5 أكتوبر 2021

التَّسوية.. مدخلُ "إسرائيل" لسرقة أراضي القدس

التَّسوية.. مدخلُ "إسرائيل" لسرقة أراضي القدس

قد يكون تسجيلُ الأراضي في السجلات العقاريّة بهدف تحديد الملكيّة وتنظيم التخطيط أمراً طبيعيّاً وبديهيّاً في أي مكان في العالم. لكنّ الأمر ليس كذلك مع "مشروع التسوية وتسجيل الحقوق" الذي تعمل سلطاتُ الاحتلال الإسرائيلي على تطبيقه في الشطر الشرقيّ من القدس المحتلّة، إذ تُمرّر مشاريعُ الاستيطان والتهويد تحت عنوان "التطوير"، وتُتخّذ القوانينُ وسيلةً لسرقة المزيد من أراضي الفلسطينيّين في المدينة. 

في 13/5/2018، صدرَ عن حكومة الاحتلال القرار 3790 الذي صادق على خطّةٍ بعنوان "تقليص الفروق الاجتماعيّة والاقتصاديّة وتطوير الاقتصاد في شرق القدس"، وهي خطّة خمسيّة تمتدّ حتى عام 2023 رصدت الحكومة لتنفيذها قرابة ملياري شيكل (560 مليون دولار أميركي). الخطّة، التي حاول واضعوها إخفاء صبغتها التهويديّة بعناوين "التطوير وتقليص الفجوات"، تناولت ستة مجالات، من بينها تخطيطُ الأراضي وتسجيلها، وقد رُصد لهذا البند 50 مليون شيكل (14 مليون دولار أميركي) تُوزّع على خمس سنوات، على أن تتَّخذ وزارة القضاء الإجراءات اللازمة لتسجيل 50% من الأراضي في شرق القدس حتى نهاية عام 2021 واستكمالِ تسوية ما تبقّى من الأراضي مع نهاية عام 2025.   

وفي إطار عملية التسوية والتسجيل التي أطلقها الاحتلال قبل ثلاثة أعوام، وجّهت سلطات الاحتلال مؤخراً رسائل إلى المقدسيين في عدد من البلدات لإعلامهم أنّه "في الفترة القريبة المقبلة سنبدأ بتسوية الأراضي في المدينة"، وبدأ موظفو الاحتلال بتنفيذ جولاتٍ على الأحياء بهدف تسوية ملكية أراضيها، وبالتالي ازدياد إمكانية وضع اليد عليها.

سلبُ المقدسيّين أراضيهم بـ"القانون" 

يمكن وصفُ بند تنظيم الأراضي وتسجيلها بـ"حبة الكرز فوق كعكة الخطّة الخمسيّة"، فهو يأتي استكمالاً للبنود الخمسة الأخرى التي تستهدف التعليم، والاقتصاد والتجارة، والتشغيل والرفاه، والمواصلات، وتحسين جودة الحياة والخدمات، بما يمكّن الاحتلال من السيطرة على وعي المقدسيين، وحركتهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة ومن ثمّ الاستحواذ على أرضهم وطردهم منها.

اقرؤوا المزيد: "الخطة الخمسية.. ماذا تفعل "إسرائيل" في القدس؟".

بعد احتلال الشطر الشرقيّ من القدس في عام 1967، جمّدت سلطاتُ الاحتلال عملياتِ التسوية والتسجيل التي كانت بدأتها السلطاتُ الأردنيّة، ووفق تصريحٍ لوزير شؤون القدس في حكومة الاحتلال في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، فإنّه منذ عام 1967- 5% من أراضي شرق القدس فقط مسجّلة في الطابو.1أغلب الأراضي التي ضمّها الاحتلال إلى حدوده البلدية بعد عام 67 كانت ملكيةً خاصّة فلسطينيّة، وهي تُقسم من حيث تسجيلها إلى ثلاثة أقسام: الأراضي المفروزة والمسجلة بجدول حقوق نهائيّ في سجلات الطابو؛ والأراضي التي بدأت عملية تسوية الحقوق بها قبل عام 1967 وفي حرب 1967 كانت هذه الأراضي مسجلة بجدول ادعاءات أو جدول حقوق غير نهائي وتعرف بأراضي التسوية؛ والأراضي التي لم تبدأ عملية تسويتها قبل عام 1967 وتعرف بالأراضي غير المسجلة.

ونشأ عن تجميد التسوية والتسجيل وضعٌ تضاربت فيه الملكياتُ وتغيّرت بالوفاة والإرث، وتعدّد فيه أصحاب الحقوق. علاوةً على ذلك، تذرّعت سلطات الاحتلال بعدم إثبات الملكية لمنع إصدار رخص بناء للمقدسيين؛ وهذا الأمر بدوره خلّف كارثة تتمثّل في سياسة الهدم التي تنفذها سلطاتُ الاحتلال بذريعة البناء من دون ترخيص. لكنّ الأمر لا يتوقّف هنا، إذ أنّ اشتراط إثبات الملكية لإصدار رخص بناء يمكن أن يوقع المقدسيين في فخّ المشاركة في عملية التسوية والتسجيل، من دون إلمامٍ بتداعياتها، أملاً في إثبات الملكية والحصولِ على رخص بناء. 

في تصريح عام 2018 يسوّق لخطة تسوية الأراضي، تقول الوزيرة شاكيد إنّ "الخطّة تطبيق عملي للسيادة الإسرائيلية على القدس"، وتضيف أنّها "مهمّة للسكان في شرق القدس، إذ من دون تسجيل الأراضي لا يستطيعون ممارسة حقوقهم المتعلّقة بها، بما في ذلك الحصول على تراخيص بناء".

وتصريح شاكيد حول حقوق المقدسيين المرتبطة بتسجيل الأراضي صحيح، لكنَّ النظر إلى الفريق المكلّف بمتابعة التسجيل، وبعمليات تسجيل تمّت مؤخراً في شرق القدس، يؤكّد أنّ هدف المشروع ليس حماية حقوق المقدسيين، بل تجريدهم منها. فالفريق الذي نصّ القرار الحكومي 3790 على تعيينه يضمّ الحارس العام2 الحارس العام مسؤول عن الأملاك الخاضعة لقانون الشؤون القانونية والإدارية في "إسرائيل" المُقر عام 1970 والذي يحكم باسترداد اليهود للأراضي التي يزعمون فقدانها قبل عام 1948. وحارس أملاك الغائبين، الأمر الذي يؤكّد أنّ تطبيق التسوية يتضمّن تفعيل قانون أملاك الغائبين وما يعنيه ذلك من الاستيلاء على أملاك المقدسيين الذين سيصنّفهم الاحتلال "غائبين"، ومن ثمّ نقل هذه الأملاك إلى المستوطنين.3سنّ "الكنيست" قانون أملاك الغائبين عام 1950، وهو يعرّف "من هُجّر أو نزح أو ترك حدود دولة إسرائيل حتى تشرين الثاني 1947، خاصةً على أثر الحرب"، على أنّه غائب؛ وتعدّ كل أملاكه "أملاك غائبين" تنقل ملكيّتها إلى "دولة إسرائيل" ويديرها وصيّ من قبلها. وفي شرق  القدس، تراوح تطبيق القانون بين التجميد والتفعيل، في ظلّ حرص إسرائيلي على تطبيقه من دون ضجّة. وفي عام 2013، أقرّ يهودا فينشتاين، المستشار القانوني لحكومة الاحتلال، شرعية تطبيق القانون في الشطر الشرقي من القدس ثمّ وافقت المحكمة العليا للاحتلال، في عام 2015، على استمرار تطبيقه.

علاوةً على ذلك، فإنّ عملية التسوية والتسجيل بموجب القرار الحكومي 3790 التي تمّت في أبريل/نيسان 2021 في كبانية أم هارون بالشيخ جراح تؤكّد أهداف المشروع، فالتسجيل تمّ لمصلحة يهود يدّعون ملكية الأرض قبل عام 1948، وفي جزء يعيش فيه قرابة 45 عائلة فلسطينية في 40 بناية، ما يجعلهم مهدّدين بخطر التهجير، وهذا المشهد مرشّح للتكرار في الأملاك التي تدّعي جهات يهودية، من بينها الصندوق القومي اليهودي، ملكيتها قبل عام 1948.

اقرؤوا المزيد: "حي الشيخ جراح: كم مرّة على الفلسطيني أن يُهجّر؟"

وقد وَضَعَ عدمُ تسجيل الأراضي المقدسيّين أمام حالةٍ شائكة، إذ منعهم عدمُ حيازة أوراق ملكية من التصرّف بعقاراتهم، وبيعها أو إقامة مشاريع عليها. وترتب على عدم التسجيل وضعٌ تشعّبت فيه الملكيةُ بانتقالها من عددٍ من الإخوة والأخوات إلى عدد أكبر من الأبناء، من دون أن يتمكّن هؤلاء من إثبات انتقال العقارات عبر الإرث وتسجيل ملكيتها. لكن، في الوقت ذاته، شكّل انعدام التسجيل حائلاً دون توسّع عمليات تسريب العقارات إلى الجمعيات الاستيطانية نظراً إلى أنّ من لا يملك عقاراً لا يمكنه التصرف به أو بيعه.4تمكنت عائلة صيام من إبطال تسريب عقارها في حي وادي حلوة بسلوان بعدما أثبتت أن فؤاد صيام، الذي سرب العقار للمستوطنين، باع قبل وفاته ما لا يملك. https://bit.ly/391K9Lq

علم الاحتلال يرفرف فوق منزل تم تسريبه في حي سلوان، بتاريخ 9 ابريل 2021 (تصوير AHMAD GHARABLI / AFP)

ومن هنا، يشير مختصّون وقانونيون فلسطينيون إلى عدة أخطار تترتّب على عملية التسجيل، من بينها تسهيل تسريب العقارات بعد حصول الورثة على شهادات التسجيل بعدما شكّل تعدّد الورثة وعدم حصولهم على سندات تثبت ملكيّتهم عائقاً أمام بيع الأملاك الفلسطينية في القدس والتصرّف بها. كذلك، فإنّ من شأن عمليات التسجيل أن ترتّب ضرائب باهظة على المقدسيين، وهو ما يؤدّي إلى إرهاقهم مادياً، علاوةً على احتمال عدم تمكّنهم من التسجيل لعدم قدرتهم على الدفع، أو عدم وجود أوراق ملكية كافية بأيديهم، وهو ما يُهدد مباشرةً بمصادرة الأرض منهم. ووفق تقدير للائتلاف الأهلي للدفاع عن حقوق الفلسطينيين في القدس، فإنّ مشروع التسوية الإسرائيلي يُهدّد بمصادرة ما يقارب 60% من أملاك الفلسطينيين في القدس، إما تحت ذرائع غياب الأوراق الرسمية، أو أملاك الغائبين، أو الملكية اليهودية، وغير ذلك. 

الصندوق القومي اليهودي: سرقة أراضي الفلسطينيين تمرّ من هنا

بموازاة الإعلان عن البدء بتسوية الأراضي في شرق القدس، صادقَ مجلس إدارة الصندوق القومي اليهودي، في الثاني من أيلول\سبتمبر 2021، على خطةٍ تهدف إلى تسجيل وتنظيم الأراضي في شرق القدس لمصلحته، فيما تبلغ تكلفة تنفيذ الخطة حوالي 100 مليون شيكل (31 مليون دولار أميركي)، ومن المتوقع أن تستغرق 5 سنوات لفحص معاملات شراء الأراضي التي قام بها الصندوق قبل عام 1948 وبعده، ولم يتم تسجيلها لدى مكاتب السجل العقاري، وهي موثّقة في سجلاته والشركات التابعة له فقط.5 أنشئ الصندوق القومي اليهودي عام 1901 بهدف شراء الأراضي في فلسطين لمصلحة اليهود. وبعد عام 1967، وجّه رئيس الحكومة ليفي إشكول الصندوق لشراء الأراضي في الضفة الغربية. وبحسب بيانات منظمة "السلام الآن" الإسرائيلية، فقد اشترى الصندوق 65 ألف دونم في الضفة الغربية (من دون شرق القدس) منذ عام 1967.

وسيفحصُ الصندوق 2050 حالة توثيق معاملات في مراحل مختلفة لشراء عقارات في القدس تشمل 2000 قطعة أرض في مدينة القدس تصل مساحتها إلى 2500 دونم، ويزعمُ الصندوق أنّه أبرم صفقات شراء هذه الأراضي قبل وبعد عام 1948، من دون تسجيلها في مكتب تسجيل الأراضي. ويعيشُ في بعض هذه العقارات، كما في الشيخ جراح وبيت حنينا، فلسطينيون ستطردهم سلطات الاحتلال منها بعد تسجيل العقارات باسم الصندوق.6 تخوض عائلة سمرين المقدسية في حي الشيخ جراح معركة قانونية ضد قرار تهجيرها من منزلها الذي أعلنه "حارس أملاك الغائبين" في أواخر الثمانينيات من أملاك الغائبين ونقل ملكيته إلى الصندوق القومي اليهودي.

وكانَ مكتبُ حارس الأملاك العام في وزارة القضاء الإسرائيلية وجّه الصندوق كي يستلم إدارة الأراضي التي تعود له في شرق القدس كون المكتب لا يملك الأدوات اللازمة لإدارة هذه الأملاك، وجرى تقديم اقتراحٍ للقبول بالتسوية في اجتماع مجلس إدارة الصندوق في أغسطس/ آب الماضي.7 يدير الحارس العام الأملاك التي كانت ليهود في شرق القدس قبل عام 1948 إلى أن يقرر أولئك المالكون أو ورثتهم المطالبة بأملاكهم، وإذا طالب الصندوق القومي اليهودي بأراضٍ كان يملكها في شرق القدس قبل عام 1948 فيمكن أن يطالب الحارس العام بـ "استردادها"، ومن ثمّ اللجوء إلى عملية التسوية والتسجيل لتسجيل تلك الأملاك باسم الصندوق.

التحذير من خطورة المشروع لا يكفي لحماية حقوق المقدسيّين

يثيرُ تسجيل الأراضي قلقاً لدى المقدسيين بين من يرى إمكانية القبول به لضمان تسجيل الأرض التي يملكها من جهة، وبين من يرى أنّ عملية التسجيل فخّ لاستدراج المقدسيين إلى ميدانٍ الأفضليةُ فيه، بالنسبة إلى الاحتلال، هي لادّعاءات اليهود ومزاعمهم و"وثائقهم"، وسيف حارس الأملاك مسلّط فيه على رقبة أراضي المقدسيّين استعداداً لمصادرتها بذريعة غياب أصحابها، وأجهزة الاحتلال متأهّبة لتهجير المقدسيين بعد إثبات "عدم ملكيتهم" لأراضيهم.   

وقد حذّرت جهات مختلفة من خطورة مشروع تسوية الأراضي وتسجيل الحقوق في شرق القدس لما له من ارتدادات خطيرة، فصدرت مواقف في هذا الإطار عن الرئاسة الفلسطينية، ووزارة شؤون القدس، والحكومة الأردنية، وجامعة الدول العربية، علاوة على تحذيرات متكررة صدرت عن الائتلاف الأهلي للدفاع عن حقوق الفلسطينيين في القدس.

وبالفعل، ينطوي مشروع التسوية والتسجيل، ببعديه القائميْن على الاستيطان والتهجير، على أخطار وتهديدات كبيرة؛ لذلك، فإنّ بيانات التحذير من خطورة المشروع لا تكفي وحدها لمنع تطبيقه، وإن كانت مهمّة للتوعية بأخطاره وأبعاده الاستيطانية.  

بيوت القدس
نجمة داود التابعة للاحتلال، معلقة على واجهة منزل مسرب في حي سلوان، بتاريخ 29 يونيو 2021. (تصوير أحمد غرابلي / وكالة الصحافة الفرنسية)

ولعلّ نقطة البداية في التصدي للمشروع تكمن في وضع خطّة وطنية شاملة تحدّد أسس مواجهته وفق رؤية سياسيّة وقانونية تأخذ بالحسبان الأهداف الاستيطانية للمشروع وامتلاك الاحتلال من الأدوات ما يمكنّه من حسم التسوية لمصلحته؛ وليس من  المجدي هنا ترك الأمر لتقدير العائلات المقدسية واجتهاداتها إذ غالباً ما تطغى المصلحة الشخصية والرؤية المجتزأة على هذه التقديرات الفرديّة.

ونظراً لارتباط المشروع بالاستيطان وتعزيزه وتعميقه، فمن المهمّ تفعيل القرارات الأمميّة المتعلّقة بالاستيطان، لا سيّما القرار 2334 الصادر عن مجلس الأمن في 23/12/2016. إضافة إلى ذلك، ينبغي التحضير للاتجاه بالملف إلى المحكمة الجنائية الدولية لما فيه من انتهاكات على مستوى الاستيطان والتهجير، وهي خطوة من شأنها أن تدفع الاحتلال إلى فرملة هذا المشروع لتجنّب تداعياته القانونية.

كذلك، من المهمّ تسليط الضوء على القضية إعلاميّاً ونشرها على أوسع نطاق مع التركيز على ما تحمله من أهداف لتهجير المقدسيين من أرضهم ومدينتهم، وقد أثبتت تجربة حي الشيخ جراح أهمية خلق جوّ من التضامن الدولي ومواقف ضاغطة على الاحتلال لإجباره، في أضعف السيناريوهات، على فرملة تنفيذ مخطّطاته.

من المؤكّد أنّ الاحتلال يتمسّك باستكمال السيطرة على ما تبقّى من أراضي القدس، وقد تكون أدوات المعركة بين مشروع التهويد من جهة ومشروع المواجهة من جهة أخرى غير متكافئة، لكن في معركة الحفاظ على الحقوق واستعادتها فإنّ أيّ مجال لعرقلة الاحتلال وتأخير تحقيق أهدافه يخدم إطالة أمد المعركة من دون تمكين الاحتلال من حسمها لمصلحته في وقت تعزّز فيه أدوات المواجهة والمقاومة.