر مجلد ضخم باللغة الإنكليزية تحت عنوان: "كيف ينتهي القتال: تاريخ الاستسلام"، وهو جمهرة من عشرات الأبحاث في مسألة الحروب ونهايتِها انطلاقاً من ملاحم الإغريق مروراً بالحروب الصليبية ووصولاً للقضية الفلسطينية. وإذا كان للكِتاب من خطٍّ عام تنتظم أعماله فيه، فهو أن طبيعة الحرب تغيرت مع الزمن، ومعها تحوّلت ثقافة الاستسلام. لم تعد إبادة العدو التامة أمراً لازماً، وصار "إغواء" الخصم بالاستسلام أولى من إفنائه. وبهذا المعنى، يتحدث محرِّرو العمل عن "تهذيب الحرب" بوصفه الصيرورة الغالبة للصراع البشري المسلح في امتداده التاريخي، حيث تزيد المكاسب المعروضة للمستسلمين تغليباً لغريزة البقاء على خطر الفناء وترجيحاً للتنازل على العناد. وفي معالجته للكفاح المسلح الفلسطيني، فإن الدمغة الغربية للعمل واضحة ولا يُعوّل على قراءتها المستشرقة، لكن المفيد رغم ذلك هو ما يطرحه الكتاب من "تطور" في ظاهرة الاستسلام وانزياحها المستمر لأشكال أكثر تعقيداً وتركيباً تخفف من وطأتها النفسية على المستسلم. هنا تحديداً ما يفيد في سياق القضية حيث لا يأخذ الاستسلام تسميته الكاشفة بل يتدثر بتسميات أقل مهانة، كما في مثالها الأبرز اليوم: الحل العادل والشامل. والواقع أن توابع هزيمة حزيران كانت تراجعاً طويل المدى في خطاب "تحرير فلسطين" وصعوداً لخطاب "حل المعضلة الفلسطينية". ويحتاج الأمر دراسة أكبر وأعمق من مقال كهذا في رصد التحول الزاحف من معجم "التحرير" إلى معجم "الحل"، ومن ألفاظ "الكارثة" و"النكبة" إلى مفردات "المعضلة" و"المسألة".

خاتمة: الطوفان وما بعده

- كان للتشرد الفلسطيني وتعقد التدخل الدولي في هذه القضية دورٌ كبير في غموض لغة كثير من أبنائها عند الكتابة عنها. ربما يكون الغموض موحياً في عوالم الشعر، لكنه في سياق قضايا التحرر يغدو غطاءً لنمو مسلَّمات لا ينطق أحد بها، وتنغرس في الوعي عبر الصمت المستمر عنها وتضمينها الهادئ في المصطلحات واللغة.

- منذ صبيحة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، اضطربت صفوف البلافرة العرب. لقد أطاح ما جرى بالعقلانية المدرسية التي طالما خنقوا بها أفق النضال التحرري. لكن الأمر حتماً مسألة وقت قبل أن يعود هؤلاء لتنظيم صفوفهم، فالرافعة الدولية لخطابهم عادت منذ الآن للعمل. وإذا كان لكل ما تقدّم من غاية فهي التمترس المبكر في وجه هذا الخط، والتذكير بأن الواقعية مسألة تخص تطوير الأدوات لا الأهداف، وأنه ما من تسمية إنشائية -أو حذلقة لغوية- يمكن أن تنزع عن الاستسلام طبيعته القارّة.

- قبل "طوفان الأقصى" مباشرةً، كتب الأسير إبراهيم مرعي افتتاحيةً لمجلة "الدراسات الفلسطينية" (خريف 2023)، حملت في داخلها رؤية لم تفلح كل جدران السجن في صدّها وتبدو لمن يقرأها اليوم بياناً استباقياً في الفلسفة النضالية لـ"طوفان الأقصى". والمفارقة أن إبراهيم مرعي ذكر في نصّه لفظ "الطوفان"، ولكن باتجاهٍ آخر تماماً إذ تحدث عن "الطوفان الأوسلوي" والخراب الذي أتى به، وكأنه من حيث قصد أو لم يقصد وشى بطوفان معاكس. وفي وصفه لقيمة القبض على الجمر في زمن التسوية، كتب مرعي خير ما يُختم الكلام به وأبلغ ما يَختصر المراد: "لا بأس في أن نسجّل هنا أننا كنا في أيام ذروة الطوفان الأوسلوي، والجميع يومها غرقى تحت مائه، وحيدين، أو شبه وحيدين، ونحن نقارع الشر الصهيوني الجاثم فوق ترابنا، وكنا نقول، ورأسنا فوق الماء ونبصر بشكل جيد، أننا غير متأكدين من شيء في ذلك التيه، سوى من مقارعة ذلك الشر، وأن الميدان والمواجهة فقط هما اللذان يمنحاننا معنى الحياة الحرة الكريمة، فالاغتراب بات خانقاً، ولم تعد الأشياء ولا الكلمات ولا المعاني تشبه ذاتها.. آنذاك رفضنا أن نكون بين جموع الغرقى، ولم يكن لأمثالنا مكان لا في الشوارع ولا في الأسواق.. فأماكن وجودنا ومناوبتنا الطبيعية كانت ولا تزال، إما تحت التراب الطهور، وإما في عرين اعتقال، وإما في ميدان قتال... لِتَمُت الأحلام كلها إن مات حلمنا بتحرير فلسطين".


ملحق: عن فلسطين واللغة

يستحق سؤال اللغة في أدبيات القضية الفلسطينية دراسةً بالتأكيد: كم صدر من تلك الأدبيات عن دُور غربية، وكم يصدر عربياً، وما حجم النقل الذي يجري بين اللغتين، وفي الاتجاهين. حاولتُ استكشاف هذه المسألة عدديا،ً ولو على نحو بدائي للغاية. في مكتبة "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" (مكتبة قسطنطين زريق)، تبدو النسبة 70% بالعربية مقابل 30% بالإنكليزية قياساً على عينة من 600 عنوان. لم أستطع بناء تصور حول كم من العناوين العربية مترجمة أصلاً عن الإنكليزية، وعليه فالفارق بين الفئتين (الإصدارات العربية والغربية) قد يكون أقل بكثير من النسبة المذكورة. في مكتبة "الجامعة الأمريكية" ببيروت، تناهز العناوين التي تحمل كلمة فلسطين بالإنكليزية 15 ألفا، فيما نظيرتها العربية تناهز 3 آلاف، أي بنسبة 85% للإنكليزية و15% للعربية. طبيعة المؤسسات المعنية وتوجهاتها ولغتها الغالبة تحكم هذه النسب، وعليه فهي ستتغير كثيراً بحسب المؤسسة المدروسة، لكن الأكيد أن الإنتاج الغربي تجاه القضية الفلسطينية، سواء كتبه غربيون أو عرب مقيمون في الغرب، غزير للغاية قياساً على نظيره العربي. وإذا كان للمنشأ الغربي لهذه الكتابات حمولةٌ سياسية وفكرية ملازمة لها، فإن القضية لا تعود مسألةً لغوية على الإطلاق. لا أحمّل هذا الاستكشاف الإحصائي قيمة علمية من أي نوع، لكن لعله يستفز دراسةً رصينة لهذه المسألة الهامة.



4 أغسطس 2019
شخير اللاجئين في مسرحيّة أميركيّة

في مسرحيَّةٍ أميركيّةٍ عن اللُّجوء، كانت ممثّلةٌ تحكي قصَّةً بالغة الشعريَّة عن رحلة هجرة من أميركا الجنوبيَّة إلى حدود الولايات المتحدة…