أصدر الرئيس محمود عبّاس منتصف يناير/كانون الثاني الماضي مرسوماً يقضي بإجراء انتخابات فلسطينيّة عامّة، وذلك لأوّل مرةٍ منذ الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة 2005 و2006 على التوالي، ثمّ توالت من بعده الخطواتُ الفعليّة نحو تحويله أمراً واقعاً. من تلك الخطوات: محاولة ضمان مشاركة كافة تيارات "فتح"، وأبرزها تيار مروان البرغوثي، ضمن قائمةٍ فتحاويّةٍ موحدة، إلى درجة أن توّجه حسين الشيخ لزيارة البرغوثي داخل سجنه.
ومنها كذلك: محاولة استرضاء الأسرى المُحرّرين بحلّ ملف رواتبهم، والوعد بحلّ مشاكل موظفي السّلطة في غزّة، والتعديلات القضائية الأخيرة التي تضمن لعبّاس موقعه داخل السّلطة. ثمّ وصولاً إلى جلسات الحوار التي عُقِدَت هذا الأسبوع في القاهرة، والتي من المتوقع أن تُستأنف مرةً أخرى في مارس/ آذار المقبل.
أدّى تلاحق هذه الخطوات إلى ارتفاعٍ في الأدرينالين السياسيّ لدى كثيرين؛ فجأة كَثُرَت التصريحاتُ من كلّ حدبٍ وصوب، لا تكاد وكالة أنباء تنشر خبراً حتى يعقبه آخر، وبيانات تلو البيانات، بعضها لجهات أيقظها حديثُ الانتخابات فجأة من سبات عميق، لتُرحّب بالخطوة "الديموقراطيّة الهامّة". هكذا، يستعد كثيرون للمشاركة في الزفّة وصولاً إلى "العرس"، دون أن يلتفتوا إلى أنّهم قد يكونون على باب مأتم جديد لواقعٍ سياسيٍّ بائس يُعاد إنتاجه مرةً أخرى.
الانتخابات لماذا الآن؟
لا تنطلق هذه الانتخابات الفلسطينيّة من إرادةٍ سياسيّةٍ داخليّةٍ حرّة. أبو مازن يريد تجديدَ شرعيتِه، مُستجيباً للضغوطات الأميركيّة والأوروبيّة بشكلٍ أساسيّ، خاصّةً بعد فوز جو بايدن بالانتخابات الأميركيّة. وبذلك فمفهوم جداً ما الذي تريده قيادةُ "فتح" من الانتخابات؛ استجابة مخصوصة ومُحدّدة لا تتجاوز الشكلَ الانتخابيّ الذي يُعطي المزيدَ من الأكسجين لعجوز المقاطعة ليستمر في مسار التسوية - نهج السُّلطة المعروف.
ولكي تفعل قيادةُ "فتح" ذلك، فإنّها تحتاج لـ"حماس" أن تُشاركها هذه الخطوة، ثمّ تُعود بعدها لمحاصرتِهِا كما فعلتْ سابقاً بعد انتخابات 2006، وكما تفعل دائماً. يحصل ذلك دون أن يشترطَ تيارُ المقاومة لقاء منحه هذا الاكسجين أيّ مطلبٍ سياسيٍّ جديّ، بل يُشارك بكلّ حماسةٍ هذه الحفلة، ويبثّ نوعاً من الأمل الزائف للناس دون أن يعرض أيّ دليلٍ عليه. حتى أنّ عودة التنسيق الأمنيّ (في نوفمبر 2020) التي ترتبَ عليها بعضُ الفتور في مسار المصالحة، جرى تجاهلُها تماماً، وكأنّها مسألةٌ هامشيّةٌ أن يجري تسليم شباب المقاومة للعدوّ في نفس لحظة الجلوس مع قياداتِهم بالقاهرة!
لدى "حماس" ثقة - لا نعلم مصدرها - أنّ الأمور ستكون غير هذه المرّة، وهي ثقةٌ أكثر ما يُخيف فيها أنّها ناتجةٌ عن ضعف الموقف الذي هي فيه. وفي ظروفٍ كهذه يجري الخلطُ بين الأملِ والوهم بسهولة. علينا أن نتذكر أنّ المقاومةَ كانت في العام 2006 أكثر انتعاشاً وقد خرجت لتوها من مشاركةٍ فاعلةٍ في الانتفاضة الثانيّة يُحيطها زخمٌ شعبيّ، وحين فوزها في الانتخابات تحالفوا عليها مع "إسرائيل" وأميركا. أمّا اليوم فهي تشعر أنّها متورطةٌ في حكم قطاع غزّة، ومُجتثة ومُطاردة في كلّ الضفّة، وسط إقليمٍ يُعاد تشكيله ومن أهدافه الانقضاضُ عليها.
في ظروفٍ كهذه يتحتمُ علينا أن نكون أكثر يقظة وانتباهاً. ومن يتقدّم لنا بادعاءاتٍ من نوع "ما هو البديل؟" فإنّه يُكرِرُ تماماً الاسطوانةَ الدائمةَ التي كانت تُشغّلها "فتح" عند كلّ مفترق طرقٍ يأخذها نحو التنازل ونحو الهاوية. كما أنّ مثل هذه الظروف تُحتم كذلك الحذرَ من الحلفاء، نقصد أنّ الضغط الذي مارسته تركيا وقطر على "حماس"، وإيران على الجهاد الإسلاميّ، للدخول في هذا المسار وغضّ الطرف عن الكثير من الاشتراطات السياسيّة المُهِمة، مسألةٌ خطيرةٌ تشي أنّ الحوار الأكثر مصيريةً تخوضُهُ فصائلُ المقاومة مع دول الحلفاء، وليس مع ناسها وجماهيرها، وهذا السّلوك يُذكّرنا مُجدداً بسلوك أمّ الجماهير!
انتخابات على مقاس "فتح"
في لقاء العاروري- الرجوب في يوليو/تموز الماضي، قيل لنا إنّ لقاءات المُصالحة بدأت بهدف التصدّي لمشاريع تصفية القضية (صفقة القرن، قرار الضمّ، الاستيطان..)، وأنّهم بصدد خطّةِ مقاومةٍ شعبيّةٍ مُشتركة. فجأة رموا هذا الكلام وراء ظهورهم وبدأ التركيز على الانتخابات بوصفها "حلّاً سحريّاً" للمأزق الفلسطينيّ دون أن يُحدد أحدٌ المُشكلة التي يُبحث لها عن حلّ، أو أن يُخبرنا أحدٌ كيف ستؤدي الانتخاباتُ إلى حلّها.
لا إجابة على سؤال كيف ستساعدُ الانتخاباتُ في استنهاض العمل للقضية الفلسطينيّة باعتبارها قضية تحرريّة وإخراجها من المأزق الذي حشرها فيه مسارُ السّلطة والتسوية. ولا يوجد ما يؤشر إلى أن هذه الانتخابات تجري على قاعدة مشروعٍ وطنيّ مشترك، فنحن لا نعرف ما هو نوع الثوابت الوطنيّة التي يلتقي عليها المجتمعون في القاهرة. ولا نعرف مثلاً كيف ستتعامل "الحكومة المنتخبة" التي يُراد لنا التصويت لها مع قضايا الأسرى والاستيطان والحصار، ولا كيف ستبني اقتصاداً مقاوماً مستقلاً، أو كيف سيجري العمل مثلاً على حماية حقوق الفلسطينيّين في القدس والعودة، وغير ذلك.
اقرؤوا المزيد: "الضمّ: "إسرائيل" تُهندس الأرض، والسُّلطة تُهندس الصمت".
عدا عن تصوير الانتخابات وكأنّها "الحلُّ المنتظر"، فإنّ الشّكلَ الذي جاءت عليه مفصلٌ على مقاس "فتح" وشروطها هي. من خلال تتبع تطورات الحديث عن الانتخابات في العامين الأخيرين على الأقلّ، نرى كيف نجحت "فتح" في جرّ "حماس" إلى مربع الاشتراطات الذي ترضاه هي. كانت "حماس" تتصرف بمنطق المناورة ورمي الكرة في ملعب عبّاس، وعدم الظهور بمظهر من يُعيق تقدم الانتخابات أو يُعطل تغيير الواقع الفلسطينيّ، فوجدت نفسها في النهاية وقد تنازلت عن نقاط مركزيّة كانت ضمن شروطها لسنوات طويلة في مختلف حوارات المصالحة.
ففي 2019، وبعد دعوة عبّاس لإجراء الانتخابات من منصة الأمم المتحدة، كان الحديث فلسطينيّاً يدور عن مطالبة "حماس" وغيرها من الفصائل عقد اجتماعٍ وطنيٍّ يسبق أيّ مرسوم لإجراء الانتخابات، وذلك بهدف نقاش البرامج الوطنيّة التي يمكن الاتفاق عليها قبل الذهاب إلى الانتخابات. رأت "فتح" ذلك "مضيعة للوقت" ورفضته، وفي رسالتها لأبو مازن التي سلّمتها عبر "لجنة الانتخابات المركزيّة" في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، تخلّت "حماس" عن هذه الفكرة.
في الشهر ذاته، أبدت "حماس" كذلك استعدادها للتنازل عن شرط تزامن الانتخابات، ووافقت على انتخابات تشريعيّة، ثم رئاسيّة، ثم مجلس وطنيّ، وهو بالضبط ما تريده السّلطة، لأنه يفتح باب التراجع من قبل "فتح" في حال اتجهت نتائج التشريعيّ لصالح "حماس". هكذا، شيئاً فشيئاً، تحوّلت تلك الموافقات التي صُوّرت كـ"مناورات" إلى حقيقة وواقع، فما وصلنا بداية عام 2021، حتى ضَمِنَ أبو مازن تراجعَ "حماس" عن هذا الشّرط، فأصدر مرسومَه الرئاسيّ لإجراء الانتخابات.
اقرؤوا المزيد: "موجز سيرة حماس.. من بدايات الدعوة إلى مأزق السُّلطة".
وبغض النظر عن أنّ الانتخابات ليست حلّاً أصلاً، فإنّ شرطَ تزامنِها ليس مسألةً هامشيّة، بل هو لبّ الموضوع، فالتراجع عنه يعني السير وراء السُّلطة في اعتبار حكومتها منقوصةِ السّيادة في الضفّة وغزّة هي الأولوية، بدلاً من التركيز على الجسم الذي ولّد هذه السّلطة ويعتبر مرجعيتها، أيّ منظمة التحرير. والتراجع عنه يعني كذلك أن "حماس" تخاطر بالثقة في أبو مازن، وتعتقد أن ما قُدّم لها من ضمانات سيعني فرقاً هذه المرة.
هل تستحق "منظمة التحرير" هذا الثمن؟
كما أنّ الترويج لانتخابات السّلطة على أنّها مقدمة ضرورية لانتخابات المنظمة، وأنّ الوصول إلى الثانية يتطلب منا الصبر على الأولى، هو نوع من الخداع لا أكثر. فمن المستبعد أن يسمح التيارُ الذي ثابرَ على تصفية المقاومة وحصارها أن يُدخل "حماس" والجهاد الإسلامي بكل سهولةٍ للمجلس الوطنيّ. ثمّ لم يشرح لنا أحدٌ إن كان الدخول لهذه الأجسام المُثقلة بالأمراض لن يكون عبئاً إضافيّاً كما كان الدخول في جسم السُّلطة. والأهمّ أنّ إعادة بناء منظمة التحرير لا يحتاج مؤتمرات في عواصم العالم بقدر ما يحتاج إرادةً سياسيّةً عند النخبة التي تُهيمن على "فتح".
يُحيلنا هذا الأمر إلى واقعٍ أكبر وأوسع تُهندسه السّلطة وتسيطر عليه. لقد ثبّتت النخبة الحاكمة في "فتح" من خلال التحوّلات الانحداريّة الطابع في مسارها التاريخيّ طبيعةَ العمل السياسيّ، وكأنه لم يعد مُمكناً إلا المُمكن الذي صكته "فتح" بنوعية الخيارات والمسارات المعروضة. "أزمة المشروع الوطني" الفلسطينيّ اليوم هي أزمة حركة "فتح" وأزمتنا كفلسطينيين مع مشروعها. لقد ثبّتت "فتح" شكلاً واحداً للسياسة، وكان التعويل على بقية الفصائل الفلسطينية أن تعمل على مشاغلة هذا الشكل وتغييره واجتراح طريقٍ جديد وشكل تحرريّ للسياسة قريب من الناس وآمالهم وهمومهم وبعيدٍ عن سقف "فتح" ومسارها.
لكن ما نشهده اليوم، أن الفصائل الفلسطينية، ومنها حركات المقاومة، تُجرُّ لتلعب على نفس الملعب، وفي ذلك استسلامٌ للأمر الواقع وتخلِ قدرتها على ابتكار الفعل السياسيّ أو مجاراته. فقد شهدت السّاحةُ الفلسطينيّة العديد من المواجهات التي حملت فرصاً أكبر من هذه الحفلة الوهمية؛ حروب غزّة الثلاثة، هبّة القدس، وغيرها، ولكن لم تجرِ المراكمةُ على هذا الجهد.
اقرؤوا المزيد: "هناك انقسام، ولكن حول ماذا؟"
كما أنّ عدم القدرة على اجتراح طريق جديد في الظروف الحالية لا يجب أن يعني القبول بالمطروح رغم مساوئه. وعدا عن "حماس" التي تنازلت عن بعض شروطها، فإن فصائل فلسطينيّة أخرى تعارض ملعب "فتح" لم تتقدم بخطوات فعليّة لقرع الخزان. هكذا مثلاً، أصدرت الجبهة الشعبيّة ورقةَ موقف تعبر فيها عن التحفظ على بيان القاهرة، وتؤكد على ضرورة إصلاح المنظمة بدايةً، لكن ماذا يحدث في النهاية؟ تجلسُ في نفس الحوار، إنّها تنتقد السقف، لكنها لا تخرج من البيت ذي السّقف المنخفض الذي تشتمه. كذلك الأمر بالنسبة لحركة الجهاد الإسلاميّ التي شاركت في حوار القاهرة ضمن هذا الترتيب فأعطته نوعاً من الشرعية، والتي رغم إعلانها عدم المشاركة في انتخابات السّلطة ما زالت تأمل في دخول المنظمة من خلال المجلس الوطنيّ.
ومن أصعب النتائج المترتبة على موقف فصائل المقاومة وطريقة تعاطيها المتكررة مع سياسات السّلطة أنّها تخسر شيئاً فشيئاً من رصيد ثقة ناسها وتعويلهم عليها، وتستنزف طاقات جماهيرها والمؤمنين بالمقاومة وأعصابهم في مساراتٍ محكومةٍ بالفشل لن تُفضي في أحسن الأحوال إلا إلى خسارة الوقت والجهد دون تغيير في الواقع، وفي أسوأها إلى سيناريوهات مصحوبة بتجديد شرعية التيار الذي من واجب تيار المقاومة أن ينزع الشرعية عنه، لا أن يمنحه ثقةً لا يستحقها.