يُنشر بالتعاون مع شبكة قدس الإخبارية.
يوم آخر يمرُّ على المعتصمين من حراك "من أجل حياة كريمة للأشخاص ذوي الإعاقة في فلسطين" داخل المجلس التشريعي في رام الله. يلتف المعتصمون حول مدفأة كهربائيّةٍ صغيرة ويتبادلون الحديث حول خطواتهم القادمة. خيار التراجع ليس مطروحاً منذ البداية، ولن يُفك الاعتصام هذه المرة إلا بالاستجابة الفعليّة لمطلبهم بالحصول على تأمينٍ صحيٍّ شامل يُغطي احتياجات ذوي الإعاقة. فالحراك اتخذ قراره أنّه لن يُلدَغ للمرة الثانية من ذات الجحر، بعدَ عدم إيفاءِ السُّلطة الفلسطينيّة بوعودها له قبل عاميْن.
وبينما يواصل الحراك اعتصامَه العنيد متمسكاً بانتزاع واحدة من حقوقه الأساسيّة التي تتنصل السُّلطة من تنفيذها منذ عام 1999، نُظّم في روابي حفلٌ لإحياء اليوم العالميّ لذوي الإعاقة برعايةٍ من رئيس الوزراء الفلسطينيّ أحمد اشتية وحضور محافظ رام الله والبيرة ليلى غنام ورجل الأعمال بشار المصري تحت شعار "إصرار لتكريم أصحاب الهمم".
تجاهل المُنظِّمون للاحتفال المعتصمين منذ أكثر من شهر لانتزاع حقوق الآلاف من ذوي الإعاقة في الضفّة، واكتفوا بتكريم سبعة أشخاص من ذوي الإعاقة نجحوا في مبادراتهم الشخصية، أو "الريادية" كما يصفها الاحتفال. وبذلك، حاولت السُّلطة إيصالَ رسالةٍ مبطنةٍ لذوي الإعاقة؛ أن انهضوا وحدكم دون أن تطلبوا منا شيئاً.
من حَضَر ومن غاب
في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، استأنف الحراك خطوته التي أُحبطت عام 2018 بوعودات قطعتها السّلطة الفلسطينيّة آنذاك. إلا أنَّ الحراك، هذه المرة، رفع مطلب تأمين صحيٍّ شامل، كمطلبٍ وحيد، بعد ما كشفه انتشار جائحة كورونا من تقصير وإهمال طال قطاعَ ذوي الإعاقة، والذي يضمُّ -حسب بيان الإحصاء الفلسطينيّ عام 2019- نحو 93 ألف فلسطينيّ في الضفة والقطاع.
ويضمُّ الحراكُ نشطاء من ذوي الإعاقة كانوا فاعلين من خلاله منذ بداية انطلاقه قبل عامين، رافضين وَسْمَه بأيّ صبغةٍ حزبيّةٍ أو فصائليّةٍ أو حتى مؤسساتيّة، ومعتبرين محاولات تسييسه عام 2018 واحدةً من الأسباب التي أدّت إلى إفشاله. وتساند الحراك مجموعاتٌ وأجسامٌ مَعنية بذوي الإعاقة بانضمامها ومشاركتها لفعالياته الأخيرة، دون إعلان رسميٍّ لكونِها جزءاً من الحراك.
شذى أبو سرور (35 عاماً)، منسقة الحراك، ومعها أربعة آخرون من ذوي الإعاقة يُمثلون الحراك يتواجدون على مدار السّاعة داخل المجلس التشريعيّ الذي اختاروه لرمزيته بسن التشريعات والقوانين التي من المفترض أن تحفظَ حقوق كلّ فئات المجتمع، وإن كان مُعطلاً منذ نحو 13 عاماً. وحسبما وصل لعلم الحراك منذ انطلاقه، فإنّ تواجد عددٍ أكثر من ذلك- أي أكثر من بضعة معتصمين- سيجعلهم عرضةً لقمع السُّلطة، تحت ذريعة عدم الالتزام بالتدابير الوقائيّة. إلا أنّ الوفود المتضامنة - وإنْ كانت قليلة- من الجمعيات والمؤسسات المعنيَّة بالقضيَّة، لا تتوقف عن الحضور اليوميّ ومساندة المعتصمين في فعالياتهم الاحتجاجيّة المتنوعة التي نُظمت معظمها داخل مبنى المجلس أو على أبوابه.
وحين انطلقَ الحراكُ لتنظيم تظاهراتٍ في الشارع منعته الأجهزة الأمنيّة، فمُنعت التظاهرات، التي شارك فيها العشرات، من التوجه من محيط المجلس التشريعيّ إلى مقرّ مجلس الوزراء، وقد نشر الأمن متاريسه وقواته فارضاً إغلاقاً على المنطقة الممتدة بين المجلسيْن. جرى ذلك في تظاهرة نُظمت في التاسع من نوفمبر/ تشرين ثاني 2020، وخلال أخرى في اليوم الـ26 من الشهر ذاته، وخلال التظاهرة التي انطلقت في الثامن من ديسمبر/ كانون أول. ولم تتمكن أي من هذه التظاهرات من الوصول إلى مقر رئاسة الوزراء. وقبل أيام وصف مدير عام ديوان وزارة الصحّة الحراك بأنّهم "أصحاب أجندات وأدوات لجهاتٍ أخرى".
وغاب بشكلٍ واضحٍ حضورُ الأحزاب وممثليهم عن المشاركة في فعاليات الحراك ومساندته، ولم تَنشرْ أيّ تصريحاتٍ أو بياناتٍ للضغط على الحكومة أو التشديد على حفظ حقوق ذوي الإعاقة. كما غاب عن الحراك وفعالياته الاتحاد العام للمعاقين الفلسطينيين أحد أقدم المؤسسات الفلسطينيّة لذوي الإعاقة، واكتفى بدوره الرسميّ كونه جزءاً من اللجنة التي شكّلتها الحكومة لدراسة مطالب الحراك. ولم تصدر عن الاتحاد أي تصريحات سوى تلك التي تؤكد متابعته لملف الحراك، متخذاً الحياد من مطالب الحراك ومساعيه.
المطلبُ الوحيد
لا يملكُ الأفرادُ ذوو الإعاقة تأميناً صحيّاً شاملاً، وهذه الحقيقة تقودُ الحراكَ الآن. يعتبرُ الحقوقيّ عصام عابدين أنَّ غياب التأمين الصحيّ غير متعلق بالقانون، وإنّما بغياب الإرادة السياسيّة لإنفاذ كلّ الحقوق الواردة في قانون المعوقين الصّادر عام 1999، أو القانون الأساسيّ الفلسطينيّ الخاصّ بذوي الإعاقة لعام 2002. يقول عابدين: "هذه القوانين حبر على ورق منذ إقرارها، ما يعكس حجمَ الظلم التاريخيّ الذي يتعرض له الأشخاص ذوو الإعاقة في مختلف الحقوق".
رغم أن القانون يضمن حق ذوي الإعاقة، إلا أنّ الترجمة العمليّة له المُمثلَة بنظام التأمين الصحيّ الحكوميّ، والمقر عام 2004، استثنى ذوي الإعاقة من خدماته الصحيّة. يُقدّم نظامُ التأمين الصحيّ خدماته لمن لديه إعاقة تزيد نسبتها عن 60٪، خلافاً لقانون المعوقين الذي ينصّ على المجانيّة دون تحديد نسبةٍ للإعاقة. يقول عابدين: "حتى ذوي الإعاقة الذين يشملهم النظام فهم لا يستفيدون من خدماته، لأنه يستثني كذلك رزمةً من الخدمات الأساسيّة مثل الأجهزة المساعدة وعمليات علاج التقرحات التي يعتبرها عمليات تجميليّة"، رغم أنّها مسألة حياة أو موت لكثيرين. واستثناء ذوي الإعاقة من نظام التأمين الصحي الحكومي يتطلب وضع نظام قانون جديد ينصّ على معايير الاستحقاق وسلة الخدمات للأشخاص ذوي الإعاقة، والرقابة على تنفيذ النظام، وموارده المالية.
اقرؤوا المزيد: الأجور في فلسطين.. الحدّ الأدنى من الحياة الكريمة
من جانبها، تزعم الحكومة أنَّ توفير تأمين صحيٍّ شامل لذوي الإعاقة يُشكّل عبئاً ماليّاً جديداً سيقع على عاتقها، وهو ما يحول دون إقرار النظام وتنفيذه. في المقابل، قدّم الحراك مسودةً لنظام القانون من أجل ضمان حقوقهم، وفي الفصل الخامس منها حرصوا على اقتراح الموارد الماليّة التي تضمن تطبيقه. بحسب المقترح في ذلك الفصل، تتوّزع الموارد الماليّة للنظام المقترح على ثلاث قنوات: الأولى تتمثل بالمخصصات الماليّة التي يتم رصدها في موازنة وزارة الصحّة من الموازنة العامة، والثانية تتمثل بالمنح والمساعدات غير المشروطة من الدول والمنظمات الدوليّة والمنظمات غير الحكوميّة، والثالثة تتمثل بالمسؤولية الاجتماعيّة للشركات والتي تشكّل 5٪ من أرباحها السنويّة.
يُعلق عابدين على ذلك بالقول إنّ 46 شركة مساهمة عامّة مُدرجة في بورصة فلسطين، تبلغ أرباحَها السنويّة 290 مليون دولار، ما يعني أنّ نسبةَ الـ5٪ التي يقترحها النظامُ من أرباح تلك الشركات تبلغ 14.5 مليون دولار، وهي نسبة معفاة من الضريبة حسب قرار قانون ضريبة الدخل. يُضيف عابدين: "إذاً الموارد الماليّة الواردة في نظام القانون المقترح كافية لتمويله، وذريعة الحكومة بصعوبة تمويله كلامٌ فارغ".
"حالات اجتماعيّة؟!"
حضرت زريفة شنوير مع أبنائها من ذوي الإعاقة الحركيّة؛ بسمة (30 عاماً) وحياة (28 عاماً) ورغدة (26 عاماً) ومحمد (23 عاماً)، من الظاهرية جنوب الخليل إلى رام الله لتكون وأبناءَها جزءاً من هذا الحراك وتظاهراته المستمرة. تقول زريفة: "كنت أحاول إدخال بناتي على الجمعية العربية ولكنهم طالبوني بمبلغ وقدره ولم أستطع توفيره.. فبناتي يحتجن لعلاج تأهيلي قادر على إحداث فرق في حالتهن، ولكن الجمعية العربية طالبتني على الليلة الواحدة لكل شخص 400 شيكل". تقصدُ جمعية بيت لحم العربية للتأهيل، وهي واحدة من المؤسسات الأهليّة الرئيسيّة التي تقدّم خدماتٍ صحيّةٍ وتأهيليّة لذوي الإعاقة جنوب الضفة الغربيّة.
التأمين الحكوميّ الذي تمتلكه زريفة وعائلتها لا يغطي إلا شراء القليل من الأدوية البسيطة وذات الأثمان المنخفضة بالأساس، كمسكّن الأكامول ومنظّم السكري والضغط. وكما يُحرم أبناء زريفة من العلاج اللازم، حرموا أيضاً من استكمال تعليمهم، "المدرسة بعيدة عن بيتنا ولم نستطع تأمين مواصلات لنقلهم، ولذلك لم يستطيعوا الدراسة إلا للصف الرابع"، تقول الأم.
اقرؤوا المزيد: ماذا ينتظر مرضى القلب والسرطان في غزَّة؟
تقول شذى أبو سرور إنَّها تواصلت مع مكتب الرئاسة لدى إعلان خطة الطوارئ، إثر انتشار فيروس كورونا، وطالبت ببلورة خطّة ودعمها بموازنة لتغطية احتياجات ذوي الإعاقة- المستثنيين من الخطة العامَّة- ولكنَّ الرئاسة رفضت ذلك وتجاهلت هذه المطالب. تبيّن أبو سرور أنَّ إجراءات الطوارئ التي اتخذتها الحكومة الفلسطينيّة عطّلت الكثير من الناس من ذوي الإعاقة أو الذين يعولونهم. في بيانه لعام 2019، بلغ معدل البطالة بين ذوي الإعاقة في الضفّة والقطاع ما يقارب 37%.
وتتعامل الحكومة مع عائلة زريفة كما الكثير من العائلات على أنهم مجرد "حالات اجتماعيّة" وليسوا أصحاب حقّ، وتبيّن زريفة أنّه تُصرف لهم مستحقات بقيمة 750 شيكلاً من وزارة التنمية الاجتماعية كلّ ثلاثة شهور. تقول: "هذه المستحقات لا تكفينا لشيء، لا تكفينا لشراء تنكات المياه أو تسديد فواتير الكهرباء".
بدوره، يحاول الحراك منذ انطلاقه إحداث فرق في المنطق الذي تتعامل من خلاله الحكومة مع ذوي الإعاقة. تبيّن أبو سرور أنَّ أرضيَّة الحوار بين الحكومة والحراك انطلقت من سؤال "هل تريد الحكومة التعامل معنا من منطلق خيريّ وكحالاتٍ اجتماعيّة أو من كوننا أصحاب حق؟". وفي نهاية اجتماعٍ عقده ممثلو الحراك مع الحكومة، في 26 نوفمبر/ تشرين ثاني 2020، أوعز رئيس الوزراء للجنة مكوّنة من الاتحاد العام للمعاقين الفلسطينيّين ووزارة التنمية الاجتماعيّة ووزارة الصحّة بالعمل على تعديل اللوائح والأنظمة الخاصّة بالتأمين الصحيّ لذوي الإعاقة.
دفاعاً عن الحقوق كاملة..
كان رئيس الوزراء قد حاول، خلال ذلك الاجتماع، تقطيع مطالب الحراك، مشدداً فقط على محور تلقي العلاج المجاني لذوي الإعاقة، وذلك بإلغاء نسبة الـ5٪ التي يدفعونها. أمَّا محور الأجهزة الطبيّة التعويضيّة- مثل الأطراف الصناعيّة والكراسي المتحركة والسمَّاعات- والخدمات التأهيلية فحاول فرض التعامل معها كاستثناءات ومساعدات إنسانيّة بعد دراسة الوضع الاجتماعيّ لذوي الإعاقة، وليس بناء على الحاجة الصحيّة لها، وهو ما رفضه الحراك.
رغمَ انعقاد ذلك الاجتماع، ومرور أكثر من أسبوعيْن على تشكيل اللجنة، لمْ يتوقف الاعتصام. إذ أنَّ اللجنة المسؤولة عن تعديل القانون هي ذاتها التي شُكّلت عام 2018 ولم ينتج عنها شيء، وهو ما يفقدها ثقةَ الحراك. إذ يعتبر الحراك الاستجابة لمطالبه مجرد استجابة شكلية، ولذلك أعلن أن اعتصامه لن يتوقف إلا بمصادقة مجلس الوزراء على النظام الذي سبق أن قدَّمه الحراك كمسودة مقترحة تعكس مطالبه وتترجمها بشكل قانوني ودقيق.
وطالب الحراك بإطلاعه على سير عمل اللجنة والجتماع مع وزيرة الصحّة، إلا أنَّه تلقَّى إجابة مفادها أنَّ "الوزيرة مشغولة"، وأن العمل على نظام القانون بات في مراحله الأخيرة. وعبَّر الحراك في رسالته لليوم الـ36 على اعتصامه، عن قلقه من التعديلات التي تجري على النظام دون إطلاعه عليها، والتي قد لا تلبي ما يسعى له.
مرةً أخرى، تظهر أولويات السّلطة الفلسطينيّة من خلال إهمالها لأكثر الفئات ضعفاً، ويُترك كل فردٍ لـ"يخلع شوكه بإيده"، فمن مكّنه وضعه الماديّ من الحصول على علاجٍ مناسب كان له ذلك، ومن لم يُمكنه وضعه الماديّ فلا ظهير له، ويكتفي وزير التنمية الاجتماعية بوصفه بأنّه "يريد إحداث شوشرة وإرباك".