مبالِغاً في افتعال حماسته، صعد إلى درج الطائرة القادمة من كيشيناو، عاصمة مولدوفا، ليحمل ويُقبِّل طفلاً أوكرانياً من المستوطنين الجدد القادمين إلى بلادنا على وقع الحرب في بلادهم. هكذا، بعد يومين قضاهما في الاتصالات الهاتفيّة المتتابعة للوساطة ما بين روسيا وأوكرانيا، ومن ثم زيارته "شبه السريّة" إلى موسكو، عثر نفتالي بينت، رئيس حكومة الاحتلال، على مشهدٍ آخر، يوظّفه للترويج لنفسه كزعيم قويّ جدير بقيادة "إسرائيل".
كانت تلك الطائرة أولى الطائرات الثلاث التي حملت أوكرانيين يهوداً ضمن رحلات مُنظّمة موّلتها منظمة صهيونيّة دوليّة تجمع اليهود والمسيحيّين الإنجيليين المناصرين للاحتلال، تُعرف باسم - International Fellowship of Christians and Jews. حطّت الطائرة الثانية في مطار اللد قادمةً من بولندا، والثالثة من رومانيا.
تعيش "إسرائيل" على الأزمات، وتتوسع بالاستفادة منها، بل إنّ نشوءها جاء في أعقاب أزمةٍ أوروبيّةٍ مطلع القرن العشرين، "حُلّت" على حساب أرواح الفلسطينيّين وممتلكاتهم ومستقبلهم. ولطالما استغلت دولة الاحتلال ظروف الحروب والأزمات العالميّة لتجديد مشروع الاستيطان في بلادنا وإمداده بالمزيد من المستوطنين من أجل حسم معركتها الديموغرافيّة مع الفلسطينيّين؛ من الاتحاد السوفييتي، إلى اليمن، والعراق، وأثيوبيا، وجورجيا، وغيرها من الدول.
ففي أعقاب الاحتجاجات التي نشبت في أوكرانيا عام 2014، وفي أعقاب الغزو الروسي لجورجيا عام 2008، هاجر بعض اليهود من تلك البلاد للاستيطان إلى فلسطين. وليس بعيداً عن يومنا هذا، الحملة التي قامت بها "إسرائيل" عام 2016، ونقلت فيها 19 يمنيّاً يهوديّاً على واقع ظروف الحرب هناك.
مصائبُ قومٍ عند قوم "فوائدُ"
وبالعودة إلى أوكرانيا، فقد وصل إلى فلسطين، يوم الأحد السادس من مارس/ آذار 2022، على متن تلك الطائرات الثلاث، حوالي 400 أوكرانيّ يهوديّ. ومن المتوقع أن يصل المئات هذا الأسبوع أيضاً، وتتنوع التقديرات بخصوص عدد المستوطنين الجدد الكلي الذي قد تستقبله إسرائيل"، ما بين 10 إلى 30 ألف مستوطن جديد.
كثيرٌ من هؤلاء المستوطنين الجُدد لم يكونوا ليهاجروا للاستيطان في فلسطين لولا ظروف الحرب ونشاطٍ إسرائيليّ مكثّف لاستجلابهم. في ظروف الحرب تلك، تُساهم "إسرائيل" في صناعة جزءٍ غير يسير من الخوف الذي قد يشعر به اليهود في بلدانهم، من خلال القول إنّ هناك خطراً على حياتهم، مع ترويجٍ زائدٍ للأخبار التي تتحدث عن حوادث استهداف اليهود ونشاطاتٍ معادية للسامية.
بالتوازي مع ذلك، تتكثّف الدعايةُ التي تقول فيها الدولةُ التي تعرف جيّداً مشهد ركض مستوطنيها إلى الملاجىء إنّ "الحياة في أكنافها أكثر أمناً". ولعلّ تلك الدعاية انعكست حتى في الاسم الذي اختارته لرحلات يوم أمس الأحد: "كفالة إسرائيل".
ويتأكد هذا التقدير بالأرقام، فبحسب تعبير الإعلام الإسرائيليّ نفسه، بدأت أرقام المستوطنين الجُدد تقفز فجأة على وقع الحرب، إذ لم تُسجّل قبل ذلك أرقام مميّزة أعداد الراغبين بالهجرة نحو فلسطين من أوكرانيا. أما بعد الحرب، فإنّ مكتب مندوبي وزارة الهجرة والاستيعاب يتلقى 1000 اتصالٍ من يهود أوكرانيا يوميّاً لطلب الهجرة.
وفي مقابل النهم لاستقبال الأوكرانيين اليهود، ومبالغة بعض الجهات الإسرائيليّة في تقدير أعداد من قد يهاجرون منهم إلى فلسطين، تضع "إسرائيل" القيود على هجرة الأوكرانيّين غير اليهود. فحتى تضمن المستعمرةُ الكبيرة "يهوديّتَها" النقية، اشترطت لأيام أن يدفعَ الأوكرانيّ غير اليهوديّ كفالةً تَصِلُ إلى 3000 دولار (10 آلاف شيكل)، لضمان مغادرته بعد توقف الحرب (نُشر مساء الاثنين أنّها ستُلغى، يبدو أن ذلك بسبب سيل الانتقادات الأوكرانيّة والإسرائيليّة على حدّ سواء). يُفرَض هذا الشرط وغيره من الشروط بالتوازي مع تصريحات دعائية إسرائيليّة تقول إنّ "إسرائيل" استقبلت العدد الأكبر من اللاجئين الأوكرانيين من بين الدول التي لا تجاور أوكرانيا، رغم أنّ عدد من استقبلوا لا يزيد عن ألفي أوكراني إلا بقليل.
الاستعداد من قبل الحرب وبعدها
بدأت دولة الاحتلال الاستعداد لاستجلاب اليهود من أوكرانيا للاستيطان في فلسطين، حتى قبل نشوب الحرب. ففي يناير/ كانون الثاني 2022 مثلاً، عُقِدَ اجتماعٌ مُوسع حضره ممثلون عن ديوان رئيس الحكومة، وزارة الخارجية، وزارة الأمن، وزارة الهجرة والاستيعاب، وزارة المواصلات، ووزارة الشتات، والوكالة اليهودية، ومؤسسة "ناتيف" (مؤسسة شبه حكوميّة تتابع شؤون اليهود في دول الاتحاد السوفييتي سابقاً). وبحسب ما نشر في صحيفة إسرائيليّة، فإنّ من نتائج ذلك الاجتماع تحديث خططٍ قديمة وضعتها "إسرائيل" نهاية الثمانينيات لاحتمالية تنفيذ عملية إخلاء جويّ واسعة وسريعة لليهود حول العالم في ظروفٍ أمنيّة معقدة.
ثم بعد نشوب الحرب توالت الاجتماعات على مستوى الوزارات والكنيست والمؤسسات اليهودية والإسرائيلية المختلفة. وكان التحرك سريعاً بشكلٍ لافت، ومن بين التجهيزات أن أقامت "الوكالة اليهوديّة" 6 نقاطٍ على الحدود الأوكرانيّة مع أربع دول: رومانيا، هنغاريا، مولدوفا، وبولندا، مهمتها استقبال الراغبين في الهجرة.
وعلى الأرض المحتلة، جُهِّزت غرف في الفنادق وبيوت الضيافة لاستقبال عائلات اللاجئين - المستوطنين إلى حين إسكانهم في بيوت مستقلة. يتلقى المهاجر الجديد فور وصوله منحةً ماليّة بـ1820 دولاراً تقريباً، وفي حال كان مع زوجه يتلقى 3350 دولاراً، وفي حال كان مع عائلته يتلقى 4650 دولاراً. ويُعطى المستوطن الجديد تعريفين: الأوّل "لاجئ حرب"، والثاني "مهاجر جديد"، ووفقاً للتعريفين تُغدق عليه المنح والمساعدات والتحفيزات للبقاء والاستيطان.
بحسب وزارة الهجرة والاستيعاب الإسرائيليّة، فإنّ هناك 50 ألف يهوديّ أوكراني تنطبق عليهم معايير قانون العودة الإسرائيليّ، في حين تُقَدّر مؤسسات يهوديّة أخرى العدد بحوالي 75 ألف يهوديّ، وآخرون يوصلون الرقم إلى 200 ألف. كذلك يجري الحديث، وإن بدرجة أقلّ، عن الروس اليهود الذين قد يهاجرون إلى "إسرائيل" أيضاً، ويُقدّر عدد الذين ينطبق عليها قانون العودة منهم، بحسب أكثر التقديرات تواضعاً، بحوالي 150 ألف روسيّ.
على حساب الفلسطينيّين وأراضيهم
من ناقلة القول إنّ هذه الموجات الجديدة تأتي لإمداد مشاريع الاستيطان على حساب الفلسطينيّين وأراضيهم. مع وصول أولى موجات الهجرة الاستيطانيّة من أوكرانيا، عَقَد يوم أمس مجلس الأمن القوميّ الإسرائيليّ اجتماعاً بحضور ممثلين عن وزارات الاستيعاب والهجرة، الإسكان والبناء، المالية، الصحّة، والوكالة اليهودية، و"دائرة أراضي إسرائيل".
طُلِب من الحاضرين تحضير الميزانيات والمخططات اللازمة لتوفير حلولٍ إسكانيّة لحوالي 50 ألف مهاجر يهوديّ جديد، على أن لا يكون ذلك على حساب الخطط ومشاريع البناء القائمة حالياً، أي بتخطيط وبناء مساكن جديدة مخصّصة للأوكرانيين. وعلى إثر الاجتماع شُكّلت لجنةٌ مهمتها تحديد مساحات من الأراضي للبناء السريع فوقها، واقتراح طرق تمويل مناسبة، وغير ذلك.
وفي النقب، الذي يواجه أهله سياسات تهجير متتالية، وسلبٍ للأراضي بالتجريف والمصادرة وغيرها، أعلنت عدة بلديات إسرائيلية، كبلدية بئر السبع وعراد، استعداداتها لاستقبال المُستوطنين الجدد. وأرسل رئيس بلدية بئر السبع رسالةً إلى رئيس حكومة الاحتلال يحثّه على جلب أولئك الأوكرانيين اليهود للاستيطان في المنطقة، حيث تتوافر فرص العمل في قطاعات مختلفة أهمّها التقنية العالية، بحسب تعبيره.
وكعادتها، تبحث "إسرائيل" عن فرصةٍ تضرب فيها عصفورين بحجر. فكما أنّها بحاجة لإرفاد مشروعها الاستعماريّ بالمزيد من المستوطنين مقابل طرد الفلسطينيّين وحصارهم، فإنّها تبحث أيضاً عن فرصٍ اقتصاديّة قد يأتي بها هؤلاء المستوطنين. إذ يرى البعض أن من بين الأوكرانيين اليهود الآلاف من المهندسين التقنيين والمبرمجين العاملين في قطاع التقنية العالية، والأطباء، الذين يمكن أن يسدّوا النقص في القوى العاملة في "إسرائيل.
في قطاع التقنية العالية وحده، تُشير التقديرات إلى أنّ "إسرائيل" تعاني نقصاً يُقدّر بـ15 ألف عامل. وبحسب التقديرات أيضاً، فإنّ هناك ما بين 15-17 ألف موظفٍ أُوكرانيّ يعملون في قطاع التقنية العالية الإسرائيليّة من خلال فروع لشركات ومراكز بحث وتطوير إسرائيليّة تتخذ من أوكرانيا مقرّاً لها. صحيحٌ أن هؤلاء ليسوا كلُّهم يهوداً، إلا أنّه بحسب تعبير أحد كتاب عواميد الرأي الإسرائيليين، فإنّ "الأزمة الأوكرانيّة فرصة لحلّ نقص القوى العاملة في قطاع التقنية العالية في إسرائيل".
كانت الطائرة القادمة من العاصمة المولدوفيّة تحمل المستوطنين الجدد، أول طائرة تحلق في المجال الجويّ هناك بعد توقفٍ لأيام طويلة بسبب الحرب. تلك "الاستثنائيّة" القادرة على فتح الأجواء، وتلك التجهيزات المتلاحقة، والأموال المتبرعة من كل حدبٍّ وصوب، والحفاوة في الاستقبال وتجهيز الشقق والموارد، تعود وتؤكد صفة تلك المستعمرة التي تنتعش على مصائب غيرها؛ تبدو المنقذ "السوبرمان" الذي يُحلّق لإنقاذ الضحايا في أحلك الظروف، والذي لا يتأخر عن عرض وساطته بين المتحاربين. والأهمّ، أنّ تلك المستعمرة "تُعيد تدوير" ما تعتاش عليه من مصائب وحروب، لتكون وبالاً جديداً يُضاف على قمعها وتنكيلها بالفلسطينيين في أرضهم.