22 يناير 2025

الوصايا العشر عند مقابلة ضحايا الإبادة

الوصايا العشر عند مقابلة ضحايا الإبادة

استمعت إلى الآلام ولحظات الانكسار، إلى الآمال والأحلام، في أزيد من مئة مقابلة صحفية مع ضحايا الإبادة طيلة أيام الحرب على قطاع غزة، خلال إنتاجي أفلامًا وثائقية وبرامج رقمية. تفاجأت من صلابة إيمان أهالي غزة رغم فداحة الفاجعة، واتّحدت مشاعري مع كثير منهم، كيف لا وهم أهلي وناسي!

لم تكن تلك المقابلات بالمهمة السهلة، إذ ليست المهمة نفسها التي اعتادها الصحفي قبل الحرب، بل مهمة تتطلب تحضيرًا جيدًا، وتدريبًا مستمرًا، وتستغرق وقتًا طويلًا، فقد وضعت الحرب تحديات كبيرة أمام الصحفيين خلال إجرائهم مقابلات صحفية مع الناس المكلومين، أو الناجين من الموت. فكيف أجريت المقابلات الصحفية خلال الحرب مع ضحايا الإبادة؟ وما الفِخاخ التي يجب أن يتجنبها الصحفي؟   

يد للكاميرا.. ويد للمساعدة 

يجب ألا نغفل عن أن الصحفي إنسان، كيف إن كان بالأساس ضحية كالضحايا الذين يقابلهم، وقد خسر الصحفيون من زملائهم أكثر من 205، قضوا شهداء حتى 16 كانون الثاني/ يناير 2025 عدا عن مئات الصحفيين المصابين. ووسط هذا العمل المحفوف بالموت، لا يمكن للصحفي أن يتجرد من إنسانيته وألا ينحاز إلى الضحايا الذين هم بالأساس من أهله وناسه والمحيطين به.

صحفية فلسطينية تواسي امرأة في حالة حزن وصدمة في مستشفى الأقصى في دير البلح، في 28 شباط/ فبراير 2024. (تصوير: وكالة فرانس برس)

والأمثلة كثيرة على ذلك، أذكر منها تجربة الزميل الصحفي إبراهيم العطلة خلال تصويره فيلم "مهمة إنقاذ في غزة"، حين وجد نفسه مضطرًا للهروب مع طاقم الإسعاف من موقع إجلاء مصابين بعد تجدد تعرضه للقصف، فحافظ على الكاميرا بيده توثق ما يجري، وفي الوقت ذاته كان يصرخ في أحد المسعفين ليجلب الطفل المصاب ويضعه على حجره، قبل أن ينطلق الإسعاف إلى المشفى ليوثق إسهامه في إنقاذ الضحايا، ويحصد لاحقًا عددًا من الجوائز الدولية.

الحزن ترف الحرب 

عانى الضحايا من الألم المركب: مصابهم الجلل في استشهاد أحبتهم، وفقدانهم أجزاءً من أجسادهم، وخسارتهم لبيوتهم وحياتهم السابقة. ورغم ذلك كله، لم يجدوا مبررًا للتعبير عن كل هذا الحزن ومشاعر الفقدان. فالمعركة مستمرة والحزن ترف لا وقت له، وكل من حلّ به مصاب ينتظر الحرب أن تضع أوزارها حتى يلقي عن كاهله حمل الجبال الرواسي.

شكل كبت الحزن عامل ضاغط على النفس كبير، يجعل من الضحية غير متقبلة لمصابها، وعاجزة عن التنفيس عن مشاعرها التي من شأنها إذا خرجت أن تحل محلها مشاعر أقل سوءًا على أسوأ تقدير.

أم تحظى بتعزية من نساء أخريات خلال وداعها جثمان طفلها بعد إخراجه من مبنى منهار إثر قصف الاحتلال مخيم النصيرات في 14 أيار/ مايو 2024. (تصوير: وكالة فرانس برس)

خرج الضحايا من مجتمع يحتضن أهل المصائب ويعينهم ويبقى جانبهم، لكن في هذه الحرب لم يُفتح حتى بيت عزاء لثلاثة أيام ليستقبل جموع الناس التي تتوافد لمواساة المكلومين، تليها أيام طويلة يستمر فيها الأهالي والأصدقاء بالتوافد والمواساة. لم يجد أهل المصائب من يطبطب عليهم، فكل من حولهم مصاب، ومن كان يتطوع دائما للمواساة أصبح اليوم أحق الناس بها، فمن يواسي من؟

حتى من تضلّع في تفجير ما ألمّ به من غضب، يأتي دور البعض في "التكسير" على أحزانهم، وما أسوأها من طريقة أن يستعرض أهل المصائب ما تعرض له الناس في مزايدة مقيتة، وإن كان هدفها إشعار المحزون أنه جزء من مجتمع المصائب، وأن مصيبته ليست شيئًا مما تعرض له فلان وفلان. ففي حرب غزة المثل القائل: "اللي يشوف مصيبة غيره بتهون عليه مصيبته"، مثلٌ غير صالح، فأقل مصيبة كبيرة ولا تهون أمامها غيرها من المصائب.

وأمام كل ذلك، لا يجد معظم أهل المصائب بُدًّا من الصمت القاتل الذي يأكل ما تبقى منهم يومًا إثر آخر.

الأسئلة الصعبة

ووسط ذلك كله، يأتي دور الصحفي الذي يحاول أن يأخذ من الضحايا أكثر مما يؤثر، الذين يجدون أنفسهم في بعض الأحايين أمام تجريد فاضح لمشاعرهم، ونَكءٍ لجراحاتهم لا يرحم مع كل مقابلة.

ورغم أن المقابلات الصحفية أصبحت لكثير من الناجين فرصة لنقل مناشداتهم لإنقاذ ما تبقى من أنفسهم وترميم ما يمكن ترميمه، فإن الناجي يجد نفسه أمام سيل من الأسئلة الصعبة التي تعيده إلى مشهد الحدث الذي يحاول نسيانه، والأسوأ من ذلك أن تُلقى عليه أسئلة غير لائقة، مثل: كيف شعرت حين أمسكت جثة أخيك؟ أو يد أمك؟ وغير ذلك مما يجعل المصاب يكاد يقسم ألا يفتح قلبه لصحفي آخر.

من جهة ثانية، يحمّل بعض الأهالي الصحفيين أدوارًا أكبر من أدوارهم المهنية، فالحاجة هائلة، والعشم كبير. فيتطوع صحفيون لجلب الدعم للعائلات وتبني قضايا بعضهم، وهو أمر محمود - لا شك - غير أن الصحفي ليس بإمكانه أن يتبنى الجميع أو يحمل ما لا يطيق، ففي نهاية الأمر هو صوت الناس، ولكنه ليس محقق أحلامهم، وإن كانت رغبته أن يلبي التطلعات كاملة غير منقوصة.

عالم أصم 

في بادئ الأمر، انكب الصحفيون على توثيق ما يحدث أملًا في التأثير على العالم فيتحرك لوقف الحرب، وهذا التوثيق للحدث بما يحمله من بشاعة استجلب غالبًا ضررًا كبيرًا على الضحايا الذين تنتهك حرماتهم، وتُعرض على الشاشات لحظات ضعفهم، وأكثرها خصوصية في حياة أحبائهم على مرأى الملايين ومسمعهم.

تقول إحدى الفتيات التي انتشر مقطع لها يوثق لحظة إنقاذها عقب نجاتها من القصف: "شاهدت مقطع الفيديو، وهذه ليست أنا، صحيح أنها ملابسي، وأنه بيتي المقصوف، لكن يستحيل أن أظهر أمام الناس غير محجبة، هذه ليست أنا".

فلسطيني يجلس بجوار جثامين شهداء من أقاربه في مستشفى ناصر في خانيونس، 17 تموز/ يوليو 2024. (تصوير: هاني الشاعر/الأناضول)

وعلى صعوبة ذلك الأمر على نفوس الضحايا وأحبائهم، فإن بعضهم قد يتقبله لقاء أن يكون سببًا في وقف معاناتهم ودافعًا لتحرك العالم باتجاه محاسبة من ارتكبوا الإبادة.

أما وقد انقضت في الحرب شهور تلو شهور، والوقت من دم، والعالم يتفرج على أول إبادة جماعية تعرض على الهواء مباشرة كما لو أنه مجرد مسلسل تلفزيوني أو فيلم سينمائي جديد، فإن ضحايا غزة يتساءلون: "لمين نصور؟".

تقول الفتاة ذاتها إنها ترجو أن تتحدث أمام الكاميرا بكل ما يعتمل في صدرها من أوجاع وآلام، لكن إن تحدثت بذلك فمن سيسمع: "لقد أصبحت ترند، وكانت النتيجة بضعة آلاف من التعليقات، فقط!"، فالحديث بالنسبة إليها أمر لا طائل منه.

نوثق لأنفسنا! 

بعد الشعور بالخذلان من العالم الخارجي، كان على الصحفيين أن يجدوا إجابة عن سؤال الناس: "لمين منصوّر؟"، ولا أكذبكم القول إن بعضًا من المقابلات مع الضحايا لم تتم، بسبب شعور الخذلان لديهم، وتوصلهم إلى خلاصة مفادها أن: "من نحاول إيصال صوتنا إليهم قد أغلقوا آذانهم، أو أنهم لن يفعلوا شيئًا سوى الاستماع والمشاهدة".

في تلك الفترة، لفتني تعليق الصحفي إسلام بدر مراسل التلفزيون العربي حين قال: "إننا نوثق لأنفسنا، أن يموت الضحايا في الضوء خير لهم من أن يموتوا في العتمة". وجدت في ذلك إجابة مقنعة لمن يستهجن منا رفع الكاميرا في وجوه الضحايا، ومواساة للنفس في أن سنين من العمل والالتصاق بهموم الناس لن تضيع سدىً، وعلى ما في الإجابة من أسى ووجع شديد بقدر خذلان الأرض، فإنها الحرب، وليس من خيار آخر.

أكثر من مجرد مقابلة صحفية

وإنني وبعد أن التقيت أزيد من مئة من الضحايا في مقابلات صحفية معمقة تتتبع ما مروا به من بداية الحرب، وأصعب ما لاقوه، وصولًا إلى وقت المقابلة، وليس انتهاء بما يأملون ويرجون من الخالق قبل عبيده، وجدتني دائما أحاول التخفيف عنهم وأن أطبطب عليهم.

ثم أجدهم ينفجرون بالحديث عن مشاعرهم، وما لاقوه من مرار الحرب. وفي نهاية اللقاء يكون عددٌا لا بأس به منهم قد هدأت سريرته ولو قليلًا، أو مؤقتًا، ويعبرون بالثناء - ولا شيء يستحق ذلك - لفرصة الحديث هذه التي أراحتهم. فقد شعروا أن صوتهم مسموع، ووجدوا في إذاعة ما في صدورهم شيئًا من المواساة لذواتهم المنكسرة، فيجدون بعدها شعورًا مؤقتًا بالراحة.

أما أنا، فأجدني بعد كل مقابلة محملًا بأطنان من المشاعر السلبية، يأكلني بعضها ويحول دون أن أواصل عملي أو أنام ليلي، وربما هذا أقل ثمن ندفعه نحن الصحفيين في هذه الحرب، فلا بأس!

امرأة فلسطينية في مستشفى شهداء الأقصى، وجهها مغطى بالدماء، بعد نجاتها من قصف الاحتلال منزلاً في مخيم البريج، في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024. (تصوير علي جادالله/الأناضول)

الوصايا العشر

بعد أكثر من 470 يومًا من حرب الاحتلال على قطاع غزة، أكتب هذه الوصايا لزملائي الصحفيين، نِتاجًا لتجربتي الصحفية في مقابلة ضحايا الحرب والإبادة طيلة الأيام الصعبة الماضية: 

  • لا تستخفّوا بأي جرح مهما صغر، استمعوا لكل كلمة حتى النهاية، أشعروهم بالأمان ليتحدثوا بكل ما يجول في خاطرهم.
  • احذروا الشفقة، يحدثني أحد الناجين كم أنه يكره نظرة الشفقة في عيون الناس، "هم حزينون على حالي، وأنا كذلك، لكن مزيدًا من نظرات الشفقة لا تفيد"، فليحذر الصحفيون من أن يضيفوا مزيدًا من تلك النظرات سواء من خلال أعينهم أو من خلال ما يعرضونه على الشاشات.
  • تعاطفوا معهم، انتبهوا لتعبيرات وجوهكم وانفعالاتكم في أثناء حديثهم، فهم يراقبونها جيدًا. 
  • امنحوهم الحق في البكاء متى أرادوا، والصمت متى أرادوا، واستقبال السؤال التالي متى أرادوا، وإنهاء المقابلة متى أرادوا. 
  • أخبروهم أن ما مروا به ليس شيئا يسيرًا، أخبروهم أن من حقهم أن يشعروا بكل السوء الذي تحمله الأرض.
  • إذا وجدتموهم غارقين في السوداوية، فذكروهم برحمة الله ولطفه وقدرته وحكمته، وحدثوهم أن عوض الله قادم لا محالة، وخذوا شيئًا من كلامهم عن الرضا بقضاء الله وذكروهم به.
  • لا تعارضوهم إن أنكروا شيئًا أو تحدثوا بسوء، فذلك سواد القلب يُلفظ خارجًا.
  • أخبروهم أنكم مسؤولون عما يقولون كما لو أنها مقابلتكم، وأخبروهم أنكم حريصون على ألا ينشر ما يسيء إليهم.
  • أخبروهم أنكم آسفون لما أثرتموه في أنفسهم من مشاعر، وادعوا لهم أمامهم بالخير.
  • سلموا عليهم وعانقوهم، وقبلوا رؤوسهم، الضحايا يستحقون كل شيء، وإن لم يكن بين أيديكم شيء سوى أن تستمعوا إليهم، فليكن.

انتهت المقابلة، وهذا خلاصة تجربتي خلال الحرب، التجربة التي لم تنته بعد وستمتد لشهور طويلة ربما، وسيترتب عن ذلك مراكمة مستمرة، وتعلمٌ دائم بحثًا عن إجابات لـ: كيف نقابل ضحايا الإبادة؟ وكيف نوثق وننقل قصصهم وآلامهم وآمالهم؟