جولةٌ أخرى انتهت. يُميّزها عن الجولات السابقة تمتع المقاومة في قطاع غزّة بقدرةٍ صاروخيّةٍ غير مسبوقة كمّاً ونوعاً، ما مكّنها من إضعاف نجاعة القبّة الحديديّة. كثافة القصف، بأكثر من 700 صاروخ خلال يومين، تخطّت دقّة المنظومة الدفاعيّة الإسرائيليّة واستنزفت إمكانيّاتها، أما نوعيّة القذائف فاخترقت "القبّة" مستغلةً عجزها أمام الصواريخ بعيدة المدى. هذا علاوةً على ما تثبّت واتّضح في هذه الجولة من قصور الطيران الإسرائيليّ عن إحباط منصّات القصف.
كذلك، وُظِّف هذا التقدّم العسكريّ في سياقٍ إسرائيليٍّ مضبوطٍ يُسَهِّل على بنيامين نتنياهو تقديم التنازلات: فترة انتقاليّة لم تتألف بها حكومة إسرائيليّة جديدة بعد؛ هي فترة تتيح لنتنياهو إدارة شبه شخصيّة للجولة بمعزل عن تجاذبات ومزايدات سياسيّة داخل حكومته تثنيه عن تقديم تنازلات أمام "حماس" بواسطة تهديد الأحزاب الأخرى بإسقاط الحكومة. كما تُمكن الإشارة، بعيداً عن المبالغات، إلى أخذ احتفالات مسابقة الغناء الأوروبيّة "يوروفيجين" بعين الاعتبار، وهي مسابقة أوروبيّة سنويّة، تُقام هذا العام في تل أبيب، وتجتذب اهتماماً دوليّاً استغلّته المقاومة لزيادة الضغط وتوسيع القصف تدريجيّاً تلويحاً بقصف تل أبيب.
إلا أن...
رغم ذلك، لا بد من قراءة السياق الاستراتيجيّ الأوسع الذي تدور في إطاره هذه الجولات المتتالية، وهو سياق تدركه حركة "حماس" خير إدراك وتستغله: الاستراتيجيّة السائدة في "إسرائيل" قائمة على الاستثمار في عزل الضفّة الغربيّة عن قطاع غزّة، والتفرقة الكليّة بين المنطقتين وإنشاء كيانين سياسيين مختلفين تماماً.
ضمن ذلك المنظور الإسرائيليّ، تبقى سلطة "حماس"، رغم ما تشكّله من خطورة أمنيّة لـ"إسرائيل"، بالنسبة لها (أي لإسرائيل) مرحلةً يجدر ابتلاعها واستغلالها مؤقتاً من أجل تكريس واقع الفصل وإنتاج قواعد لعبة أمنيّة وسياسيّة مختلفة عن الضفّة، وظروف مجتمع وسوقٍ متمايزة، ومستقبل سياسيّ آخر لشعبنا في غزّة.
هذه الرؤية الاستراتيجيّة الإسرائيليّة تتطلب مرحلةً طويلةً من إدارة الحصار؛ من هدم وإنهاك للمجتمع، ودقّ الأسافين بين الناس والمقاومة، وتثبيت دور مصر كمجال حيويّ للغزيين بدلاً من سائر أنحاء فلسطين، وإبقاء اليد الإسرائيليّة قابضة على خناق كل إنسانٍ في القطاع. لا تهدف مرحلة إدارة الحصار هذه إلى إبادة المقاومة بشكلٍ مجرّدٍ، ولا استبدالها بالسلطة الفلسطينيّة القائمة في رام الله، ولا بسيطرة إسرائيليّة مباشرة على غزّة. إنما تسعى "إسرائيل" إلى إبادة المقاومة بموازاة إقامة بنية سياسيّة تحلّ مكانها وتُدير القطاع تحت سيادةٍ إسرائيليّة تتواطأ تماماً مع الاحتلال.
ضمن هذه الاستراتيجيّة الإسرائيليّة، في طورها الراهن، يضمحل علانيةً احتمالُ الهجوم الإسرائيليّ الشامل لتصفية المقاومة، وهو معطى مكشوف لا يخفيه الإسرائيليّون ويدركه قادةُ المقاومة. وهو المعطى الذي يسمح للمقاومة باتخاذ خطواتٍ عسكريّةٍ حادّةٍ ومتقدّمةٍ دون أن يكون في ذلك مقامرة بوجودها. وهذا معطى سياسيّ من شأنه أن يمهل التفاخر والزهو بالمنجز العسكريّ، والانتباه إلى السياق الأشمل.
تفاهم بلغة الحصار
لا شكّ ولا استهتار في أهميّة "تفاهمات إبريل" بالنسبة للأوضاع المعيشيّة في قطاع غزّة، وفي أولويّة حياة الناس ولقمة عيشها وكرامتها في ظل التجويع الإسرائيليّ. وكانت الاحتجاجات الاجتماعيّة الأخيرة في قطاع غزّة، على تعقيدها واستغلالها السياسيّ، نداءً هامّاً يشدّد على ضرورة أن تتخذ المقاومة خطواتٍ جديّةٍ ومتقدّمةٍ لتخفيف الحصار. وقد تمثّلت هذه الخطوات بآخر جولتين في مواجهة المماطلة الإسرائيليّة. بحسب ما تفيد به مصادر "حماس"، فإن التهدئة التي دخلت حيّز التنفيذ فجر اليوم، الاثنين، تقوم على التزام إسرائيليّ بتطبيق تفاهمات إبريل.
تتضمّن هذه التفاهمات جوانب عديدة منها الكهرباء والسيولة الماليّة والتشغيل والاستيراد والتصدير، إضافةً إلى القطاع الصحيّ وتحلية المياه وتوسيع مجال الصيد وملف الإعمار في القطاع. في مجال الكهرباء تشمل التفاهمات إعادة صيانة خطّ 161 مما يصل القطاع بـ120 ميغا واط، ومدّ خط غاز لمحطة توليد الكهرباء. أما بما يتعلّق بالسيولة الماليّة، فتشمل التفاهمات إدخال مساعدات قطريّة بقيمة 30 مليون دولار والسماح بالمعونات الدوليّة شريطة عدم وصولها إلى حركة "حماس".
في مجال الاستيراد والتصدير تضمن التفاهمات رفع تشغيل معبر كرم أبو سالم للحد الأقصى من إمكاناته، علاوةً على تخفيف حظر البضائع الإسرائيليّ. هذا إلى جانب توسيع مجال الصّيد حتّى 15 ميلاً بحريّاً وإقامة محطّة مركزيّة لتحلية المياه وغيرها من البنود.
تلك تفاهمات على إدارة الحياة تحت الحصار. لو تحققت هذه التفاهمات على أرض الواقع سنكون أمام إنجازٍ فعليّ من حيث تحسين معيشة الناس، لكنّه ليس إنجازاً سياسيّاً على المستوى الجمعيّ الفلسطينيّ، ولا على مستوى الرؤية النضاليّة التحرّريّة. هو إنجازٌ لحُكم "حماس" في غزّة، وليس إنجازاً على طريق استراتيجيّ يتطلّع إلى دحر الاستعمار أو حتّى إلى استعادة مقوّمات الوحدة الجغرافيّة والاجتماعيّة مع الضفّة الغربيّة وإقامة دولة فلسطينيّة على حدود 1967، تلك الحدود التي وافقت عليها "حماس" في ميثاقها الأخير، وكرستها "فتح" كسقف للنضال الوطني. إن أبعد أفق يُمكن تخيّله ضمن هذه اللعبة السياسيّة التي تناور "حماس" في داخلها، هو أن تصبح الحياة في غزّة نسخةً عن الحياة في رام الله، وهو ليس الحلم الذي يقاتل من أجله الناس لا في غزّة ولا خارجها.
إنجاز بين حقيقتين
"إنجاز التفاهمات" يتطلّب منّا مواجهة حقيقتين: الأولى أن المماطلة هي جزء جوهريّ من إستراتيجيّة "إسرائيل". الحكومات الإسرائيليّة تشدّ قبضتها وترخيها بموجب ألف حسابٍ آخر غير خوفها من المقاومة – منها السياسات الداخليّة والحفاظ على الائتلاف الحكوميّ، والعلاقة مع النظام المصريّ، وسياسات ضمّ الضفّة الغربيّة والأهم – مستقبل سلطة رام الله ما بعد محمود عبّاس.
التملّص هو حجر الزاوية في السياسة الإسرائيليّة، وبالتالي فإن قيمة التفاهمات، ولا سيما البنود المتعلّقة بالمشاريع بعيدة الأمد، تبقى ضئيلة مهما احتفت بها بيانات الفصائل. بمواجهة هذه المماطلة، فإن الأدوات المتوفّرة أمام حكومة غزّة محدودة بالضغط العسكريّ على شاكلة الجولات المتتالية الأخيرة. إلا أن هذه الأداة ستبقى دائماً محفوفة بفتيل حملة عسكريّة إسرائيليّة شاملة.
الحقيقة الثانية، أن عزل المقاومة داخل غزّة هو الشرط الإسرائيليّ الأهم لنجاح الحصار والتخلّص من المقاومة. على كل ما تحمله التفاهمات من إنجاز معيشيّ للناس إلا أنّها في الوقت ذاته تغلق الأفق السياسيّ للمقاومة في داخل غزّة. رؤية المقاومة اليوم محصورة ومُقفلة داخل القطاع، ومعنى ذلك أن انهيارها في غزّة -وهو ممكن ومنظور- يعني ضربة تاريخيّة لمقاومة الشعب الفلسطينيّ لا تقلّ وطأتها عن هزيمة بيروت 1982، وما لحقها من تدهور لحضيضٍ من تحت حضيض.
أفق المقاومة خارج إدارة الحصار
قطاع غزّة محكوم بالحصار، ولا يمكن لـ"إسرائيل" التراجع عن هذا الواقع. لذلك، فإن المستقبل الذي ينتظر القطاع هو حرب إسرائيليّة شاملة على سلاح المقاومة حالما تتهيّأ الظروف لإقامة بنية سياسيّة بديلة، مستقبل يتكرّر فيه سيناريو "السور الواقي" حتّى وإن كان ذلك بأثمان باهظة وهائلة تتكبّدها "إسرائيل". يساعدها على ذلك واقع الحصار والإغلاق الجغرافيّ، وانعدام العمل المقاوم في الضفّة الغربيّة أو الداخل. أو الاحتمال الآخر، والذي لا يقلّ ترويعاً، أن تستمرّ "إسرائيل" في إدارة المعاناة والعذاب الغزّي في انتظار أن يبدأ ذلك بالتأثير على حُكم "حماس" - كان ذلك من خلال قوى أخرى تقوم على حكم "حماس" في غزّة وتُدعم من الخارج، أو حتّى من خلال تغييرات في داخل الحركة ذاتها.
بالقيمة المطلقة، تشكّل المقاومة اليوم عاملاً داخل معادلة إدارة الحصار. حركة "حماس" مقصّرة ولا تُظهر أي تفكير خلّاق في الخروج من هذه المعادلة، وهي تعرّض المقاومة بهذا إلى خطر الفناء. هجرت "حماس" أدوات العمل النضاليّ خارج فلسطين، ليس العمل العسكريّ فحسب، بل مجمل أدوات العمل السياسيّ للضغط على "إسرائيل"، بل نقلت ثقل قيادة الحركة ومكتبها السياسيّ إلى القطاع. كما تُدير داخل الضفّة الغربيّة، منذ أن طُرِدت من الضفة بعد أحداث 2007، عملاً سياسياً في غاية المحافظة والمحدوديّة في المواجهة الشعبيّة للاحتلال. في مجمل مفاوضاتها وتفاهماتها تصرّفت حركة "حماس" كممثل شرعيّ ووحيد لقطاع غزّة، ولم تطرح على أجندة التفاوض مطالب سياسيّة وطنيّة جامعة. والأخطر أنها لم تعرض مطالب جديّة ترتكز إلى حريّة التنقل والتفاعل بين غزّة والضفّة الغربيّة والداخل. هكذا، تنحصر إنجازات المقاومة في دائرة الاستراتيجيّة الإسرائيليّة، ولا تقترب من تحقيق أي رؤية تحرّرية فلسطينيّة جامعة.
تبدو "حماس" قادرة على تحقيق منجزات داخل هذه المعادلة: على تخفيف الحصار تارة وتحمّل اشتداده تارة. لكنّ كسر الحصار من داخل قطاع غزّة فقط غير ممكن. ولا يُمكن لحركة "حماس" أن تتوهّم بأنّها قادرة على الاحتفاظ بحكمها إلى أجلٍ غير مسمى، وأن تتعامى عن أنّ اللعب داخل دائرة الحصار هو عدّ تنازليّ في حياة المقاومة. في المقابل، فإنّ اختراق الاستراتيجيّة الإسرائيليّة وكسر الحصار يتطلّب تنظيماً وتأسيساً من خارج قطاع غزّة، وردّ الاعتبار لدور اللجوء في العمل النضاليّ. هذا كلّه بمعزل عن عاملٍ آخر يحمل بيده أحد مفاتيح الخروج من هذه الأزمة التاريخيّة – حركة "فتح".
ليس المطلوب من حركة فتح دوراً أخلاقياً ولا ملائكياً، بل المطلوب أن تفهم الحركة أن الحُكم في "إسرائيل" غير معنيّ بها في غزّة، وهو ما يظهر من خطاب وزراء الليكود ممن يرون الأولويّة للعودة عن وضعيّة أوسلو ومنع تشكّل إدارة سياسيّة موحّدة بين الضفّة وغزّة. قيادة "فتح" لم تستوعب بعد أن إبادة المقاومة وإسقاط سلطة "حماس" في غزّة لن يؤدّي بأي شكل من الأشكال إلى استعادة سيطرتها على القطاع.
هذا بالإضافة إلى عزلة "فتح" السياسيّة، وعجزها عن لجم المخططات الإسرائيلية بضمّ مناطق "ج" في الضفة، وانسداد جميع آفاق التفاوض. الإمكانيّة الوحيدة القائمة أمام "فتح" لتحقيق هدفها بإقامة الدولة الفلسطينيّة - وهي على عتبة التحوّل إلى مظلّة أمراء حربٍ ينتظرون موت أبي مازن ليفترس مسلّحوهم حكم الضفّة الغربيّة وتقسيم أشلائها- هو أن تفرض وحدة الضفّة الغربيّة وغزّة في المعادلة السياسيّة، وذلك من خلال التسليم بالوحدة على أساس سلاح المقاومة.