31 يناير 2023

اللهث خلف الرغبة

اللهث خلف الرغبة

انتهى منذ وقتٍ طويل عصرُ الذات المريدة الحرّة في نضالاتها اليومية. لقد انتهى هذا النوع من النضال مع حركات التحرّر الوطني في أفريقيا وآسيا والحركات الاشتراكية في أميركا اللاتينية في ستينيات القرن الماضي. أما اليوم فإننا أمام مازوخية نضالية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. 

لم يعد التحرّر عن طريق الفعل والمبادرة هو أفق النضال وهدفه، إذ تحوّل إلى تثبيت الضحيّة لموقعها عبر الحاجة الدائمة إلى من يشجب ويدين ويتحدث باسمها، وبقدر ما تنجح في العويل والنواح وتسوّل مشاعر العطف والرحمة من الرجل الأبيض، بقدر ما ستحقق بعض المكاسب الآنية. وهي مكاسب لا تغيّر موقعها ضمن موازين القوى، إنّما على العكس تثبّت موقعها كضحية لا تحصل إلا على نزرٍ يسيرٍ من الشفقة.1من المثير للتأمل هنا استعاذة النبي ﷺ من "العجز والكسل والجبن والبخل وغلبة الديّن وقهر الرجال" وهي كلها صفات سلبية تبقي الإنسان أسيراً للواقع.

أين ذهبت الذات الثوريّة؟

جرى هذا التحوّل في طبيعة الذات الثورية نتيجة هزيمةٍ سياسيةٍ مُني بها اليسار في سبعينيات القرن الماضي، غيّرت من طبيعة وأدوات النضال كما غيّرت أسئلته السياسية الكبرى، وأنتجت ذواتاً جديدة تتسم بالتخمة والتمركز حول الذات وعبادة المشاعر. 

كان هذا ممّا لاحظه تيري إيجلتون، إذ كانت مواضيع الاشتراكية ودراسة العلامات والتوجه الجنسي على جدول أعمال اليسار في أوائل السبعينيات، ثم مع نهاية العقد صار الحديث يجري حول العلامات والتوجه الجنسي، ثم اكتفوا في أواخر الثمانينيات بالحديث عن التوجه الجنسي فقط.2تيري إيجلتون، أوهام ما بعد الحداثة، ص46. بهذا، صار ممكناً الحديث عن الثقافة البشرية لا عن الطبيعة البشرية، وعن الجندر لا عن الطبقة، وعن الجسد لا عن البيولوجيا، وعن المتعة لا عن العدل.3المصدر السابق، ص48. 

وإذا ما كان قد تملّك المحافظين وسواسٌ قهري بالأخلاق اختُزلت في الزنا والانحراف الجنسي واستُثني منها الاستغلال والظلم الاجتماعي، فإنّ اليسار-الليبرالي قد تحوّل إلى صورة مرآتية باهتة من خصومهم المحافظين، بحيث اختزلوا الحرية والسياسة في أسئلة الرغبة والجسد.4: المصدر السابق، ص104. وليس أدلّ على هذا التحوّل من مفهوم الجسد نفسه، فالجسد الذي كان يوماً ما مشروعاً وممارسةً وذاتاً فاعلة، كما عند مارلو بونتي، تحوّل إلى موضوعاً من موضوعات السلطة مع فوكو، وبدلاً من الحديث عن امتلاكنا أجساداً صار الحديث عن كوننا أجساداً.

هل الكبت أصل الشرور؟

كان هذا التحول إعلاناً لموت الذات الكانطية العاقلة بنت مشروع التنوير، لأجل ذاتٍ تتطابق مع رغباتها وشهواتها. وأُطلق العنانُ لخطابِ "كُـن نفسك"، الذي تعني ترجمته "كُـن رغباتك". وسادت فكرة مفادها أنَّ الكبت هو أصل كلّ الشرور والاضطرابات النفسيّة، وأنَّ تحرير رغباتنا والتصالح مع طبيعتنا هو السبيل الوحيد للتغلّب على عذابات الضمير. يتجلّى ذلك بشكلٍ واضح، على سبيل المثال، في خطاب الحريّات الجنسية وكلمات المتحولين جنسياً. فالمتحوّل يقول: "لقد ولدتُ في جسدٍ غير جسدي، لكنّي في أعماق نفسي أشعر بالانتماء للجنس المغاير، وعليّ الآن أن أصحّح الخطأ الذي وقع أثناء عملية الخلق وأفسح المجال لنفسي "الحقيقية" للظهور". 

اقرؤوا المزيد: ذكر وأنثى و98 آخرون.. ما الذي يقوله العلم؟

النفس في هذه الخطابات مصمتة وبسيطة؛ مستوى واحد مُسطّح لا مستويات متعددة تتصارع وتتجاذب، وما علينا إلا أن نُلبّي نداء الرغبة البهيمية كي نشعر بالسعادة والنشوة. غير أنَّ الإنسان، كما أوضح فرويد، لا يتطابق مع ذاته، فإنما هو كتلة من التناقضات المتصارعة. فتظهر الأنا (ego) التي تُعبّر عن الوعي الذاتي كميزانٍ بين الهو (id) الذي يُعبّر عن غرائزنا ومشاعرنا العميقة وبين الأنا العليا (super-ego) التي تُعبّر عن فاعلية الضمير والمسؤولية الأخلاقية. وتتشكل الذات من مجموع هذا التفاعل المستمر بين هذه المستويات الثلاث. 

إنّ اختزال هذا التركيب والتعقيد في النفس الإنسانية لم يُنتج إلا ذواتاً مُتخمة تلهث خلف إشباع رغباتها وشهواتها، وهي عملية لا تنتهي ولا سبيل لإشباعها. لذلك تنبّه جاك لاكان إلى أنَّ الرغبة هي أصل كل الاضطرابات النفسيّة. وفي السياق نفسه، أشار سلاڤوي جيجيك في إحدى محاضراته إلى زيف هذه "النضالات" لأنّها تجري في أفق رأسمالي، بمعنى أنها تتواطأ مع استغلال واستنزاف الرأسمالية لطريقة عمل الرغبة. 

ولكي نفهم لا-نهائية عملية إشباع رغباتنا واستحالتها وزيف سعيها، علينا أن نتوقف قليلاً لفهم كيفية نشوء وعمل الرغبة الإنسانية، ثُمَّ نبيّن كيف تستثمر الرأسمالية في بنية وعمل الرغبة من أجل مراكمة فائض القيمة.

كيف تعمل الرغبة؟

إن كان ثمّة مفهوم مركزي لكلّ أفكار جاك لاكان، فسيكون مفهوم الرغبة بكل تأكيد.5Dylan Evans, An Introductory Dictionary of Lacanian Psychoanalysis, p. 37. مشروع جاك لاكان الفلسفي، باختصارٍ غير مخلّ، هو محاولة لِحلِّ ألغاز الرغبة؛ إجابة عن كيفية نشوئها وطريقة عملها ونقد لمفهوم الرغبة النقية باعتبارها مَلكة من ملكات الإنسان.6Zizek, Tarrying with the Negative, p. 3.

في البداية، يفرّق لاكان بين الرغبة والحاجة والطلب، وهي مصطلحات ثلاثة تُشكّل جوهر النظرية اللاكانية. فالحاجة عبارة عن غريزة بيولوجية محضة كالجوع والعطش تتصاعد داخل الكائن الحي بشكلٍ مؤقت حتى تُشبع. ولأننا نولد في حالة من العوز والعجز التام فإننا نعتمد على الآخرين في إشباع حاجاتنا ونطلب ذلك عبر البكاء والعويل، قبل اكتسابنا القدرة على الكلام، للفت انتباههم لتلبية حاجاتنا. لكن سرعان ما يكتسب حضور الآخر (الأم مقدم الرعاية الرئيسي في هذه الحالة) معنىً إضافياً، إذ لا يقتصر حضوره على تلبية حاجاتنا بل يصير رمزاً للحب ومصدراً أساسياً لكل المتع التي تجري في جسد الطفل.

مع مرور الوقت تساهم تعبيرات الآخرين في خلق الروابط بين الحاجة والطلب، كما تساهم عملية التنشئة الاجتماعية في رسم القواعد التي يُعبّر من خلالها الطفل عن حاجاته، وبذلك يُستدخل الطفل في النظام الرمزي واللغوي والاجتماعي. وإذا كانت الأم الراعية هي مصدر اللذة ما قبل اللغوية والرمزية والاجتماعية، فإن نشوء الرغبة لا يحدث إلا من خلال ما يسمّيه لاكان بالإخصاء الرمزي، حين يدرك الطفل أنه لا يمكنه الحصول على كل ما يطلبه في كل وقت. فتأتي الـ"لا" من الوالدين لتعلن بداية عملية التنشئة الاجتماعية، ومن هنا تنشأ الرغبة التي فرّق بينها لاكان وبين الحاجة.7:Lacan, Seminar VII: The Ethics of Psychoanalysis, p. 54.

اقرؤوا المزيد: الإكراه على دين الليبراليّة

إذن، تنشأ الرغبة عن خسارة المتعة الكلية في مرحلة ما قبل الاستدخال في النظام الرمزي واللغوي والاجتماعي، عن فقدان ما يُطلق عليه لاكان مُسمّى "كل شيء" (Das Ding)؛ أي فقدان الأم الراعية مصدر اللذة ما قبل الرمزية واللغوية والاجتماعية. هذا الفراغ المتولّد عن تلك الخسارة هو فقدان الطفل لجزء من كينونته وليس فقداناً لشيءٍ خارجه، وهذا هو "الموضوع سبب الرغبة" (object cause of desire) أي الموضوع الذي نصبح راغبين بسببه، وهو ما سيطلق عليه لاكان "موضوع-أ الصغيرة" (objet petit a). 

بالتالي، نحن نرغب لأننا فاقدين لشيء ما ونسعى للحصول عليه. هذا الفقدان هو ما يجعلنا ذوات ناقصة غير مكتملة، هو ما يجعلنا نرغب في استعادة شيء مفقود، في استعادة حالة من المتعة الكاملة المسلوبة. وبسبب ذلك تقوم الذات باستيهام (fantasize) كل المواضيع التي يمكن من خلالها ملء هذا الفراغ واستعادة المفقود، وهي مهمة مستحيلة كما أوضح لاكان. ولأجل ذلك، نحن لا نتوقف أبداً عن أن نرغب في شيء ما. وما إن تتحصّل الرغبة على موضوعها سرعان ما تبحث عن موضوع آخر.8Lacan, Seminar XI: The Four Fundamental Concepts of Psychoanalysis, p. 103.

إلى اللانهائيّة وما بعدها

حسناً، إذا كانت بنية الرغبة هذه قديمة قدم الإنسان، فما علاقة الرأسمالية بهذا الموضوع؟ يلاحظ تود ماكجاون التماثلات بين طريقة عمل الرأسمالية وطريقة عمل الرغبة الإنسانية، فيشير إلى أن الرأسمالية هي أول نظام اجتماعي-اقتصادي استغلّ واستنزف بنية الرغبة لصالحه. فمهما حققنا من أهداف وجمعنا من سلع، لن يكون كافياً أبداً. فغاية الرأسمالية إعادةُ إنتاج نفسها إلى ما لا نهاية، مثلما تفعل الرغبة تماماً.9Todd McGowan, Capitalism and Desire, pp. 22–3. إنّ علينا أن نتخلّى عن كل متعة آنية وكلّ هدف تم إنجازه، لأجل هدف آخر في المستقبل من شأنه أن يحقق لنا تلك اللذة الكاملة المفقودة؛ عملية من التأجيل والإرجاء لا نهاية لها. علينا أن نُضحّي بأوقاتنا ومواردنا وما بين أيدينا، لأجل سراب في المستقبل. المفارقة أنّ هذه الهيدونية10كلمة يونانيّة الأصل، تذهب إلى أنّ الغاية من الحياة يكمن في اللذة. لتحقيق أكبر قدر ممكن من اللذة لا تتم إلا عبر الزهد والتضحية؛ أن نزهد فيما أنجزناه لأجل هذا السراب.

لفهم ذلك بشكل أفضل علينا أن نستعير تمييزاً آخراً من جاك لاكان. يميّز لاكان بين المتعة (pleasure) وبين التلذّذ (jouissance). فالمتعة، وفق فرويد ومن بعده لاكان، هي حالة الاتزان في غياب أيّ محفزات، فالمتعة ليست في الشبع بحد ذاته، ولكن في غياب الإحساس بالجوع. أما التلذذ فهو فائض من المحفّزات يعمل وفق دافع الموت (death principle)، الذي يتمظهر في الإكراه القهري على التكرار. وإذا ما أردنا إسقاط هذا التمييز على تمييز لاكان السابق بين الحاجة والرغبة، فسنجد أن المتعة تحقق لنا تلذذاً جزئياً يحقق غرض الحاجة وهي وحدها المتعة الممكنة والواقعية، بينما التلذذ هي تلك المتعة الكاملة التي تسعى خلفها الرغبة وهي متعة متخيلة وغير ممكنة.11

مأساتنا الإنسانية تتجلى في وقوعنا في قبضة هذا الخط الفاصل بين المتعة والتلذذ، بين المتعة الجزئية الممكنة وسراب المتعة الكاملة غير الممكنة. تتأسس الرغبة جوهرياً من خلال فانتازيا المتعة الكاملة، التي تجعلنا نتخلّى عما في أيدينا من متع جزئية لأجل تلك الفانتازيا، وهي ما تدفعنا للهلث خلف الأشياء والسلع عبر إرجاء لا نهاية له: أريد ذلك المنزل الفاخر وتلك السيارة الفارهة، وأتخيل أنني سأحقق تلك المتعة الكاملة بمجرد الحصول عليها. ولكن ما إن يتحصّل عليها يجد نفسه تنتقل إلى موضوع آخر، وهكذا يبقى المرء متنقلاً بين المواضيع المختلفة إلى ما لا نهاية.

اقرؤوا المزيد: "حتماً سأصل".. حتماً تحتاج إلى هذا المقال

يشير ماكجاون في كتابه "الرغبة والرأسمالية" إلى تمييز هيجل بين صورتين للانهاية، يجعل منه أهم مصادرنا لنقد الرأسمالية، بعد ماركس بطبيعة الحال. الصورة الأولى: اللانهاية السيئة، وهي تسلسل لا حد له مثل متتالية الأعداد التي لا تنتهي أو الخط المستقيم الذي تقع اللانهاية على طرفيه بلا نقطة انتهاء، وهذه الصورة الشائعة بين الناس. الصورة الثانية: اللانهاية الحقيقية، وهي متتالية لا حد لها من خارجها ولكنها ترسم حدودها بنفسها من داخلها، مثل ذلك الخط المستقيم حين ينثني من طرفيه فيشكّل دائرة ليس لها نقطة بداية ولا نقطة نهاية لكنها محددة ذاتياً.11Todd McGowan, Capitalism and Desire, pp. 136–7. 

ما يهمنا في هذا التمييز، هو الإشارة إلى أن الرغبة والرأسمالية تعملان وفق المعنى الأول للانهاية التي لا حدود لها من أجل وعدٍ بغدٍ أفضل لا يأتي أبداً. بينما إذا ما أردنا مقاومة هذه اللانهاية السيئة فعلينا أن نتبنى المعنى الثاني، أن نرسم حدود رغباتنا بأنفسنا. بالتأكيد نحن نحصل على متعة، ولو جزئية، حين نستهلك سلعة ما، لكننا نفشل في الرضا بهذه المتعة بسبب أوهام وفانتازيا المتعة الكاملة وعدد السلع اللامحدود، التي يقصفنا بها النظام ليل نهار لإبقائنا غير راضين بما في أيدينا. فكلما استهلكنا سلعة ما، يخبرنا النظام بأنه ما زال هناك المزيد من السلع التي لم نستكشفها بعد.

لقد تبنّى اليسار-الليبرالي اليوم الخطاب الشائع "كُن رغباتك"، وهو بذلك يتواطئ مع الرأسمالية عملياً، وإن عارضها خطابياً. لا ينتج هذا الخطاب إلا ذواتاً مُتخمة تلهث خلف الرغبة (أصل كلّ الاضطرابات النفسيّة) ولا تجد سبيلاً إلى الشبع، وإنّ الله لا يُحبّ المسرفين. إنّ المهمّة الأساسيّة، كما يقترح ماكجاون، هي أن ننتزع الرضا من قبضة المراكمة من خلال فضح زيف هذا اللهث خلف إرضاء رغباتنا. بالطبع، ليست المتعة بحد ذاتها عدونا الأيديولوجي، ولكن الكنز والمراكمة بكل ما تحمله من آمال كاذبة. لقد تنبّه ماركس إلى تلك الحقيقة حين كتب: "سوف تنتفي الرأسمالية جوهرياً إذا افترضنا أن المتعة هي الدافع المحرك لها وليس الإثراء بحد ذاته"،12Marx, Capital Vol. 2, Penguin, p. 199. وقد صدق.