8 ديسمبر 2025

إنسان الكهف: عن صمود مسافر يطا

إنسان الكهف: عن صمود مسافر يطا

يحوم سرب الحمام فوق خربة المفقرة ذهاباً وإياباً، ثم يختفي في الأفق قبل أن يظهر مجدداً وهو يهبط على أسقف منازلها المبنية من ألواح الزينكو. يحلق الحمام مرة أخرى، وكأنه يقوم بجولة حراسة للخربة المحاصرة بثلاث بؤر استيطانية تتربع على ثلاث تلال محيطة.

على الأرض، ينادي الأهالي أطفالهم محذرين إياهم من تجاوز السياج القريب من عتبات منازلهم. فالمفقرة التي لطالما كانت مفتوحة على أراضي مسافر يطا الشاسعة بلا سور ولا حد، يحاصر أهلها اليوم أنفسهم بسياج، عسى أن يعرقل أو يؤخر هجمات المستوطنين المتصاعدة عليهم.

حال المفقرة كحال 21 قرية وخربة في مسافر يطا، لا يعلم أهلها قبل أن يبيتوا كل ليلة إن كانت شمس اليوم التالي ستشرق عليهم دون هجوم جديد من المستوطنين، أو دون أن تقتحم جرافات الاحتلال قراهم وتقتلع مساكنهم وتهجرهم منها. فكل لحظة تمر في مسافر يطا، هي لحظة ملغومة، والتأهب والاستعداد للتصدي هو كل ما يتجهز أهل المسافر لفعله.

عودة إلى الكهف

فور وصولنا إلى المفقرة، استقبلتنا مجموعةٌ من الأطفال من بينهم محمد بكر حمامدة (8 أعوام)، الذي نجا قبل أربع سنوات من إحدى هجمات المستوطنين على الخربة، وقد أُصيب بكسر في الجمجمة ونزيفٍ في الدماغ. ومنذ ذلك الوقت، أصبح محمد أيقونة المفقرة ومواجهتها العنيدة.

يركض محمد ورفاقه متسابقين بين مساكن المفقرة المبنية جدرانها من الطوب وأسقفها من الزينكو، لينبض بضحكاتهم ولعبهم المكانُ الذي تهدده "إسرائيل" بالمسح. فهنا، 22 عائلة يبلغ تعدادها نحو 200 فرد يتصدون يومياً لمحاولات تهجيرهم منذ نيسان/ أبريل 2022، بعد أن رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية التماساً قدمه أهالي المفقرة و11 خربة أخرى في مسافر يطا، ضد قرار الاحتلال اعتبارها مناطق إطلاق نار ويجب إخلاؤها.

بين مساكن خربة المفقرة في مسافر يطا. (تصوير: شذى حماد/ متراس)

تحولت المفقرة إلى ميدان قتال يومي، مرة بالتصدي لاقتحامات جيش الاحتلال وهدمه التدريجي للمساكن، ومرة بالتصدي لهجمات المستوطنين الذين يحاصرونها بثلاث بؤر استيطانية منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023. فالمفقرة، البوابة الجنوبية لمسافر يطا، إن سقطت ونجح الاحتلال بتهجير أهلها، سقطت معها 11 خربة، وإن ثبت وصمدت، ثبتت كل المسافر. يقول صهيب محمود حمامدة: "المفقرة مشرفة على كل الجبال المحيطة، بموقع جغرافي مطل ومميز، لذلك تطمع فيها إسرائيل وتريد الاستيلاء عليها".

يُقدم صهيب (27 عاماً) نفسه متفاخراً بكونه "من مواليد كهوف المفقرة"، وهجّرته "إسرائيل" منها مرتين منذ ولادته قبل إصرار عائلته وأهل الخربة على العودة مجدداً، إلا أنه يرفض أن ينزح منها مرة أخرى ولو ساعة واحدة. يضيف: "لن أترك المفقرة إلا إذا استشهدت على أرضها أو أُسرت من أجلها، هكذا أوصاني والدي. فالمفقرة شقفة من الروح، لا أرتاح إلا فيها، ولا أستطيع تنفس هواء سواها".

يحيط أهالي المفقرة تجمعهم السكني بسياج محاولين عرقلة وصول المستوطنين إلى نسائهم وأطفالهم، تراه لا ينتمي لصورة الخربة المفتوحة على مساحات مسافر يطا، دخيلاً على طبيعتها وامتدادها، لكنهم اضطروا إليه بعد تصاعد محاولات الدهس من قبل المستوطنين، التي بلغت في تشرين الأول/ أكتوبر من العام الحالي 37 محاولة دهس.

يعلق صهيب: "لم نتخيل يوماً أننا سننصب سياجاً حول المفقرة. نحن الذين كنا نتحرك بمواشينا في كل مساحات المسافر، اليوم نفكر عشر مرات عندما نريد الابتعاد أمتاراً".

فالمستوطنون لا يهددون بهجماتهم من هم داخل خربة المفقرة فقط، بل يحاولون الاستفراد بالأهالي خلال تحركاتهم، فكل بؤرة استيطانية حول المفقرة تسيطر على نحو 10 إلى 15 كيلومتراً، ما اضطر أهل المفقرة إلى التحرك في جماعاتٍ لقضاء حوائجهم خارج الخربة، والتناوب مع بعضهم البعض لحراسة الخربة على مدار الساعة.

أرجوحة أم الخير في المستوطنة

حول خربة أم الخير تلتف مستوطنة "كرميئيل" حتى تكاد تبتلعها. هنا أينما أدرت وجهك سترى وحدات المستوطنة تقترب من مساكن الأهالي، ولم تبق لها متنفساً.

خربة أم الخير، تجمع بدوي تعيش فيه عائلة الهذالين المهجرة عام 1948، ويبلغ تعدادها 300 فلسطيني، وقد اشترت هذه الأرض وأقامت عليها الخربة. ورغم أنها بوابة مسافر يطا، وأولى قراها، إلا أننا لم نستطع دخولها إلا بعد ساعات العصر، إذ يفرض جيش الاحتلال إغلاقاً عسكرياً عليها لساعات طويلة لعرقلة وصول الصحفيين والمتضامنين.

وصلنا مركز "أم الخير المجتمعي الدولي" حيث تستقبل الخربة ضيوفها، وكان قد اجتمع أطفال أم الخير للمشاركة في فعالية رسم. يقول الطفل عودة عمار الهذالين: "أرسم لأفرغ عن همومي"؛ كلمة كبيرة جداً على طفل لم يتجاوز الحادي عشر عاماً. رسم عودة ملعباً وأطفالاً، معبراً عن ساحة ألعاب تابعة للمركز الذي يهدده الاحتلال بالهدم، كما يهدد معظم مساكن الخربة بقرارات هدم نهائية طالت 14 مسكناً.

بؤرة استيطانية جديدة نصبت كرفانها الأول - يمين الصورة - بجوار مساكن خربة أم الخير. (تصوير: شذى حماد/ متراس)

خرج الأطفال للعب بالمراجيح بعد انتهائهم من الرسم، تتقدم الأرجوحة للأمام نحو مستوطنة "كرميئيل" التي أقيمت عام 1981، ثم تعود إلى الخلف حيث أقيمت مؤخراً بؤرة استيطانية جديدة، تبعد 10 أمتار فقط عن ساحة اللعب. يقول عودة: "احنا أطفال أم الخير بنعيش لحظات ما بعيشها أطفال بالعالم، كل يوم بهاجمونا المستوطنين".

يقول رئيس مجلس أم الخير، خليل الهذالين: "تعيق أم الخير توسع مستوطنة كرميئيل منذ 45 عاماً، ولكن إذا تمكنوا من ترحيلنا ستمتد المستوطنة وتتوسع نحو آلاف الدونمات شرقاً". ولتحقيق هذه الغاية، كثف المستوطنون في الأعوام الثلاثة الماضية هجماتهم على الخربة وأهلها، واغتالوا أبرز نشطائها. ففي 17 كانون الثاني/ يناير 2022 ارتقى الشيخ سليمان الهذالين بعد دهسه من قبل المستوطنين. فيما قتل مستوطنٌ الناشط عودة الهذالين في 28 تموز/ يوليو 2025.

يضيف خليل الهذالين: "يراهن الاحتلال على انكسارنا عندما يقتلون منا، ولكن عندما اختلط دماء أبناء الهذالين في الأرض، زادنا إصرار وعزيمة على إكمال الطريق".

مستوطنون بزي الجيش

وبالتزامن مع الإبادة الجماعية في غزة، تسارعت محاولات المستوطنين للاستيلاء على كامل مساحة مسافر يطا البالغة نحو 85 ألف دونمٍ، سعياً لفرض الواقع الذي لطالما كان حلم "إسرائيل" بإسقاط الاسم الذي يستقبلك على مشارف مسافر يطا: "بوابة الصحراء"، بضمها مفرغة من أهلها إلى صحراء النقب التي تحدها جنوباً.

نتحرك بين خرب وقرى مسافر يطا، بسيارة تترنح على جرف الجبال، فنرى واقعاً جديداً لم نكن نره هنا قبل عامين: تسع بؤر استيطانية منتشرة على تلال المسافر، تسيطر على  أكثر من 12 ألف دونم، وتضم كرفانات سكنية يزداد عددها يوماً بعد يوم، وأخرى بدأت بصب الاسمنت وبناء مساكن حجرية ثابتة، إعلاناً ببقاءٍ سيطول ويتوسع.

حالفنا الحظ هذه المرة، لم يوقفنا حاجز نصبه المستوطن في منتصف الطريق الوعر. فهنا، يقود المستوطن المنظومة الاستيطانية والعسكرية، تارة تراه بلباس مدني ومسدس مخفي في جيبه الخلفي، يرعى المواشي بين مساكن الناس وحولها، ويشن الهجمات عليهم؛ وتارة يرتدي بزته العسكرية ويحمل سلاح M16 وينصبُ الحواجزَ ويعتقل الشبان وينكل بهم، ويحرس المستوطنين الآخرين خلال هجماتهم.

"رأينا المستوطنين يبدلون ملابسهم المدنية بأخرى عسكرية، أمامنا وبكل صراحة بعد شن هجماتهم"، يقول محمد الربعي، رئيس مجلس تواني. ويضيف: "منذ أن فتحت "إسرائيل" باب التطوع في جيشها، واستعانت بجنود الاحتياط، أصبح المستوطن صاحب سلطة وسيادة عسكرية، لكونه متطوعاً أو جندياً احتياطيّاً في الجيش".

إحدى البؤر الاستيطانية التي زرعت بين خرب مسافر يطا بعد السابع من أكتوبر. (تصوير: شذى حماد/ متراس)
إحدى البؤر الاستيطانية التي زرعت بين خرب مسافر يطا بعد السابع من أكتوبر. (تصوير: شذى حماد/ متراس)

ورغم تباعد البؤر الاستيطانية التسعة عن بعضها، إلا أن بينها تنسيقاً وتنظيماً عالياً يظهر بوضوح في شن المستوطنين هجماتهم على قرى مسافر يطا، إذ تدفع كل بؤرة بمجموعة من مستوطنيها لتشارك في الهجوم. وحسب الأهالي، يقسم المستوطنون أنفسهم بين مجموعة تتقدم بلباس مدني وتبدأ بالهجوم، وأخرى تنضم في وقت لاحق ترتدي لباساً عسكرياً وتتدخل في حال تصاعد تصدي الناس.

تسارعت الخطوات الاستيطانية في مسافر يطا بعد إعلان وقف إطلاق النار في قطاع غزة في 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، من خلال شق الشوارع وإقامة البنية التحتية اللازمة، وبناء وإنشاء أكبر عدد من الوحدات الاستيطانية داخل البؤرة، إضافة إلى تجهيز منظومات زراعية واسعة. يقول الربعي: "يقوم المستوطن اليوم بتثبيت ما سيطر عليه خلال الحرب، بوقت قصير، وبمساحات أوسع".

إلى جانب ذلك، استحضر الاحتلال عدداً كبيراً من المستوطنين ونشرهم بين قرى المسافر وخربها، بذريعة "منع تكرار هجوم غلاف غزة". وحسب إفادة قدمها قائد أركان المنطقة الوسطى الإسرائيلي خلال تداول إحدى قضايا مسافر يطا في المحكمة الإسرائيلية في أيلول/ سبتمبر 2025، فإن أخطر 21 مستوطناً في الضفة موجودون اليوم في مسافر يطا.

حراس المسافر

برجل واحدة وعكاز، يقف الشيخ سعيد محمد رباع (60 عاماً) بين شجر زيتونه في خربة الركيز، يصد هجوماً جديداً للمستوطنين الطامعين بقطعة أرضه التي ورثها من جده. يدفع المستوطن الشيخ سعيد ويسقطه أرضاً، يحاول النهوض مرة وثانية وثالثة، حتى يقف مجدداً وينغرس بالأرض مواجهاً، كما اعتاده زيتونه.

هكذا، لا يمر يومٌ هادئٌ على عائلة الشيخ سعيد، فكل أيامهم مواجهة مع المستوطنين دفاعاً عن أرضهم ومسكنهم. إلا أن هذه المواجهة أخذت منحناً تصاعدياً أعنف منذ 17 نيسان/ أبريل 2025، عندما أحضر المستوطنون آليات ثقيلة وبدؤوا الحفر والعمل في الأرض. يروي الشيخ سعيد: "هاجموا ابني الصغير، خنقوه وأسقطوه على الأرض، ثم جاء مستوطن يحمل سلاح  M16 وأمسكني من يديَّ وثبتني، أطلق رصاصتين في الهواء، ثم وضع السلاح على قدمي وأطلق عليها الرصاصة الثالثة".

الشيخ سعيد في منزله في خربة الركيز. (تصوير: شذى حماد/ متراس)
الشيخ سعيد رباع في منزله في خربة الركيز. (تصوير: شذى حماد/ متراس)

تسبب المستوطن ببتر قدم الشيخ سعيد حتى لا يعود إلى الأرض، إلا أن الشيخ سعيد يرفض أن تتكرر هجرته مرتين، ففي 1999 هجره الاحتلال وعائلته عن قرية صارورة التي تبعد عنه مسافة كيلومتر ونصف فقط، واستقر في الركيز في أرضٍ ورثها عن جده. يقول الشيخ سعيد: "أنا قدمت قدمي في سبيل الله. ومهما حصل سأبقى صابراً في أرضي وبيتي، ومستحيل أن أتركها أبداً".

يُحرِّم أهالي مسافر يطا إدارة الظهر للمستوطنين والهرب، أو حتى الخوف منهم، ولا يغفلون عن أي تحرك أو تقدم للمستوطنين الذين أصبحوا تحت رقابة الأهالي طوال الوقت، بعضهم سكن تلالاً في المسافر لأول مرة بهدف الحراسة، فيما يشارك الأهالي عبر مجموعات على تطبيقي "واتس آب" و"تليجرام" تتبع أي تقدم للمستوطنين، ما جعل الناس يسبقون المستوطنين خطوة في كل هجوم باستعدادهم وتأهبهم.

على أنقاض خلة الضبع، وجدنا جابر دبابسة وزميله وقد بدأت مناوبة حراستهم ظهر 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، رغم الطقس البارد، وشدة الرياح. يقول جابر: "هجمات المستوطنين غادرة ومنظمة، لذلك يجب أن نبقى متيقظين لنحمي نسائنا وأطفالنا. رغم الإمكانيات المحدودة جداً". ويضيف: "كل الضغط والتعب الوجع والألم حصل. ورغم ذلك صامدون هنا لآخر نفس، لأنه لا بديل لنا عن خلة الضبع، وإن خرجنا اليوم أصبحنا لاجئين".

جابر دبابسة وزميله خلال نوبة حراسة قرية خلة الضبع يحتميان داخل مغارة بعد اشتداد الرياح. (تصوير: شذى حماد/ متراس)
جابر دبابسة وزميله خلال نوبة حراسة في قرية خلة الضبع يحتميان داخل مغارة بعد اشتداد الرياح. (تصوير: شذى حماد/ متراس)

بدأ تشكل لجان الحراسات في مسافر يطا منذ عام 2019، إلا أنها أصبحت ثابتة وأساسية بعد تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كل إمكانيات شبابها: أفرهولات وبساطير تقيهم برد الشتاء والمطر، وبعض الكشافات الضوئية. ورغم ذلك اعتبرها جيش الاحتلال "أغراضاً عسكرية" وشن حملة مصادرة واسعة العام الماضي طالت معظمها.

"لن نبرح المكان"

ضمن معركة ثبات المفقرة، لجأ أهلها إلى تأهيل الكهوف والعيش فيها، بعد أن أصبحت كل مساكنهم فوق الأرض مهددة بالهدم في أي لحظة، حتى أصبح في المفقرة أكبر تجمع للكهوف بنحو 46 كهفاً من أصل 371 كهفاً في مسافر يطا، يبلغ مساحة الواحد منها 60 إلى 150 متراً، مؤهلاً بطريقة حديثة، ومقسماً إلى مطبخ وحمام، وغرفة أو غرفتين للنوم، بأرضية مبلطة وجدران عازلة للرطوبة.

أما في خلة الضبع والركيز والتواني، فقد حفر الناس وجهزوا 120 كهفاً خلال عامي 2023-2025، كانت ملجأ وبديلاً لأهل خربة خلة الضبع الذين ارتكب الاحتلال بحقهم أكبر عملية هدم في المسافر في أيار/ مايو 2025، التي طالت كامل مساكنهم، ليعلن أهل خلة الضبع رفضهم التزحزح شبراً واحداً عن أرضهم، وإصرارهم على إفشال محاولة الاحتلال البدء بتهجير الفلسطينيين من مسافر يطا.

ويحاول أهالي مسافر يطا منذ سنوات صناعة بنيةٍ تحتيةٍ تعينهم على الثبات. فمنذ عام 2018 نجح مجلس التواني وبمساعدة الأهالي في إقامة شبكة مياه تغطي 86 كيلومتراً، فكانت من أهم الخطوات الفعلية لتعزيز صمودهم، وهو ما ثبتهم حتى الآن.

خربة خلة الضبع بعد أن هدمها جيش الاحتلال بالكامل، (تصوير: شذى حماد/ متراس)
خربة خلة الضبع بعد أن هدمها جيش الاحتلال بالكامل، (تصوير: شذى حماد/ متراس)

يقول رئيس مجلس التواني، محمد الربعي: "عملنا بالسر وبطرق وأدوات بدائية خلال ساعات الليل حتى وجه الصباح، ولكننا نجحنا". تعاني مسافر يطا من شح شديد في المياه، حيث يصل معدل هطول الأمطار إلى نحو 120 ملم، ما كان يضطر الأهالي لشراء المياه بأسعار مرتفعة، إذ يصل سعر تنك المياه (10 كوب) إلى 850 شيقل.

وفي قرية التواني، استوقفتنا يافطة تحمل "مول مسافر يطا". ليس مركزاً تجارياً ضخماً كما قد يتبادر إلى ذهنك، وإنما محل تجاري يتبادل فيه أهالي المسافر ما ينتجونه من مواد غذائية، فيما يغطي مجلس القرية ما ينقص من باقي الاحتياجات بأسعار منخفضة تراعي أوضاعهم. فكان "المول" جزءاً من منظومة اقتصادية أسسها أهل المسافر تساهم في تثبيتهم وإعانتهم.

كل فعل فردي وجماعي لأهالي مسافر يطا، يعبر عن مبدأهم الوحيد: "لن نبرح هذا المكان". تلخص فاطمة الهذالين (60 عاماً) ذلك بحديقة صغيرة زرعت فيها أنواعاً من الخضار: بروكلي، وسبانخ، وملفوف، وبصل، وفجل. ذلك كله على أنقاض منزلها الذي هدمته جرافات الاحتلال في شباط/ فبراير 2025، ويمنع الاحتلال العائلة من إعادة بنائه.

فاطمة الهذالين وخلفها مزرعتها على أنقاض منزلها المهدوم في خربة أم الخير. (تصوير: شذى حماد/ متراس)

فاطمة الأم لثلاثة عشر ابناً وابنة، وجدة لأربعين حفيداً، تقول: "أم الخير كلها خير، أحلى منطقة في الدنيا. سنبقى صامدين فيها مهما فعلوا،  مهما قلعوا سنزرع، ومهما هدموا سنبني، حتى لو متُّ سيكون لي قبر هنا". وتابعت بثبات لا ينكسر: "أنا امرأة بدوية مستعدة أن أعيش في خيمة، وأطبخ على النار. بعد كل الذي عانيناه منهم، بعد كل الشهداء الذين قدمناهم، مستحيل أن نتزحزح عن هذا المكان".

ودَّعتُ فاطمة وتركتها جالسة عند عتبة منزلها تقلب حبات مسبحتها أمام كاميرا متطورة لمستوطنة "كرميئيل" مسلطة نحوها مباشرة. غادرت "مسافر يطّا"، والخوفُ يتملّكني من ألا أستطيع العودة إليها مجدداً، أو أعود فيُقال لي: كان هنا شيء اسمه "مسافر يطّا"، ولكن أنت عن ماذا تبحثين؟!