منذ الانتفاضة الثانية تقريباً لم تشهد الضفّة الغربيّة كثافةً في عمليات إطلاق النار كما شهدته منذ بداية العام الجاري، عام 2022. خلال الأشهر التسعة الماضية أصبحت عملياتُ إطلاق النار جزءاً أساسياً من الحالة الشعبيّة المُقاومة في الضفّة، تتكرر أخبارها يوميّاً، سواءً في التصدي لاقتحامات جيش الاحتلال للمخيمات والمدن والقرى، أو في الاستهداف المتكرر للحواجز العسكريّة ونقاط الجيش ومركباتِهِ ومركباتِ المستوطنين.
تؤكد الأرقام التي وثّقها الـ"شاباك" وكذلك تقارير الرصد الفلسطينيّة أنّ العام الجاري شهد ارتفاعاً واضحاً بلجوء المقاومين لعمليات إطلاق النار مقابل تراجع عمليات الدهس والطعن. بحسب الـ"شاباك"، ازدادت عملياتُ إطلاق النار بنسبة 30% مقارنةً بالعام الماضي، إذ وقعت حتى نهاية آب/ أغسطس أكثر من 130 عملية إطلاق نار، مقارنةً بـ98 عملية في العام 2021 كاملاً، و19 عملية في العام 2020. أما تقرير مركز المعلومات الفلسطينيّ - "مُعطى"، فقد أحصى 132 عملية إطلاق نار خلال الأشهر الثلاثة الأولى فقط من هذا العام، مما يعني أنّ العدد الإجمالي لغالب العام قد يكون ضعف ما كشفه الـ"شاباك".
يأتي تصاعد هذه العمليات وتطوّرها، في سياق ظروفٍ أمنيّة مُعقّدة وسياسات ضبطٍ وقمع مُتجددة فرضتها "إسرائيل" منذ نهاية الانتفاضة الثانية، سعياً لوأد أي حالة تنظيميّة للمقاومة في الضفة الغربيّة. لكن يبدو أن الحالة النضاليّة، وإن لم ترقَ حتى اللحظة إلى مستوى تنظيميّ واسع أو واضح المعالم، إلا أنّها كما يبدو قادرة باستمرار على إعادة إنتاج ظروفها، محاولةً الالتفاف على القيود وعمليات الضبط المفروضة، دون الركون إلى الواقع المعقد، وذلك في سياقٍ عام من المراكمة على التجارب النضالية السابقة، والاستفادة من دروس الماضي، والبناء عليه لتطوير عمليات أكثر استراتيجيّة.
أمام هذا المشهد، يُمكن تلخيص أبرز ملامح عمليات إطلاق النار المتكررة منذ بداية العام بالتالي:
أولاً: التوسع الجغرافيّ: لم تنحصر عمليات إطلاق النّار ضدّ جيش ومستوطني الاحتلال في نطاقٍ جغرافيّ مُحدّد، فقد بدأت في جنين ومخيّمها، ومن ثمّ انتقلت إلى مناطق عدّة في الضفّة الغربيّة، أبرزها محيط نابلس، وبالذات خلال اقتحام مقام يوسف، وكذلك إلى سلواد شمال شرق رام الله، وطوباس، وأيضاً إلى المستوطنات في الأراضي المحتلة عام 1948.
وقد حملت عملية سهل البقيعة في الأغوار الشماليّة، التي نُفِّذت في الرابع من أيلول/سبتمبر الجاري، تطوراً إضافيّاً في هذا الانتشار الجغرافيّ. فقد نفّذ المقاومون عملية إطلاق النّار في شارع ألون الاستيطانيّ وذلك في حيزٍ جغرافيٍّ يُحاصر فيه الفلسطينيّون بالاستيطان والنقاط العسكريّة، وتتكثّف فيه عمليات الهدم والتهجير.
وكان ذلك واضحاً أيضاً في عمليات إطلاق النّار التي شهدها شهرا آذار/مارس ونيسان/ أبريل، والتي امتدّ بعضها إلى مناطق لم تعتد من قبل وقوع عملياتٍ فدائيّة فيها بهذا الشكل، مثل عملية الشهيد محمد أبو القيعان في مدينة بئر السبع والتي أسفرت عن مقتل أربعة مستوطنين، وعملية الأسيرين صبحي صبيحات وأسعد الرفاعي في مستوطنة إلعاد التي أسفرت عن مقتل 3 مستوطنين، وعملية بني براك التي نفّذها الشهيد ضياء حمارشة وأسفرت عن مقتل خمسة مستوطنين. هذا إضافةً إلى عملية الشهيد رعد حازم في شارع ديزنغوف وسط تل أبيب والذي لطالما شهد عملياتٍ شبيهة، وقد أسفرت عن مقتل مستوطنين اثنين.
ثانياً: التخطيط المسبق والاستفادة من التجارب السابقة، وهو ما قد يُشير إلى حالة نضاليّة لا تعتمد على العشوائيّة، وإنما ترصد الهدف مسبقاً، وتُحدد التوقيت والجغرافية بناء على تخطيطٍ ودراسة. برز ذلك في عملية الشهيدين عبد الرحمن وأحمد عابد، في 14 أيلول/ سبتمبر، والتي استهدفت حاجز الجلمة شمال جنين، وأدّت إلى مقتل ضابطٍ إسرائيليّ. تمكّن الشهيدان من التسلل بأسلحتهم إلى منطقةٍ قريبةٍ من الحاجز، ونصبا كميناً استدرجا به جنود الاحتلال واشتبكا معهم.
وهو ما ميّز أيضاً عمليةَ سهل البقيعة التي استهدفت حافلةً للجنود، فبحسب فيديو نشره جيش الاحتلال، يظهر منفذو العملية وهم يتتبعون ويلاحقون الحافلة، وقد اختاروا حافلةً غير مُحصنّة، واستهدفوها في نقطةٍ بعيدةٍ عن أي بؤرةٍ استيطانية وخالية من كاميرات المراقبة. كما أنّهم خطّطوا لاستهدافها بالزجاجات الحارقة بعد إطلاق النار عليها.
ثالثاً: عند اقتحام الجيش: التصدي بالنار بدلاً من الحجارة. تركّز ذلك في مخيم جنين بدءاً من العام الماضي، وقد أدّت عمليات إطلاق النار هذه إلى مقتل ضابطٍ في وحدة "يمام" في 23 أيار/ مايو. ثمّ انتقلت "العدوى" سريعاً إلى البلدة القديمة في نابلس، لتُعيد ذكريات الانتفاضة الثانية والاقتحامات التي لم تكن تمر إلا باشتباكٍ وإطلاق النار من مقاوميها.
ورغم أنّ الحجارة كانت دائماً حاضرةً في التصدي لاقتحامات جيش الاحتلال في بلدة سلواد، إلا أنّ عمليات إطلاق النار برزت هذا العام في هذا المضمار، وبدأت تأخذ منحنىً تصاعدياً منذ 13 نيسان/ أبريل. ومن ذلك استهداف المقاومين لقوات الاحتلال بالنار خلال محاصرتها لمنزلٍ في البلدة، واستهدافها أيضاً خلال اقتحام البلدة من المدخل الجنوبيّ في الأول من تموز/يوليو، وللمفارقة فقد كان هدف الاقتحام حينها البحث عن منفذي إطلاق نارٍ وقع في صبيحة اليوم ذاته!
اقرؤوا المزيد: "فعلٌ يراكم على أخيه: الضفة الغربية بعد سيف القدس".
تكرر عمليات إطلاق النار نحو جيش الاحتلال خلال عمليات الاقتحام لجعل الاقتحام أكثر تكلفة وتعقيداً، كما أنها توفر لمنفذيها إمكانية الانسحاب المستمر من المكان، لمعرفته جغرافية بلدته أو مخيمه. وأمام تصاعد عمليات إطلاق النار انحصرت المواجهات في نقاط المواجهة الرئيسة في الضفة الغربية - التي تكثف استهدافها بعمليات إطلاق النار مثل حاجز حوارة وحاجز الجلمة - فيما أخذت تزداد تركيزاً على الشوارع الاستيطانية مثل تلك التي تتكرر يومياً من قرية عزون شرق قلقيلية. كما استمرت تصدياً للاقتحامات الليلية في البلدات والمخيمات، وأصبحت الحجارة مساندة للعمل المسلح وليس فعلاً أساساً في المواجهة.
رابعاً: انخراط عناصر من الأجهزة الأمنيّة التابعة للسلطة الفلسطينية في عمليات إطلاق النار، وكذلك عناصر فاعلة من تنظيم حركة "فتح". وقد أشارت التحليلات الإسرائيلية إلى هذا الملمح أكثر من مرة، وبات قادة الاحتلال يُكررون تصريحاتهم حول ما يُسمّونه "ضعف أداء السلطة الفلسطينيّة" وعدم قدرتها على ضبط الوضع.
من بين هؤلاء الشهيد أحمد عابد الذي اشتبك مع قوات الاحتلال عند حاجز الجلمة، وهو خريج كلية الاستقلال الأمنيّة، وكان قد التحق فور تخرجه منها بجهاز الاستخبارات العسكرية في قلقيلية. ومنهم أيضاً الشهيد داوود الزبيدي، عضو إقليم "فتح"، والذي استشهد مشتبكاً مع جيش الاحتلال في مخيم جنين.
ومن بينهم أيضاً أسيران من بلدة سلواد، يعملان في حرس الرئاسة والاستخبارات، وقد اعتقلا على خلفية عمليات إطلاق النار الأخيرة في محيط البلدة، وما زالا قيد التحقيق والمحاكمة. كما يُلاحق الاحتلال منذ آذار/مارس فتحي حازم، والد الشهيد رعد حازم، وهو عقيد في جهاز الأمن الوطني. ويحمل آباء وأقارب عدة مقاومين برزت أسماؤهم في الآونة الأخيرة مناصب في الأجهزة الأمنيّة، مثل والد الشهيد ابراهيم النابلسي، وهو ضابطٌ بارزٌ في الأمن الوقائي في نابلس. وقد سبق أن احتجزت السلطة الفلسطينية وحقّقت مع عدد من عناصر أجهزتها الأمنيّة، وبالأخصّ في جنين، لمشاركتهم في إطلاق النار للتصدي لاقتحام قوات الاحتلال للمدينة ومخيمها.
وعدا عن انخراط عناصر من الأجهزة الأمنية في هذه الحالية النضالية المتصاعدة، فإن انخراط عناصر من حركة "فتح" تحديداً يُشكّل ملمحاً أكثر أهميّة، خاصّة لـ"فتح" قاعدة شعبيّة واسعة، وهو ما قد يؤدّي إلى تصاعد الحالة وتوسعها. بدا ذلك أكثر وضوحاً في نابلس إذ تعود الخلفية السياسية للكثير من المقاومين إلى حركة "فتح". كما هو الحال أيضاً في بلدة سلواد، والتي كان غالب منفذي عمليات إطلاق النار الأخيرة فيها من أبناء الحركة.
اقرؤوا المزيد: "ما يراه قلبُ الساعي في جنازات الشهداء".
خامساً: الأمواج التي لم تُكسر. نهاية مارس/ آذار 2022، وبعد عدة عمليات فدائية في الأراضي المحتلة عام 1948 نفّذها فلسطينيون من الضفّة، أعلن الاحتلال عن حملةٍ عسكريّة بعنوان "كاسر الأمواج" تستهدف ما سمّاها "أوكار الإرهاب" في الضفّة الغربيّة. بعد سبعة شهور من ذلك الإعلان، وبعد اعتقال أكثر من 1500 فلسطينيّ، وبعد اغتيال العشرات، ما زالت عملياتُ إطلاق النار مستمرة وفي تطورٍ نوعيّ، وتحمل معها في كل مرة ملمحاً جديداً تكشف عنه سير الشهداء ووصاياهم، فيما يبدو أن جيش الاحتلال "يتزحلق" على الأمواج، لا يكسرها.
صحيح أنّ الحالة النضالية في الضفّة الغربيّة لم تتطور إلى حالة تنظيميّة واضحة المعالم، إلا أنها تبدو اليوم في طور التوسع والمراكمة على تجارب الماضي، وتحمل في كلّ مرة معها جانباً جديداً. وبينما تبني "إسرائيل" أملها على سياسات الضبط والقمع والاغتيال والاعتقال، فإن النتيجة تكون في الغالب عكسية، إذ يتحوّل المطارد أو الشهيد إلى أيقونةٍ جديدة يلتف حولها الشبان ويسعون إلى اتباع طريقها. وقد أصبح رفض الاعتقال والمخاطرة بخوض المطاردة حالةً منتشرة بين كثير من الشبان المنخرطين في الحالة النضاليّة، وعادت روح التصدي والرفض إلى كثير من الأماكن التي سعى الاحتلال إلى إخمادها وابتزازها بما يُسميه "التسهيلات الاقتصادية".