23 أغسطس 2020

الأغاني الفلسطينيَّة.. حنّاء وبارود

الأغاني الفلسطينيَّة.. حنّاء وبارود

"كحّل عيونه ومدّ إيده يحنّونه"، غنّت الأمّ وصوتها يتراوح بين الغناء والبكاء، مخضِّبةً يد ابنها الشهيد بالحنّاء. تظهرُ الأمّ في فيديو تداوله روّاد وسائل التواصل الاجتماعي، واختلفت الروايات حول مصدر الفيديو الأصليّ، إلا أنّ مشهد استدعاء الحنّاء على كفّ الشهيد ليس جديداً. يُذكر في عدّة مصادر أنّ عطا الزير ومحمّد جمجوم، شهيدا ثورة البراق، كانا قد خضّبا كفّيهما بالحناء قبل تنفيذ الانتداب البريطانيّ قرارَ إعدامهما عام 1930. 1 عقل، م. (2017). سجل المحكومين بالإعدام في فلسطين في عهد الانتداب البريطاني (ص.66). لندن: إي كتب. الساريسي، عمر. في رحاب المسجد الأقصى (ص.37). عمّان: دار المأمون للنشر والتوزيع.ومن المتعارف عليه في فلسطين أن الحنّاء تُستخدم كجزء من احتفاليّة العرس، فيخضّب العروسان أكفّهما بالحنّاء وسط التهليلة ذاتها التي غنّتها أمّ الشهيد "سبّل عيونه ومدّ إيده يحنّونه، غزال صغيّر وبالمنديل يلفّوله".

"فش عزا"

"إحنا شعب محكوم بالماضي، وطالما بلادنا رايحة.. فش عزا، كل اشي يذكرنا باللي راح فعلاً واللي لازم ييجي.. عين على الماضي وعين على المستقبل، واللي ضايع بالنُصّ بين واقع الماضي وحلم المستقبل، هو الحاضر. حلقة الوصل الضروريّة هي الحاضر". كان ذلك تعليقُ شخصيَّة "علي" من مسلسل التغريبة الفلسطينية على خلطة الفرح والبكاء التي كانت في عرسه.

إنَّ طبيعة مشاعر الإنسان المركّبة تفسّر تلك الخلطة جزئيّاً، إلا أنّ الإشارة إلى التداخل بين الأزمنة والأمكنة تعودُ إلى مشاهد كثيرة في تراثنا الفلسطينيّ. بين استدعاء الفلسطينيّ للبارود والنار في عرسه، واستدعائه للحنّاء في كفّ شهيد، فعّل الفلسطينيّ خلطة المشاعر المتمثّلة في لغة غنائه وحزنه وفرحه، في المناسبات المختلفة، ليرويَ حاضره على هواه هو، لا على هوى المحتلّ. 

لدى الفلسطيني الأدوات التي يحتاجها ليرويَ قصّته، لديه المساحات اللغويّة في الأغاني الشعبيّة، والمساحات الفعليّة في الأعراس والجنائز، ففعّل المساحتيْن الفعليّة واللغويّة ليحكيَ روايته من موقعِه في التاريخ. تذكُر لاليه خليلي، أستاذة السياسة الدوليّة، أنّه، ومنذ الثلاثينيّات، تمّ توظيف مساحتيْ العرس وتشييع الشهداء كمنصَّة للتعبير السياسيّ، كوْن المساحتان تمثّلان فرصةً للتجمّع، وفيهما استطاع الفلسطينيّ مقاومة الاحتلال وعكس المشهد السياسيّ بطرق مختلفة.2 Laleh Khalili, Heroes and Martyrs of Palestine: The Politics of National Commemoration (Cambridge: Cambridge University Press, 2007).

في عام 1935، أُغلقت جميع الحوانيت والمتاجر، وشهدت حيفا إضراباً شاملاً بعد استشهاد عز الدين القسّام. ودّع الآلاف من سكّان حيفا شهيدهم القسّام ومن استشهد معه في جنازةٍ ضخمة، وأدّت حينها الأغنيَّة الفلسطينيَّة دوراً كبيراً في تأجيج الثورة، ومعها الشعر الشعبيّ والزجل. وفي الفترةِ ما بعدَ النكبة، يذكر علي حبيب الله في مقابلة له مع متراس تفعيلَ فلسطينيي الداخل الخاضعين للحكم العسكريّ لمساحة العرس للتعبير السياسيّ، في ظلّ قوانين منع التجمّع، عبر تشفير الأغاني التي كانوا يغنّونها.

وما زال ذلك حاضراً حتَّى اليوم في المساحتيْن، ويبدو ذلك جليّاً في المساحة اللغويّة المستخدمة في كلمات الأغاني المغنّاة في الأعراس، أو لرثاء الشهداء. تستعيرُ تلك الكلمات في معظم الأحوال من التراث الشعبيّ مع تكييف الكلمات واللحن، بين الماضي والمستقبل، والحنّاء والبارود.

مرآة التاريخ

لطالما عكست الأغنية الفلسطينيّة أحوال الفلسطيني وتاريخه، وعملت على توثيق الأحداث المختلفة التي مرّ بها. وقد كتب الباحثون كثيراً عن تحوّل الأغنية وكلماتها واستخداماتها واستدعاءاتها، فالأغنية ليستْ تراثاً وتعبيراً عن شعورٍ فحسب، إنما مرآة تعكس الوضع السياسيّ والتاريخيّ. حين غنّت فرقة العاشقين على لسان نوح إبراهيم: "كنّا نغني بالأعراس جفرا عتابا ودحّيّة.. واليوم نغنّي برصاص عالجهاديّة الجهاديّة"، لم تعكس تحوّلاً في غناء نوح إبراهيم، المغنّي الشعبيّ المعروف آنذاك، بغنائه في الأعراس ليصيرَ شاعراً ومغنّياً للثورة في الثلاثينّيات، إنّما عكستْ أيضاً تكييفاً واضحاً للأغنية الفلسطينيّة الشعبيّة. لقدْ استعارت من كلماتها وألحانها لتعكس الحالة الاجتماعيّة والسياسيَّة للفلسطينيّ.

يشير غسان كنفاني في كتابه "ثورة 36-39 في فلسطين" إلى تحوّل الأغنيّة السياسيّة الفلسطينيّة في تلك الفترة، فذكر أنّ الأغاني ذات الطابع الشعبيّ منذ ثورة 1936 تمّ تفعيلها وتكييفها لتناسب الوضع السياسيّ، مع محافظتها على القالب الموسيقيّ ذاته، ومن تلك الأشكال القالبُ الشعبيّ للعرس. انتشرت أغانٍ مثل:"يا ويل اللي نحاربه بالسيف نقطع شاربه"، و"هزّ الرمح بعود الزين، وانتوا يا نشامى منين؟ وإحنا شبابك فلسطين، والنعم والنعمتين"، و"يا أبو العريس لا تهتم، وإحنا شاربين الدم، في بلعا ووادي التفاح، صارت هجمة وضرب سلاح".

وفي نهاية الستينيّات من القرن الماضي، ذكرت الأغاني النسائيَّة الفدائيَّ في الأعراس، تزامناً مع مرحلة تاريخيّة انتشرت فيها التنظيمات الفلسطينيَّة الفدائيَّة، فتشير- مثلاً- أغنيّة "يمّا بدي الفدائي" إلى ذلك بوضوح. سمعتُ هذه الأغنية للمرَّة الأولى في تسجيل لعرسٍ عائليّ في الثمانينيّات، كانت فيه الطبلة ترافق صوتَ المغنّية الأساسيّة، وتردّد من خلفها الحاضرات، بينما تسحّجن وتتمايلن على وقع الطبلة،  وندائهنّ للفدائي الداخل إلى الأرضِ المحتلّة. غنّيْن: "يمّا أعطيني الفدائي لو ببلاش.. خشّ الأرض المحتلّة بإيده رشّاش.. يما أعطيني الفدائي لو بيفلّس.. خشّ الأرض المحتلّة على القدس".

المساحة الثالثة

حتى يومنا الحالي، ما زالت كلمات الأغاني المغنّاة في الأعراس، للشهيد وعنه، تُمثّل تفعيلَ الغناء والمساحات التي يُمارَس فيها لصناعةِ فضاءٍ جديد. فضمنَ تلك الخلطة المشاعريّة، وفي تسجيليْن مختلفين، يحضر "باسل الأعرج"، الشهيد المشتبك، تارةً إلى عرس ليُجدّد معه العهد، وتارةً إلى أغنية ترثيه عريساً يُزفّ إلى أمّه. ففي هذا التسجيل الصوتي لاحتفال بزفاف زوجيْن فلسطينيّين، غنّى المحتفلون مجدّدين العهد للشهيد: "دمّك دليلي، يا باسل الأعرج.. دمّك دليلي"، ووثّقوا أسماء شهداء آخرين وأحداثاً من تاريخ النضال الفلسطينيّ. غنّوا: "يحيى عيّاش.. يارب ترحم يحيى عيّاش.. رابط بالشاش جرحي يا يمّا، رابط بالشاشِ"، و"راح المزح وإجا الجد، ليلى نزلت على اللدّ"، فصارتْ مساحة العرس مساحةً ما بين العرس والمظاهرة الشعبيّة؛ مساحةً لسرد تاريخنا كاملاً.   

وحين رثت فاتن كبها الشهيد في أغنية، غنّت: "يا أبو سليمان ياريتني إشبينك.. تاني تابوت وأمشي على يمينك.. عريس الزين هيّو واصل على الولجة". صنعتْ بذلك- بقصد أو دون قصد- مساحة ثالثة تصوّر بها الشّهيد باسل على هواها، وتكسر كلَّ الثنائيَّات المتوقّعة، راسمةً مشهد احتفالٍ بعرس: "يا أم السعيد ويا فخر ما ربّيتي.. هيّو العريس يمّا وصل عالبيتي.. يا أخت الشهيد تكحّلتي وتحنّيتي..". لتتركنا الأغنية بين الوداع والاحتفال، لا هنا ولا هناك، بل في مساحةٍ جديدة.

اقرأ/ي أيضاً: العتابا ذاكرة المغلوبين

تمثّل هذه الأغاني وسابقاتها تفعيل المساحة الفعليّة للعرس، واللغويّة في الغناء للتعبير السياسي ولخلق مساحة ثالثة جديدة. فلا أنت في العرس، ولا في الأرض المحتلّة التي دخلها الفدائيّ، ولا أنت في مساحة تأبين باسل المشتبك، ولا في مساحة احتفالٍ بعرسه، بل في مساحة بينيّةٍ تعتريك بها خلطة من المشاعر.

بين الموت والحياة

يفترض مبيمبي في مقاله "سياسات الموت"، أنَّ الاحتلال يعمل على تقييد المساحات الفعليّة، وفرض السيطرة والسيادة عليها، من خلال فرض المعاني والتصوّرات الثقافيَّة، ومنها ممارسة سلطته في تحديد من يملك الحق بالموت أو الحياة. يُضيف مبيمبي أنّ الفلسطينيّ يُعرّف الشهادة بالحياة، ويدمج التعاريف ببعضها لمقاومة قرار المحتل بتحديد من يموت ومن يعيش، وذلك بإعادة صياغة معنى الموت والحياة. وحين يغنّي الفلسطينيّ كاسراً الثنائيات المتوقّعة، يصنع من مساحة العرس ورثاء الشهيد مساحة تعبير سياسيّ وسرد تاريخيّ وخليطاً من المشاعر. ذلك التباين في المشاعر والكلمات والتوصيفات يصنع مساحة ثالثة جديدة، بين البارود والعرس، وبين الشهيد والحنّاء، وبين الماضي والمستقبل.

فلربّما يكون "علي" في تغريبته على حقّ، هم عالقون بين الماضي والمستقبل، إلّا أنَّهم بضحكهم وبكائهم في نفس الوقت،  وتداخل الأزمنة والأمكنة في غنائهم، يصنعون حلقةَ الوصل بين الماضي والمستقبل، يغنّون الحاضر ويعبّرون عمّا تعنيه المساحات والأحداث السياسية والتاريخيّة على هواهم. صانعين بذلك، لربّما، لا مساحةً بينيّة عالقة بين مساحتيْن؛ بل مساحةَ حاضرٍ معرَّفٍ على هوى الفلسطينيّ.

للاستماع إلى المزيد من المقالات، يمكنكم الاشتراك في خدمة «صفحات صوت» إما من خلال الموقع أو تطبيق آبل بودكاست.