19 أغسطس 2019

السياسة من وجهة نظر السرعة

السياسة من وجهة نظر السرعة

في كتابه "السرعة والسياسة"1"السرعة والسياسة.. من ثورة الشارع إلى الحق في الدولة". بول فيريليو. الشبكة العربيّة.2017، بالإنجليزية: Speed and Politics..يخبرنا بول فيريليو 2بول فيريليو (1932-2018): فيلسوف ومعماريّ فرنسيّ عُرِف باهتمامه البحثيّ والنظريّ في مواضيع التكنولوجيا والسّرعة والسياسة. Paul Virilio القصة التاليّة: عام 1934 أعلن هتلر الشروع في تصنيع سيارة فولكسفاكن3Volkswagenقبل ذلك سمّيت السيارة KdF Wagen أي "السّعادة من خلال القوّة"، وهو اسم فرع لجبهة العمل النازيّة. ، والتي تعني بالألمانيّة: سيّارة الشعب. تمكّن هتلر من إقناع 170 ألف مواطن بشرائها، قبل أن تنزل إلى الأسواق، وكان ذلك بمثابة استفتاء فحص هتلر من خلاله شعبيّته في الشارع، وذلك بعد تسلّمه الرئاسة بسنة واحدة تقريباً. 

تمثّل نجاحُ هتلر وقتها في خلق شعبيّةٍ له بشكلٍ سريعٍ، من خلال منتج السيارة، التي هي إحدى روافد العالم السّريع. لاحقاً، بعد أن صادرت الدولة الشّارع من النّاس ومن ثمّ مَنَحَتْهم الطريق، تشكّلت سلطةٌ فرضت عليهم مخالفات على السّرعة؛ ليس مسموحاً أن تُسرِعَ أكثر من 80 كم في السّاعة، وضبطتْ حركة المرور بمجموعة من القوانين؛ ليس مسموحاً أن تتجاوز إشارة حمراء، وحُرِم السّائق من النشوة التي تُصاحب القيادةَ السّريعةَ للمركبة، ثمّ ضُبطِت -أي القيادة السّريعة- كنوعٍ من أنواع الرياضة لها أماكنها الخاصّة.

يفرّق فيريليو بين الشّارع والطّريق. الطّريق هو ما عبّدته الدولةُ ووضعته، وما يرافق ذلك من تداعيات سلطويّة في السّيطرة على حركة النّاس، ولذا وُجد مُسمّى "قطّاع الطُرق"، لأنّ قاطع الطّريق يثور على النظام الاجتماعيّ والاقتصاديّ، ويحاول أن يقضي على الأمن الذي تفرِضُه الدولة كمُحدِّدٍ لحركة النّاس على الطّريق، فالطريق "فضاؤه الطبقي".

أمّا الشّارع، فهو مُتحرّرٌ من هذه السّيطرة، لذا تمشي السيّارات على الطّريق، بينما تكون الثورةُ في الشّارع. يشكّل هذا الضَّبط، بالنسبة لفيريليو، مثالاً مصغّراً على احتكار الدّولة للسرعة، فسيّارة الشّرطة بإمكانها أن تُسرِعَ على الطرّيق أكثر من السّرعة المُحدّدة للمواطنين.

السّرعة كمنصّة للتأويل

تظهر السّرعة هُنَا وكأنّها أرضيّةٌ معقولةٌ للدولة تلعب السّياسة فوقها، فالنجاحات الاقتصاديّة والعسكريّة والاستراتيجيّة للدولة إنّما تتحقق من خلال السّيطرة على الوقت؛ أيّ السّيطرة على السّرعة. إحدى الأمثلة الممتازة التي يطرحها فيريليو على ذلك تكمن في اشتهار بريطانيا؛ "المملكة التي لا تغيب عنها الشّمس"، بالساعات. إنّ مدلول ذلك في أنّ بريطانيا كانت تسيطر على السّرعة؛ أي على الوقت، لذا برزت سمعتها في تجارة السّاعات، وعُرف عنها أنّها مملكة لا يُمكنُ لِلَيلٍ أن يحلّ عليها. 

وللمفارقة، فقد صَدرَ كتابُ فيريليو قبل أربعة عقود من الزمن، حتّى تُرجم إلينا عربيّاً قبل عامين تقريباً. وعلى طريقته في تحليل الظواهر من خلال السّرعة، لا يعتبر فيريليو أن أوروبا "متقدّمة" لكونها أنتجت معرفةً أكسبتها سلطةً ما، لكنّ المهم هنا هو الفارق الزمنيّ، فالأسرع تاريخيّاً هو الذي امتلك السّلطة. فالقوّة والسّلطة والتطوّر بالنسبة إلى فيريليو هي مفاهيم محكومة أساساً بالانتباه إلى مسألة السّرعة، بوصفها جوهر العصر الحالي.

هكذا، يقترح التاريخ منصةً مختلفةً لفهمه؛ السّرعة وقد تمكّنت من فرض هيمنتها على التغيّرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، بل وفي أخذ التاريخ إلى مكانٍ وزمانٍ مختلفين. وإن كان مكان المعركة الأول هو في ميدان الحرب، فإنّ المعركة اليوم، في زمن السّرعة، أصبحت في امتلاك الوقت، لا ميداناً يقيّدها. وهكذا أصبحت السّرعة ميداناً بديلاً عن المكان، تُمارس السّياسةُ حركتَها فيه. يقول فيريليو إن السّلطة ليست سلطة الشّعب (الديموقراطيّة)، وإنما سلطة السّرعة (الدروموقراطيّة)، والثورة الفعليّة التي عاشها "الغرب" هي ثورة درومولوجيّة (أي متعلقة بالسّرعة)4الدرومولوجيا Dromology: مشتقة من كلمة "Dromos" في اليونانية القديمة وتعني "السباق"، والمصطلح طوّره فيريليو، ويعني به علم أو منطق السّرعة.، وليست ثورة صناعيّة. 

إذن، يُقارب فيريليو الظواهر السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، من خلال السّرعة التي نشأت تاريخيّاً في المؤسسة العسكريّة، قبل أن تصطبغ الأخيرة بها وتصبح سمّتها الأساسيّة. ويقدّم نقداً للفهم الماركسيّ بناءً على هذا الفهم، حيث أنّ "سلطة البرجوازيّة هي سلطة عسكريّة قبل أن تكون اقتصاديّة"، كما يقول. أي أن الفروق الطبقيّة كانت تظهر في المؤسسة العسكرية قبل أن تكون في المؤسسة الاقتصاديّة. والبروليتاريا تشكّلت في الحرب قبل أن تتشكّل في المصنع، وارتبطت مع العبيد الذين عملوا في تحريك البواخر العسكريّة، فيما كان "الأحرارُ" جنوداً في البرّ. 

ليشرح فكرتَه أكثر، يضرب فيريليو مثال "النظر من فوق"، إذ كانت المدينة تاريخيّاً قد نشأت على شكل حصنٍ منيعٍ، استجابةً للحاجة العسكريّة تحديداً. مكنّت المدينة التي يسوّرها جدارٌ عالٍ وأبراجٌ وقلاعٌ من السّيطرة على الفضاء المفتوح أمام المدينة، ورصد القادمين من بعيد، وبالتّالي تحقيق أفضليّة السّرعة في ردعهم ومنع هجومهم. لهذا تحديداً، فإنّ التاريخ بالنسبة لفيريليو هو ما أنتجته العمليّاتُ العسكريّة؛ ما ساقته "آلة الحرب"، لا "آلة المصنع".

أما الدولة، فباستطاعتها ضرب صاروخ باليستي من منطقتها الجغرافيّة، وما هي إلا دقيقتين حتّى تصل هدفها. حتّى قديماً، وقبل هذا التطور التكنولوجي، يخبرنا فيريليو أن الإمكانيّة الوحيدة لتفادي الجندي للرمح كانت الركض باتجاهه، فالمسألة بالنسبة إليه تتعلق دوماً بالذي يتحرك أسرع. 


غير أنّ الرصاصة التي هي "محضُ امتداد لصخرة قابيل"، كما يصفها الشاعر سيّد يوسف، قد حرمتنا من هذه الإمكانيّة، وأوجدت إمكانيّتها الخاصّة بها، فالرصاصة قاتلة وقويّة لأنّها سريعة جداً. وقد أتقن يوسف وصفها بمقارنتها مع السيّف: "الرصاصةُ كالسيفِ ..لا..لا .. هما محضُ ضدّينِ لا يعرفانِ اللقاءْ.. هو من طبعِه أنْ يديرَ رحاهُ  صباحاً فليسَ يرى في المساءْ .. وهي قطةُ ليلٍ .. تبينُ وتخفى .. وتنقضُّ من دونِ حرفِ نداءْ .. الرصاصةُ لا تشبهُ السيفَ في أي شيءٍ - سوى لحظَتَيْ الاحتواءْ".

وفق هذا المنطق فإنّ المعركة في زمن السّرعة قائمة على امتلاك الزمن، وما يترتب عليه من امتلاكٍ للفضاء، وبالتالي للقوّة. إذا ما اختبرنا منطق السّيطرة على الوقت فلسطينيّاً، نلاحظ أنّ "إسرائيل" انتبهت إلى ذلك، ففي حرب عام 67 جرّت "إسرائيل" زمن الـ 48؛ التاريخ المفترض لبداية القضية الفلسطينيّة كقضية سياسيّة، إلى تاريخٍ وزمنٍ آخر، هو الـ67، وصار التأريخ للقضيّة الفلسطينيّة، عربيّاً وعند التنظيمات السياسيّة الفلسطينيّة، يبدأ من هذا التاريخ.

يحارب استعمار اليوم على الوقت، فيما يُدعى "حرب الوقت"، كما يسمّيها فيريليو. فالاستعمار لم يعد على شكله القديم، حيث لم يعد المكان وما فيه من خيرات محلّاً للصراع. وعلى الرغم من هذا الموقف المتطرّف، فإنّ السّرعة على الأقلّ حلّت كجوهر للسيطرة بدلاً من الأرض، فسرعة الاقتصاد العالميّ في فتح أسواقه هي الشّكل الجديد للاستعمار. 

إنّ الزمن اليوم مصبوغٌ بالسرعة ومحكومٌ بها، فمثلاً إنّ توقفتَ بضع أيام عن متابعة مُجريات الأمور في المنطقة العربيّة ستجد صعوبة في استعادة معرفتك عن الأحداث لأنها غالباً ستكون منتهية الصلاحيّة. تماماً كما تفعل الرأسماليّة بكَ حتّى تستهلك أكثر، فالهاتف الذكيّ، بما يحمله من تطوّرٍ تقنيٍّ، يعمل بمنطق "الأبديت" الذي يجعل من صلاحيّة استخدامه تنتهي أسرع بكثير من جهاز "الكشّاف".

سرعة ضدّ سرعة الدولة

"[...] يحتاج الإسرائيليون من لحظة إطلاق الصّواريخ، وبالتالي اكتشاف وتحديد نقطة الإطلاق، وحتى لحظة إرسال سلاح الطيران لتدميرها، إلى تسعين ثانية. ولكن بفعل سنوات من التدريب الجاد تمكّنت وحدات الصواريخ لدى حزب الله من القيام بالانتشار، إطلاق الصواريخ، والانسحاب بأمان وإخفاء المنصات المتحركة في أقلّ من ستين ثانية (حتى لو كنت مدخّناً شرهاً، ستحتاج لو قررت إشعال سيجارة وتدخينها إلى ثلاثة أضعاف المدة الزمنيّة التي استغرقت المقاومين لتجهيز وإطلاق صاروخ "خيبر 1" على العفولة ثم الانسحاب بأمان وإخفاء منصات الإطلاق كما حدث في 28 تموز)".

يُشير وصف سيف دعنا هذا، في مقالته "مقاومة حزب الله في تموز: الأعجوبة الهندسيّة"، إلى سرعة تسابق سرعة أخرى؛ سرعة حزب الله في إطلاق الصّواريخ ومن ثمّ إخفاء منصات الإطلاق، والسّرعة التي تحتاجها "إسرائيل" لتدمير تلك المنصات، وذلك بفارق زمنيّ قدره 30 ثانية. إنّ الإخفاء مسألة هامة في السّرعة، كما يصفها فيريليو على أنّها "فن حركة الأجسام غير المرئيّة". "حماس" فعلت ذلك في حروبها أيضاً. وإضافةً إلى سرعة إطلاق الصّواريخ، كانت "حماس" تُخفي مكان المنصات عن طريق إشعال عجال السيّارات (الكوشوك) في عدّة مناطق للتشتيت والإخفاء، وهو فعلٌ ينطوي على حركة سريعة. 

إنّ القناعة الأساسيّة التي يُخبرنا بها فيريليو، هي أن السرّعة التي هي في بادئ الأمر حركة ما، إنّما تشترط عدم التوقف عن الحركة، فالذي يتوقّف عن الحركة يموت. وهذا تكنيكٌ يُستخدم في حرب العصابات، فالحركة السّريعة في الهجوم والانسحاب، إنما هي شرطٌ أساسيٌّ للبقاء حيّاً في مواجهة سرعة أخرى؛ أي سرعة الدولة والنظام.

وهذا يُحيلنا إلى استنتاجٍ آخر، ففي هذه الحالة، لا يبدو أنّ الدولة تنزعج تماماً من استخدام غيرها للعنف، بقدر انزعاجها من محاولة غيرها التفوّق على سرعتها. ولأنّ الجوهر هو السّرعة، فالعنف اليوم إنّما هو كذلك لأّنه عنفٌ سريعٌ بالأساس. يساعدنا هذا على فهم "الإرهاب"، ليس بوصفه نزاعاً حول العنف واستخدامه، وما يرتبط بذلك من طرح السؤال المركزيّ: "من يحتكر العنف؟"، والذي عادةً ما يُطرح عند الحديث عن حدود سلطة الجماعات "الإرهابيّة" في مقابل سلطة الدولة. وفق منطق السّرعة، يصبح السؤال الأكثر دقّة هو: "من يحتكر السّرعة؟".

والسّرعة هنا ليست فقط على مستوى الفعل، بل كذلك على مستوى التعريف. لقد سبقتنا الدولة، والدولة الاستعماريّة بالأساس، في تعريف "الإرهاب". وبالتالي فإنّ أي تعريف جاء بعده كان ردّة فعل، فإمّا كان خطاباً مُحافظاً ومُتساوقاً مع خطاب الدولة، يدعو كلَّ عنفٍ يُمارس خارج حدود الدولة "إرهاباً"، وإما كان مُناقضاً لها أو حتّى نقديّاً للنقاش كلّه.

إنّ سؤال السّرعة، الذي استبدلناه بسؤال العنف، هو سؤالٌ مستندٌ بالأساس على الذي يحتكر السّرعة، وبالتالي السلطة الشرعيّة والفعليّة للعنف، ويتم تخريج ذلك لصالح الدولة تحت مظلّة الديموقراطيّة. فيما توضع سرعة الجماعات الأخرى، التي سُميت "إرهابيّة" كتبريرٍ لمواجهتها، تحت الضوء، وتكون سرعة الدولة -بوصفها عنيفة- فوق الضوء.

لتوضيح ذلك، عندما فجّر شخصٌ نفسه، ينتمي إلى تنظيم الدولة الإسلاميّة - "داعش"، في مقهى في مدينة اسطنبول التركيّة، في ليلة رأس السنة، ضجّ الإعلام والرأي العام على هذا السلوك المُدان. لكنّ الذي غاب عن الكاميرات حينها، أنّ التفجير جاء كردة فعل على حادثة حصلت قبل وقت قصير من هذا التفجير، حين أسقطت الطائرات التركيّة الصواريخ على مدينة "الباب"، التي كانت تسيطر عليها "داعش" حينها، وقتل فيها الكثير من الناس دون أي تمييز بين مُقاتل ومدنيّ.

ليس ذلك تبريراً لأي فعل، لكن الذي أريد الإشارة إليه هو أنّ ثمة عُنف يُرى وآخر لا يُرى، وهذا الثاني تنجح الدولة في إخفائه، لأنّها بالأساس تبرع في إخفاء سرعتها التي تولّد العنف. إنّ سرعة الدولة الرأسماليّة مثلاً، تجعل أعداداً كبيرة من الفقراء يموتون دون أن ندري بهم، لأنّ تلك الأعداد لم تستطع الالتزام بشرط السرعة الذي تضعه -أي السّرعة نفسها- للبقاء على قيد الحياة.

وهكذا فإنّ انعدام الحركة السّريعة يقتل، ومحاولة التفوّق على سرعة الدولة يجعلك "إرهابيّاً" فتُحارب. إذا ما ألقينا نظرة على حركة تنظيم الدولة الإسلاميّة -"داعش"، فإننا نراها امتازت بحركة سريعة، ومكّنها انتشارها في أماكن مختلفة من العالم من الإفلات من محاولات الرصد. كما استخدمت "داعش" التكنولوجيا المتفوّقة في عملياتها، الأمر الذي يعكس استعارتها لنفس منطق السّرعة الذي تستخدمه الدولة. فالعصر الذي نعيشه، يُشكّ بمن لا يستخدم التكنولوجيا لا العكس. 

هذه التكنولوجيّا مهدّت لوجود مجال أمني يستفيد من الخوارزمية، وذلك لمعرفة "الجريمة" قبل وقوعها. إلا أن السرعة التي تمتاز بها الخوارزميّة، قد تجاوزتها "داعش" حين أغرقتها بالبديهيّات، كما يتضح من المثال الذي سنذكره لاحقاً. وهنا يظهر إنزعاج الدولة، في مصادرة غيرها للسرعة التي تُعوّل عليها في أمنها. ففي إحدى عمليّاتها في ملعب في فرنسا، قامت "داعش" بالترتيب للعمليّة من خلال لعبة بلايستيشن، وهناك جرت المحادثة بين المنفّذين، حتى أصدروا قراراً داخل اللعبة بـ "التفجير"، غير أن التفجير كان على أرض الملعب، لا في اللعبة.

كما أنّ طريقة حكمها البلد الذي تستقر فيه، اتخذت شكلاً هدفه أن تكون سريعة في السيطرة على النظام بعيداً عن البيروقراطيّة، فمثلاً لم يكن هنالك مركز واحد للشرطة في المدن التي سيطرت عليها، إنّما كانت الشّرطة تتواجد في كلّ المدينة، فالشّرطي هو كلّ شخص أو مجموعة يقطنون في عمارة سكنيّة، وبالتالي تكون كلّ عمارة سكنيّة مركزاً للشرطة.

إنّ الحرب اليوم، هي حرب على السرعة؛ من يمتلك أسلحة أشد فتكاً قبل الآخر. ولعلّ ذلك يذكّرنا جيّداً بالحرب الباردة، بين الولايات المتحدّة الأميركيّة والاتحاد السوفيتي، حين كانت المنافسة بين المُعسكرين حول من يسبق الآخر؛ في السلاح النووي، في الوصول إلى القمر، في عدد الجنود، في استقطاب الدول. وفعلاً سبقت أميركا الإتحاد السوفيتي، فربِحت.

وعلى الرغم من أنّ هذا النمط هو مسألة حديثة، إلا أنّه أيضاً له صيرورته التاريخيّة. فكان من يُطلق السهم أولاً، ومن يقتنص الفرصة أولاً، ومن يهاجم أولاً، مع تحديد الهدف، يفوز. وهذا امتياز اليوم، أنّ سرعة الفعل باتت أقل خطأ بفعل التكنولوجيا. انتبهت الدول، تحديداً أميركا وروسيا إلى مسألة السرعة في حروبها في المنطقة العربيّة، ولذا كان شاغلاً بالنسبة لها من يظهر على المشهد أولاً، بالتالي يُعطيها الأولويّة في السيطرة عليه.

إنّ القضيّة على ما يبدو في حروب اليوم، هي قضيّة احتكار الحركة؛ احتكار السرعة، ومن بإمكانه التحرّك في المجال العام بقوانينه لا بقوانين الدولة. تكون المسألة هنا، بالنسبة للدولة، في من يملك الحق في أن يكون سريعاً. أو بمعنى آخر، ما هي السرعة التي تُتيحها الدولة لمن هو خارجها؟ وبالتالي المجال أو الفضاء الذي يتحرّك فيه. 

تمارس الدولة تطرّفاً وإرهاباً أيضاً، في تحكّمها بالحركة والمجال والسرعة والعنف. لكنّ هذا الإرهاب صعب الرؤية للسرعة التي يمتاز بها، فنُحرم من النظر إليه؛ إنّه يمرّر علينا من وراء حجاب. فتصلنا مثلاً الرواية التي يستند عليها الإعلام الغربي، فيما رواية الجماعات "المتطرّفة" لا نسمع بها. هذا رغم أنّ جماعة كـ"داعش" كانت سريعة في إنتاجاتها المرئية ورفعها على الإنترنت، وذلك قبل أن يجد النظام وسيلة للحذف. 

على ضوء ذلك، تبدو القراءة المُستندة على احتكار العنف في مفهوم "الإرهاب" صبيانيّة في التعامل مع الدولة، حيث أنها تتناول حركة الدولة وردة فعلها بناءً على "الأنا" لديها. ليست المشكلة هنا، بالنسبة للدولة، في احتكار من هو خارجها للعنف، إذ كان بإمكانها لو أن هذا صحيح (سيُعجب ذلك أصحاب نظريّة المؤامرة) توجيه هذا العنف المتطرف لما هو في صالحها، وأن لا يصل هذا العنف إلى حدودها الدولاتيّة، وهذا ما لم يحصل لا في أميركا ولا في فرنسا. 

وهكذا، وبالاستعانة باشتغال فيريليو، يكون التعريف الأدقّ للحركات المسلّحة الخارجة عن الدولة، والتي يُطلق عليها غالباً حركات "إرهابيّة"؛ في أنّها تلك الحركات التي لا تلتقط خوارزميّاتُ الدولة سرعتها.