كلمة العدد1جميع ما ورد في المجلة هو نتاج عمل طلبة أكاديمية متراس ( دفعة الشهيد أنس الشريف)، كتابة وتحريراً وتدقيقاً وتصميماً.: آمنا برب الطوفان
"يا جماهير شعبنا وأمتنا، يا أحرار العالم..
اليوم يتفجر غضب الأقصى ..
اليوم يستعيد شعبنا ثورته ويصحح مسيرته ..
ويعود لمشروع التحرير وإقامة الدولة بالدم والشهادة..
أشعلوا الأرض لهيبا تحت أقدام المحتلين الغاصبين..
ولا تدَعوا حدودًا ولا قيودًا ولا أنظمة تحرمكم شرف الجهاد والمشاركة..
ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون..
انفروا خفافًا وثقالًا.."
كان هذا نداء الطوفان الأول بالنفير قبل عامين، نداء "يا ليت قومي يعلمون" لا نداء المستغيث، نداء يزحزح الأمة المفعول بها ويحيل شبح غيابها الطويل حضورًا فاعلًا، ويُسمعنا مرة أخرى طلقات رصاص لم تنطلق منذ خمسين عامًا حتى صدئت، فنرى رأي العين عبادًا أولي بأس شديد دخلوا الباب، و اخترقوا الجدار، فأسقطوا فرقة غزة، وأحيوا بطوفانهم موات جيل تكالب الظالمون عليه حتى كاد ييأس من روح الله.
لبى الصادقون، وتواطأ المرجفون، واصطف كل منهم في جبهته، وعجز أو ربما تغافل إعلام الأمة عن استيعاب جلل وجلال الخطب، فظنوه خبرًا كغيره على هامشه ستنعقد غرف الأخبار وبرامج التحليل، ونقف منه موقف الحياد ونتأدب بآداب موضوعية الإعلام، لم يدركوا حقًا أن السابع يجبّ ما قبله، وأن نداء النفير كان يشملهم، وأن الانحياز هو واجب الوقت، والرمادي في زمن الإبادة كفر بحق المظلوم وتواطؤ عليه.
لا ندعي أننا في أكاديمية متراس لحقنا بركب الطوفان، لكننا -على الأقل- قررنا المحاولة، جربنا التحرر من حدود وقيود الجغرافيا، وجئنا طلبة وأساتذة من مختلف حواضن أمتنا العربية والإسلامية، وأعدنا النظر في قواعد الاشتباك مع الخبر، وأحلنا مسافة الصفر فلسفة نجسر بها الطريق بين الإعلام والسياسة والفكر، ونسعى لتأسيس إعلامنا المنحاز للأمة، المنطلق من قيمها، المدرك لموقعها من الجغرافيا والتاريخ، إعلام يعتمد تراكم المعرفة والخبرة والتجربة، ويتجاوز فورة التعاطف الغاضبة، وانحيازات المصالح المؤقتة، واستلهمنا الطوفان نموذجًا وإعدادًا، آملين اقتفاء أثر أهله نية وسعيًا.
والطوفان في أصله اللغوي سيرورة مكانية ممتدة "طاف"، وأفق للتجربة والخيال مفتوح من "طيف"، وفي ذاكرتنا الجمعية -على اختلاف موقفنا منه- هو معجزة مقاومة، وتفاصيله الغائبة ميراث مستقبلي كامن للثأر والتحرير، انطلاقًا من هذا الفهم، خطونا لأجله أولى خطواتنا في عالم الإعلام وصناعة المحتوى، وحملت دفعتنا اسم "أنس الشريف" عرفانًا ووفاءً للطوفان، ولرجل أمهر الحق ونقل الحقيقة دمه، وأسسنا مجلتنا مساحة للصحبة والتجربة والتعلم، ووصلنا رحم الأمة بأهل القطاع في عددها الأول، فتجاورت أقلامهم، وبثثنا فيه من أرواحنا، راجيين به صدق العهد واستمراره، و تذكيرًا للناس بأيام الله، وتجديدًا لإيماننا برب الطوفان.
من تدوينات طلاب قطاع غزة:
تالله لقد أتعبتَ من بعدَكَ بصُنعك يا أبا صالح! - أحمد النبيه
من أحمد إلى عاصم، أما بعد:
كان أولُ ما جالَ في خاطري حينما اقتُرِح عليَّ كتابةُ رسالة لك، رسالةٍ تعبر عني وعن الكثير من أمثالي ممن ضحى شخص قريب منهم ليكون طريقُهم منيرًا، ولكن الإبادة فرّقتهم. سريعًا مر شريط طويل ليس له نهاية من المواقف والذكريات التي لا تُنسى معك، والتي أحال العابرون جانبًا منها إلى أحزان.
أمضيتُ يوميَ كلَّه وأنا أفكرُ ماذا أقولُ وكيف أبدأ؟ ذهبتُ إلى العمل ليلًا وذاتُ الموضوع يَشغلُ بالي. إلى أن تذكرتُ حِوارًا في مقطع كنت قد احتفظت به منذ سنوات منتظرًا اللحظة المناسبة لأعبرَ عن فحواه لك. شاهدتُ المقطع على هاتفي وتملكتني حينها مشاعرُ الشوق والفخر ممزوجةً بالحزن والأسى. كان ذاك الحوار بين علي وأبي صالح، أتذكُرُه؟
ذلك المشهد باكورةُ الحلقة الأولى من مسلسل التغريبة الفلسطينية "الأولى"، حين دخل عليٌّ على أبي صالح وعبّر له عما أكنه في صدره: "أبو صالح.. يخوي يبو صالح.. أنا علي.. أخوك.. أخوك وابنك. بس بدي أقلك اشي.. أنا لوماك ما صرت اشي!" واثق من أنك تقرأ كلامي وترسُم المشهد أمام ناظريك. ذلك المشهد لم يكن مجردَ مشهد عابرٍ؛ كان انعكاسًا لحياتي معك يا أبا صالح.
أتذكُرُ حينَما كان عليٌّ، أو أبو تراب كما أحببتَ أن تناديَني، صبيًّا في الصف الرابع؟ عندما رجَعتَ من معرِض الكتاب في غزة ووضعتَ بين يديه كتيّبَين هما: العشرة المبشّرون بالجنة وصور من حياة الصحابة، أتذكُر؟ كانا أول ما قرأ في حياته. في تلك الفترة كلهم كانوا يرونَ فيّ نبتةً نادرةً لكنّك كنت تسقيها يا أبا صالح. ذانِك الكُتيّبان لم يكونا مجرد هدية، بل كانا بداية طريق. لكن المحزن هو أن العابرين قد مزقوا أوراقهما ودمروا مكتبة بيتنا الأثرية الثمينة.
وفي الصف السابع سجّلتَ عليًّا في مركز أميديست (AMIDEAST)؛ لتعلّم اللغة الإنجليزية. كنتَ وقتها قد بلغتَ الخامسة والعشرين وبعد أشهرٍ قليلة من زواجك المبارك -بإذن الله-، ومع ذلك دفعتَ الرسوم من جيبك وسرتَ معي خطوة بخطوة: اختبار مستوى، مواعيد، التزام بالدروس، تحفيز على الحديث والكتابة وحفظ الكلمات. كل ذلك لم يكن غريبًا عليك يا أبا صالح؛ فأنت جبلُنَا الشامخ، المبادر، العصاميُّ من الطراز الرفيع. حينها كنتَ واضحًا: "هذه اللغة ستفتح لك أبوابًا" وفعلًا فتَحَت. واليوم كل سطر أكتبه أو أفهمه بلغةٍ أخرى متصل بذلك القرار المبكّر. لكن ما يوجِعُ القلبَ هو أن أول معلمة لي في أميديست وهي أ. غادة رباح، أتذكُرُها؟ قتلها العابرون مع طفليها قبل نحو أسبوع من الآن بعدما تُركت لتنزف يومين متواصلين -تقبلها الله وكلَّ شهدائِنا في علّيّين-.
أتذكُرُ فجرَ ذلك اليوم من خواتيمِ شهر أبريل عام 2018؟ حينما سافرتَ إلى بلاد الغربة لتبني مستقبلًا لعائلتك ولغيرِك. أذكُرُ لحظة الوداع أنني بكَيت فجأة وأنا أحتضنك عند عتبة الدار ولم أعرف لماذا. أهو دمعُ الطفل على فراقِ أبيه أم بكاؤُه لأنّه شعر ويكأنه سيكملُ سيرَه دون ظهره أو قدميه؟ لكنّ جوابَك لم يتأخر، فقد سلّمتَني دفترًا ما زال معي حتى الآن، وهمَستَ في أذني: "ستكونُ أول أهلي لحاقًا بي". وتجلى مقصدُك مع الأيام؛ حيث كنتَ تخطط لدراستي في الخارج وسأحكي عن ذلك لاحقًا. لكن قبل ذلك، أتعلمُ ما المحزن؟ حتى عتبةَ الدار سحقها العابرون مع جدرانها حينما مروا على حي الشجاعية -حيِّ معتز ورِفْعت وأحمد ورشا والكثير من الشهداء- ومسحوا بذلك كل ذكرياتنا، أو حاولوا.
ثم جاءت سنواتُ التحضير لدراسة الطِّب في ألمانيا. ذلك التحضير الذي بدأتَه قبل تفوّق عليٍّ في الثانوية العامة بسنوات! كنتَ قد بحثتَ وسألتَ وراسلتَ، أوراق، مواعيد، نماذج، امتحانات، مكالمات، حجز طيران وحسابات تفصيلية بالورقة والقلم. كنتَ تسبقُني بخطوات، وتزيح عني تعقيدًا هنا، وتُطَمْئِنُني هناك، حتى جاءت ليلةُ الوصول. أتذكُرُ يا أبا صالح؟ بقيتَ مستيقظًا لتَطمئنَ على عليٍّ حتى هبطتْ طائرتُه فجرًا. تالله لقد أتعبتَ مَن بعدَك بصُنعك يا أبا صالح!
ألا يذكِّرُك كلامي السابق بمشهد تعرفُه؟ بالضبط، هو مشهدُ ذهاب عليٍّ صبيِّ القرية للدراسة في حيفا المدينة، حيث العالم المختلف. على مدار 4 سنوات في غربتي (سنتين قبل الإبادة وسنتين منذ بدء الإبادة) أبكَتني مشقاتُ الحياة هنا كثيرًا كما أبكت عليًّا. في السنتين الأُولَيَيْن كنتَ لي دائمًا كما كنت لكل من عرَفَك؛ كنت تمسح دمعتي وتهديني في طريقي الموحش، كنت كما كان أبو صالح لعليّ. لكن المؤلم هو أن العابرين حرموني منك في السنتين الأُخرَيَيْن؛ صرتُ أبكي وحيدًا وأصرخُ وحيدًا وأسيرُ في دربيَ المظلمِ وحيدًا.
من تدوينات طلبة الأمة:
الجبل، عود الثقاب الأخير - زهراء لقيس (لبنان)
مساء السابع من أكتوبر، غفا العالم على شرخٍ أصابه، جعل من أطيافه قطبين، قطبٌ يمشي فوق المذبحة، وقطبٌ يقوم من تحتها. هكذا، في جرأةِ موسى متّجهًا نحو البحر، واثقًا أنّ عصًا سوف توصله إلى الجهة المقابلة من التاريخ من دون بلل الماء المالح على ثوبه، تقدّم الإنسان - بمعناه المجرّد - خطوةً نحو الأمام، لحظةَ عبَر الغزّيّ الأوّل سياجَ المرحلة الشائك، معلنًا قيام الطوفان.
في ذلك المساء، استفاق شيءٌ في نفس الرجل الستينيّ من أرض لبنان، كان قد ارتاح بعد تعبٍ طويلٍ من ثقلٍ على كتفه، قذيفةٌ اعتادت أن تكتب بيانًا من بيانات التحرير جنوب البلاد. والتحرير كلمةٌ عذبة، خفيفةٌ على اللسان، تجذب النور إلى النور، حتى تستحيل شمسًا تصعدُ من صدور الرجال وقد صاروا شيوخًا، فتُعيدهم إلى حقيقتهم الأولى، والى الفتوّة الخالصة، وإلى الحلم الواضح على بُعد شجرتي زيتون ونهر، وسياجٍ آخر.
كان جبل عامل يُزاول مهمّته الصباحيّة السهلة، إيقاظ العمال والطلاب والفلاحين إلى النهار. وفي المشهد الكبير، كانت تتحرك سيارة أجرةٍ رصاصية اللون، تُخرج من محركها ضوضاء بيضاء ببطء المنطلقين. خلف المقود، يجلس الرجل الستينيّ، ويُدعى إسماعيل، يقود في رحلته اليومية إلى رزقه، ويُمارس عاديةَ الحياة الهادئة برفقة فنجان قهوته البلاستيكي. وبلذة الهدنة بين حربين، خرج خبرُ الحالمين صارخًا عبر المذياع. لحظتها، تحوّل الصباح صاخبًا، فأسرعت السيارة حركتها، ووضع الجنوب مللَ الريف جانبًا، وتفرّغ لمشاهد العبور على هاتف إسماعيل، وهواتف التائقين من قرى صور والنبطية ومرجعيون، يقرؤون الحلم والجرأة في ملامح الملثمين المخفيّة، المحلّقين في طيرانهم الشراعي، الراكبين دراجاتهم النارية، الراكضين يُسابقون حركة الأرض وهي تدور، يُقشّرون "الغلاف" حول غزة كمن يُقشّر برتقالة في موسمها.
عرف الرجل في تلك الليلة سرّا من أسرار التكوين، حين رأى بعد زمانٍ طويل عود الثقاب في قلبه. فـأسَرَّ لابنته في سهرةٍ تنكشف فيها النفوس، أنّ الطوفان ذكّره بالممكن المقنّع بالمستحيل، وأن إسرائيل و"نحن" على موعدٍ مع القيامة. وفي "نحن" الشاملة تلك، قصَد القطب الذي يقوم من تحت المذبحة. هكذا تموضع إسماعيل، مأخوذًا بالسحر الذي ألقته مقاومةُ غزة على العالم، وبمشهد التحرير عند "بوابة فاطمة" ينفذُ من ذاكرته، وبخطابٍ سمعه قبل عقدين في الذكرى الأولى للانتفاضة، قالت فيه المقاومة في لبنان على لسان أمينها العام بـ "الاستعداد الدائم للتدخل العسكري المباشر من لبنان عندما تكون مصلحة المقاومة الفلسطينية حقيقةً تقتضي اللجوء إلى هذا الخيار."228 أيلول 2001 والآن، على أريكةٍ في غرفة الجلوس، غير قادرٍ على النوم، أراد إسماعيل أن يبدأ كل شيء.
عامٌ طويل، اتّخذت فيه المقاومة في لبنان موقعها. كان النهار في الجنوب يقصرُ كنفسٍ متقطّع، والليل يمتدّ كلّما لمعت في السماء نجمةٌ متحركة يُدرك الكبار أنها ليست نجومًا. وإسماعيل، لم يعد مجرّد رجلٍ مُضاء القلب، بل صار ظلًّا يمشي مع ظلال المقاومين، ويتفيّأ بالنعوش تعلو الأكتاف كلما قصدَ القرى ليحضر جنازات الجنوبيين، مؤمنًا بوحدة المصير ووحدة العدو، وبأن الدم حين يسيل في حيّ الشجاعية، يترك أثره على حجرٍ في بنت جبيل.
ومع اتساع الإسناد، كان إسماعيل يسير بين الناس كأن جسده صار جماعةً. يضحك في وجه جاره عند بزوغ الفجر، ثم يمضي إلى عمله كمن يذهب إلى نبوءة يعرف خاتمتها. كان يرى في كل قذيفةٍ تنفجر قرب الحقول، وفي كل بيتٍ يتداعى في القرى، أنّ الجنوب يكتب مع غزة نصًّا واحدًا. وبعد ذكرى الطوفان الأولى بأسبوع، التفتت الطائرات إلى سقفٍ فوق رأسه، فقرأ إسماعيل على الأرض السلام. بقي جسده هناك، في العتمة الخالصة يُضيء، أكثر من خمسين يومًا، ينتظر المطر، أو أيدي عائلته يبحثون عنه فوق الركام وهو أسفله، ممتلئاً بما هو أوسع من الوحدة، حُزنه على الغزيين القابعين منذ عام تحت ركامهم.
اسمه شهيد، أو جبل عامل، لا يهمّ. يعلم إسماعيل أنّ الأرض لا تُختزلُ في جسدٍ واحد، ولكنّه يحفظ عن ظهر قلب قصائد الحبّ المكتوب، ويعلم القابلية التي تُقدّمها البلاد لتحويل بيوت الشعر إلى حالتها الماديّة حين يتناثر جسدٌ بعد صاروخ، فتكون الدماء شربة الأرض الأخيرة قبل أن يجرح جوفها حديدٌ وبارود، وتُمسي حفرة كبيرة. وجبل عامل، قرّر أنّ يواسي حُفر غزة بحُفره، فمشى بقدميه نحو الشمس غروبًا، مترجلًا من سيارةٍ رصاصية اللون، مشعلًا عود الثقاب الأخير الذي رآه مساء السابع من أكتوبر في صدره، مستعيرًا كلامًا قيل عنه يوم تحرّره، متوجّهًا به إلى رجُلٍ من كلّ، يدعى إسماعيل، وإلى الكّل من الشهداء وقد صاروا جبلًا، تنسدلُ أجفانه جنوبًا، نحو فلسطين وغزة، ونحو المشهد الأخير في الفلوات:
"كتفو الشمال ارتاح على الجولان
كتفو اليمين ارتاح على نيسان
..اسمو جبل عامل"3من قصيدة جبل عامل – الشاعر عصام العبد الله