10 سبتمبر 2020

بعد محاولة فاشلة للانتحار.. ماذا ينتظرك؟

بعد محاولة فاشلة للانتحار.. ماذا ينتظرك؟

في يوليو/ تمّوز الماضي، وفي غضون ساعات قليلة، أقدَمَ أربعةُ شبّانٍ من غزَّة على الانتحار، هُم من ضمن 13 شاباً فلسطينيّاً أقدموا على الانتحار في القطاع منذ بدايةِ العام الجاري. كان سينضمّ إليهم في هذه الإحصائيَّة 3 إلى 5 أشخاصٍ يوميّاً، لولا نجاتهم من محاولاتهم لإنهاءِ حياتهم. ترتفعُ نسبُ الانتحار في الضفَّة الغربيَّة أيضاً بثبات، فارتفعت عام 2018 بنسبةِ 14٪ عن العام الذي سبقه، إذ شهدت في ذلك العام 25 حالة انتحار مقارنةً بـ22 حالة في 2017، ولم تنخفض عن ذلك الحدّ في 2019.

تغيب عن تلك الإحصاءات الأعدادُ الدقيقة لِمَن حاولوا الانتحار ولم ينجحوا (وفق التقديرات قد تصل إلى المئات)، وتغيبُ كذلك تفاصيلُ الآليَّة التي تتبعها السُّلطتان في الضفَّة وغزَّة للتعامل معهم.

"المرَّة الجاي مش رح نتدخّل"

استدعت النيابةُ العامَّة في مدينة جنين فتاةً عشرينيَّة مؤخراً، سنسمّيها هنا دلال، لاستجوابِها بشأنِ محاولاتها المتكرّرة للانتحار. كانَ هذا الاستدعاء بعد مرورِ ثلاثةِ شهورٍ من آخر محاولاتها لإنهاءِ حياتها، بسبب خلافاتٍ مع عائلتها. حينها، قال لها موظّفٌ في النيابة إنَّها "سليمة"، وإنَّ الأطباء النفسيّين يتوهّمون بشأنِ تشخيصها، وعليها أن تنسى "شغل النسويَّات". هذا بعدَ أنْ سخرَ منها الموظّفون متسائلين: "هاي بنت، ولّا شاب؟"، مشيرين إلى شعرِها القصير. ثمّ حذّرها أحدُهم في النيابة: "هاي آخر فرصة، المحاولة الجاي مش رح نتدخّل".

تتابعُ دلال علاجَها في عيادةِ طبيبةٍ نفسيَّة، ولم يسترعِ ذلك، ولا تقاريرها الطبيَّة، معاملةً أفضل من النيابة. ورغمَ أنَّ أسباب انتحارها متصلة بالأساس بعلاقتها مع عائلتها، حضرت والدتها معها إلى النيابة، ولم تطلب النيابة أيَّ ظروفٍ تراعي خصوصيّتها في الإجابةِ عن أسئلتهم. حصلَ ذلك أيضاً في المرّتين السابقتيْن اللتيْن وصلت فيهما دلال إلى غرفِ الطوارئ بعد محاولتها الانتحار، وحقّقت معها الشرطة الفلسطينيّة.

تُبَلَّغ الشرطة حالاً حينَ تصلُ حالاتٌ مشابهة إلى غرفِ الطوارئ، لكنَّ دلال تنفي وجودَ أيّ مختصّ نفسيّ في أيّ مرَّة. وتقول إنَّها تشعرُ بالتهديد، أكثر من أيّ أمرٍ آخر، على أسرَّة تلك المشافي، فتواجه إمطارَها بالأسئلة التي تُعاملها كمتَّهمة (يعتبر القانون الفلسطينيّ من حاول الانتحار كمن ارتكب جنحةً)، لا كضحيَّة لحالةٍ نفسيَّة ساءَت لدرجة إيصالها هناك.

فحص الحمل.. الارتجالُ الأوَّل

عام 2018، وصلتْ عبير إلى غرفةِ طوارئ في رام الله، وقد تناولت جرعةً كبيرةً من حبوب الدواء. توصّلت والدتها إلى اتفاقٍ مع الأطباء هناك بألّا يتمّ تبليغَ الشرطة، تفادياً لمعرفةِ أفراد أسرتها الرِّجال بما حصل. تقولُ عبير إنَّها كانت خائفة تلك الليلة، من الموت، ومن الفضيحة أكثر. "الممرّض نظر لي نظرة قرف وسألني: "شو هالهبل الي عملتيه؟ إنتِ صبيَّة".

تنفي عبير، مثل دلال، وجودَ أيّ خصوصيَّة، وتؤكّد الاستعلاءَ في تعامل طاقم المشفى معها، والسخرية منها طوال الوقت. لم يتواجد مختصّ نفسيّ، ولم يتمّ تحويلها، ولا حتى نصحها وتوجيهها، للحصول على رعايةٍ نفسيَّة. عوضاً عن ذلك، تفاجأت هي ووالدتها التي رافقتها بأنَّ المشفى قد أجرى لها فحصَ حمل، دون استشارتهما، في خطوة ارتجاليَّة، ظنَّ الطبيبُ ليلتها أنَّها ستساعدُ في معرفةِ "سبب الانتحار"، لكن تعتبرها عبير شكلاً مهيناً آخر من فحوصات العذريَّة.

من المؤكّد أنَّ اللَّيالي المرعبة التي يعيشُها محاولو الانتحار لا تصبح أسهل مع هذا التعامل المفتقِد للمهنيَّة، والمستنِد بالأساس إلى وصماتٍ اجتماعيَّة تدينهم، بدلاً من مدّ يدِ العوْن لهم، واحتضانهم. عوملت دلال وعبير بقسوةٍ محمّلة بالمعايير الاجتماعيَّة، لم تُعِر أيَّ انتباهٍ لألمهما.

14 مركزاً دون مهارات أو ميزانية!

حسب سماح جبر، مديرة وحدة الصحة النفسيّة في وزارة الصحّة الفلسطينيّة في الضفة، فإنَّ الوزارة توفّر تدريباتٍ للعاملين في الطوارئ للتعامل مع الاضطراباتِ النفسيَّة، وخاصَّة ما يؤدي منها إلى محاولة الانتحار. ورغمَ أنَّ العاملين في النيابة لا يخوضون تدريباتٍ مشابهة، تؤكد جبر أنَّ وحدة الصحة النفسيَّة في تواصل دائم معهم، فهم جزء من "اللَّجنة الوطنيَّة للحدّ والوقاية من الانتحار"، وهي لجنة تعمل على إصدار مسودة لـ"استراتيجيَّة وطنيَّة للوقاية من الانتحار". وقد أشارت عدَّة حواراتٍ صحفيَّة سابقة إلى احتمال صدورها في نهاية 2019، ولكن تأخر نشرُها بسبب انشغال وزارة الصحَّة بجائحة كورونا، حسب جبر.

حسبَ تقريرٍ صادرٍ عن معهد أبحاث السياسات الاقتصاديّة (ماس) عام 2018 حول مهارات القطاع الصحيّ الفلسطينيّ، فإنَّ مهاراتِ "التواصل"، و"معاملة المرضى بلطف"، كانت على رأس المهارات النادرة أو غير المتوفرة في الكوادر الطبيَّة العليا. وفي سياقٍ متصل في التقرير ذاته، كانت وظيفة "الممرِّض الاختصاصيّ في الأمراض النفسيَّة" تعاني نقصاً في المهارات بنسبةٍ تتعدى الـ90٪، وتتصدَّر قائمة الوظائف التي تنقصها المهارات المطلوبة.

رغم هذه الأرقام المقلقة تقولُ جبر إنَّ هناك 14 مركزاً حكوميّاً يقدّم متابعةً طبية نفسيَّة دوائيَّة، وعلاجاً نفسيّاً كلاميّاً مجانيّاً (دعماً معرفيّاً سلوكيّاً)، تتوفر لهؤلاء الذين يقدِمون على الانتحار، لكنّ الوصول إلى تلك المراكز ليس سهلاً. برّرت جبر سابقاً، في تحقيق صحفيّ، عدمَ سهولة الوصول إلى المراكز المذكورة، قائلةً إنَّ الوحدةَ التي ترأسها تعمل في ظروفٍ مجتمعيَّة معقّدة، وإنّ ما تصرفه الحكومة في الضفَّة على الصحَّة النفسيَّة لا يتجاوز 2٪ من موازنةِ وزارة الصحَّة. وقالت في موضعٍ آخر إنَّ فلسطين تفتقرُ حتى إلى الخطوط الساخنة المختصَّة بالتدخل للوقاية من الانتحار.

ماذا بعد النجاة؟

كان التحقيق المنشور العام الماضي، قد وثّق قصصَ أشخاصٍ حاولوا الانتحار في فلسطين، وجاءَ لجوؤهم للطبيب النفسيّ بنتائج عكسيَّة. منها شابٌ عشرينيٌّ تكرّرت محاولاتُه، حتى بعد العلاج النفسيّ، ليكتشفَ لاحقاً أنَّ تشخيصه كان خاطئاً، وأنَّه قد أُغرِقَ بأدويةٍ نفسيَّة لا تُناسب حالته. في المقابل، أفادَت جمعية الأطباء الفلسطينيين النفسيين أنَّها لم تتلقَ شكوى واحدة بشأنِ أيّ طبيب نفسيّ من قبل، وتُرجع ذلك إلى أنَّ الفلسطينيّين عادةً ما يراجعون الطبيبَ النفسيّ سرّاً، خوفاً من الوصمات الاجتماعيَّة، فلا يجرؤ أحدهم على تقديم الشكاوى في حالِ لم يجرِ العلاجُ كما يجب.

يؤكّد مراد عمرو، الأخصائيّ النفسيّ في المركز الفلسطينيّ للإرشاد، أنَّ مستوى الخدماتِ النفسيَّة في فلسطين مثيرٌ للجدل فعلاً. إذْ دفعَ التمويل الأجنبيّ المخصّص للرعاية النفسيَّة المؤسساتِ الأهليَّةَ إلى إنشاء برامج ومشاريع في هذا المجال، ولكن دون توافر خبراتٍ متخصّصة كافية لإدارة تلك المشاريع، ما أدّى إلى تفاوتٍ في خبرةِ تلك المؤسسات عند تقديمها خدماتٍ نفسيَّة للمجتمع. وفي حين أنَّ العمل مع محاولي الانتحار هو قضيَّة جديَّة، فإنّهم لا يحصلون دائماً على المساعدة والدعم المناسب.

يكونُ الانتحارُ في أحيانٍ كثيرة طريقةً للفت الانتباه إلى مشكلة لا يستطيعُ الشخصُ حلَّها بمفرده، ولا حملها، ولا التعبيرَ عنها. هي نداءٌ عاجلٌ للنجدة، لذا من الضروريّ أن يُعامَل هذا الشخص بحذرٍ كبير، بقدرةٍ على الاستماعِ والاستيعاب وأخذِ بيئته الاجتماعيَّة بعين الاعتبار. الردّ الذي يوصي به عمرو على محاولةِ أحدهم الانتحار هو: "من المؤكّد أنَّ هناك سبب دفعك للمحاولة". ولا شكّ في أنَّ من حاولَ الانتحار، يصبحُ أكثرَ عرضةً لأن يعيدَ الكرَّة، خصوصاً في الأشهر الأولى التي تلي المحاولة.

اقرأ/ي المزيد: نساء في الحجر.. عن "دفء" العائلة اللاذع

النساء.. حالة خاصَّة

كلّما أقدمت امرأةٌ على الانتحار، تظهرُ شكوك وتساؤلات: هل هو انتحار أم قتل؟ هل قفزت فعلاً، أم أُجبِرت على القفز؟ والإجبارُ هنا ليس مجازيّاً فقط. استُخدمت ذريعةُ الانتحار للتغطيةِ على محاولات قتلٍ تعرَّضت لها النساءُ الفلسطينيّات في السابق. مثلاً، وثّق حراكُ "طالعات" مقتلَ فتاة في الثامنة عشر من عمرها في وادي عارة على يدِ والديْها، اللذيْن اعتديا بسكبِ موادَّ حارقة على جسدها، ثمّ حاولت العائلة إخفاءَ الجريمة والادّعاء بأنّها انتحرت. كما كانت "محاولة الانتحار" الذريعةَ الأولى التي حاول المتهمون تمريرَها في قضيّتيْ إسراء غريب عام 2019، ونيفين عواودة 2017، اللتيْن قُتِلتا، ولم تصدر نتائج التحقيقات النهائيَّة في قضيّتيهما حتى الآن.

رُغمَ أنَّ الرجال يسجّلون نسباً أعلى في الانتحارِ الفعليّ، تسجّل النساءُ النسبةَ الأكبر في المحاولات الفاشلة. في الانتحارِ نوعٌ من الهرب، لأنَّ المواجهةَ لِما ينتظرهنّ في الحياةِ أصعب، ولو وجدنَ بيئةً متفهّمة أكثر، لَما لجأنَ لهذا الحلّ. رأى ذلك عمرو ضمنَ خبرته كأخصائيّ نفسيّ، فجلّ الفتياتِ اللواتي حاولنَ إنهاءَ حياتهنّ عِشنَ في بيئة غير آمنة، فيها اعتداءاتٌ وإهمال، يرافقها عدم القدرة على التعبير عن مخاوفهنّ بسببِ البيئة والضغوط ذاتها. نجوْنَ في معظم محاولاتهنّ، لأنّهنّ، في اللاوعي، انتابهنّ القلق واخترنَ التراجع. 

عادةً ما يُناقَش موضوع الانتحار في التصريحاتِ الرسميَّة مختلطاً بلومٍ عام للأوضاع الاقتصاديَّة الخانقة، وتارةً أخرى بلوم الوصمةِ الاجتماعيَّة التي تمنعُ الناسَ من التوجّه للأطباء النفسيّين ومن تسجيل حالاتِ الانتحار. تُذكَر تلك العوامل كأنَّها عوامل خارجيَّة، لا علاقةَ للجهاتِ الرسميَّة بها ولا بخلقها في الأساس. تطلبُ وزارة الصحَّة من الناس التوجَّه للعيادات الطبيَّة النفسيَّة، بينما تصرفُ على الصحَّة النفسيَّة 2٪ فقط من موازنتها، والتي- كوزارة- لا تحصل على أكثر من 10٪ من موازنة السلطة الكليَّة أصلاً. تحذّر الحكومة الناسَ من الانسياق وراء وصمة العار المجتمعيَّة، بينما تكرّسها باستهزاء موظّفيها من المُقدِمين على الانتحار، والاستهتار بحالاتهم، فيقعُ هؤلاء ضحيَّةً للسياسات المتعلّقة بالصحَّة النفسيَّة- أو غيابها في الأساس.