كشف هجوم السّابع من أكتوبر 2023 هشاشة الأمن القوميّ الإسرائيلي، وتآكل مفاهيم الأمن التقليدية، رغم التفوق العسكري الظاهري، ما أظهر الحاجة الملحة لإعادة تقييمه، واختراع مفهوم أمنيٍّ جديد، في ضوء الأخطاء الاستراتيجية التي وقع بها قادة الاحتلال خلال العقود الأخيرة، إلى جانب الدمار الهائل الذي نجم عن العدوان على غزة، وتراجع قدرات الجيش الإسرائيلي مع استمرار القتال، نتيجة نقص التدريب وتقليص القوات، ما عكس اختلالات إستراتيجية عميقة.
وقد حاولت ورقة بحثيّة إسرائيليّة متخصصة1مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي.. رؤى استنتاجية من حرب السيوف الحديدية، "إيدو هيخت"، المحاضر بجامعتي بار إيلان وحيفا، وكلية القيادة والأركان العامة لجيش الاحتلال، معهد بيغن-السادات للدراسات الاستراتيجية، أكتوبر 2024.، استكشاف الثغرات التي عصفت بمفهوم الأمن القومي الإسرائيلي عقب هجوم "طوفان الأقصى"، من خلال الإجابة على تساؤلات جوهرية: لماذا أخفقت "إسرائيل" في تحويل إنجازاتها العسكرية المزعومة إلى مكاسب سياسية بغزة؟ وما التحديات التي تعيق استمرار القتال رغم طول أمده؟ كما تتبّعت الورقة تطوّر الإشكاليات الأمنية خلال الحرب على غزة في الفترة الواقعة بين (2023-2025)، مع تركيزٍ خاص على هجوم حماس الذي كشف نقاط ضعف هيكلية في بنية الاحتلال العسكرية والسياسية الإسرائيليّة، إلى جانب استعراض الخيارات المتاحة لإعادة صياغة مفهوم أمني يتلاءم مع التحولات الإقليمية المتسارعة، ومدى جاهزية "إسرائيل" لمواجهة التحديات المستقبلية.
"هناك خلل": مراجعة لمفاهيم الأمن القومي الإسرائيلي
تشير الورقة إلى سلسلة استنتاجات حاسمة حول العدوان الإسرائيلي على غزة، وتبدأ بالإشارة إلى "إنجازات" عسكرية حققها جيش الاحتلال بدرجات متفاوتة؛ بعضها كان جيّداً، والبعض الآخر بمستوى متوسط، بينما كان تنفيذ جزء منها سيّئاً. ومع ذلك، لم تتمكن هذه "الإنجازات" من تحقيق الأهداف السياسية التي وضعها المستوى السياسي منذ بداية العدوان، ما يعكس فشلاً أوسع في تحويل المكاسب العسكرية إلى نتائج استراتيجية ملموسة.
ورغم الدمار الهائل الذي ألحقه العدوان الإسرائيلي بقطاع غزة، واستباحته لدماء المدنيين وقتله أكبر عدد ممكن منهم، وتوجيه ضربات للبنية العسكرية للمقاومة، إلا أنّ الجيش الإسرائيلي يعتبر هذه الأعمال جزءاً من أهداف "مشروعة"، حتى وإن لم تكن مُعلنة. ومع ذلك، تُظهر الوقائع أنّ قدرات الجيش تتضاءل تدريجياً كُلّما طالت شدّة القتال، وذلك نتيجة عوامل متراكمة، أبرزها: تقليص حجم القوات المناسبة، تغيير أدوارها، وخفض التدريبات بشكل حادّ، مما أدى إلى وضع هشٍّ مع بداية الحرب على غزة.
اقرؤوا المزيد: ليلة المكالمات المذعورة.. تحقيق إسرائيلي عن اللحظات الأولى للطوفان
الواقع الأمنيّ الإسرائيليّ بات أكثر تعقيداً وغموضاً، ما يجعل مفاهيم الأمن القومي تشهد تعارضات متعددة. وهذا الأمر يتطلب من كبار المسؤولين الأمنيين إيجاد حلول وسط للتوفيق بين الأولويات المتضاربة. وقد كشفت الهجمات الكبرى، بدءاً من هجوم السابع من أكتوبر وحتى العدوان على غزة، عن اختلالات جوهريّة في بناء الجيش ومجتمع الاستخبارات.
وعلى مدى العقود الأخيرة، شهدت "إسرائيل" انخفاضاً في عدد الأدوات الأمنية المتاحة، مع إهمال بعضها بحجة عدم ملاءمتها للوضع الراهن، أو اعتبارها بالية. نتيجة لذلك، أصبح الجيش وأجهزته الاستخباراتية غير قادرين على "الاستجابة المثالية" للتهديدات التي برزت بوضوح مع اندلاع الحرب، وهي مؤشرات "خلل" باتت تشكل تحدياً صارخاً لمفاهيم الأمن القومي الإسرائيلي.
أداء الحرب وتقييم آفاقها الزمنية
يفرق الإسرائيليون بين "انهيار" مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي و"فشل" تطبيقه، وأنّ المشهد الأمني لـ" إسرائيل" لا يمكن تصنيفه ضمن إطار صارم من الأبيض والأسود، بل هو مزيج من تعقيدات متشابكة. هذه الفروق تعتمد إلى حدٍّ كبير على الكيفية التي تدير بها المؤسستان العسكرية والأمنية مفهوم الأمن القومي عبر التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى، والإجراءات التكتيكية الآنية.
وتقترح الورقة تصنيفات زمنية لأهداف "إسرائيل" في عدوانها على غزة: ففي المدى الفوري، فشلت في استعادة الأسرى أو القضاء على قدرات حماس عسكريًا وسياسيًا؛ وفي المدى المتوسط، عجزت عن السيطرة على تطورات التهديد الأمني بعد هجوم 7 أكتوبر، كما يظهر من سلوكها في الضفة الغربية؛ أما في المدى البعيد، فلم تنجح في كسر المقاومة أو ثنيها عن تهديد "إسرائيل"، بل عززتها بتجنيد آلاف المقاتلين الجدد، ما يعكس فشلًا استراتيجيًا شاملًا.
اقرؤوا المزيد: بعد 200 يوم: ماذا يقول الإسرائيليون عن حربهم علينا؟
الثمن الباهظ الذي تكبّده الاحتلال في السابع من أكتوبر، بجانب إدراكه أن "الهدوء" الذي تبع عملية "سيف القدس" عام 2021، لم يكن إلّا خدعة مؤقتة. دفع ذلك المستوى السياسي الإسرائيلي إلى مطالبة الجيش بتحقيق إنجازات إستراتيجية أكبر، حتى ولو كان ذلك عبر حرب طويلة الأمد، بهدف إحداث تغيير جذري في طبيعة التهديدات الأمنية، غير أنّ هذا المسار أوقع الاحتلال في مأزق مستمر حتى بعد مرور أكثر من 550 يومًا، يتمثّل في التعامل مع معضلة "اليوم التالي" في غزة.
المعضلة الأهم التي واجهت مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي كانت اتّساع الفجوة بين نهاية حقبة الحروب التقليدية طويلة الأمد وبداية الحروب الحديثة، مما تسبب في تغييرات جوهرية بمبادئ الأمن القومي وأدوات تنفيذه. هذه التحوّلات أسهمت في خلق تناقضات وتوتّرات واضحة في الأساليب الإسرائيلية، وأدت إلى نتيجة استراتيجية سيئة؛ إذ فشلت "إنجازات" الاحتلال العسكرية ضد حماس وحزب الله في تحقيق أهدافها بالسرعة المطلوبة أو بالفعاليّة المرجوّة.
ثغرات الإنذار وتقديس التكنولوجيا
أكثر من ذلك، كشفت الحرب على غزة عن خطأ جسيم ارتكبه جيش الاحتلال في السنوات الأخيرة، من خلال "تقديسه" للجودة التكنولوجية على حساب كل إجراء آخر، بما فيها عدد أقلّ من القوات والوسائل القتالية والمهارات، بتقصير مدة التدريبات والتمارين، وتخفيفها، مع حصر التجهيزات بأحدث الوسائل التكنولوجية.
كشفت بيانات "الشاباك" بين 2020 و2023 تصاعدًا مستمرًا في عمليات المقاومة الفلسطينية، لكن "إسرائيل" فشلت في ترجمة هذه المؤشرات إلى استعداد فعّال لهجوم 7 أكتوبر. فقد ارتفع عدد العمليات بشكل ملحوظ قبل الحرب، إذ سجّل "الشاباك" قرابة 1320 عملية وهجوم في 2020، وفي 2021 ارتفع عددها إلى 2135، وفي 2022 إلى 2615، وفي 2023 إلى 2370 خلال الأشهر التّسعة التي سبقت السابع من أكتوبر، ولو استمر هذا الاتجاه، لنفذت المقاومة أكثر من 3000 هجوم بحلول نهاية ذلك العام، ما عكس عجزًا استخباراتيًا عن قراءة التحذيرات أو اتخاذ إجراءات وقائية كافية. هذا الفشل مهد الطريق لصدمة "طوفان الأقصى"، وأظهر ثغرات خطيرة في التنبؤ بالتهديدات المتزايدة.

ومع اندلاع الحرب على غزة، برزت هشاشة الدفاعات الإسرائيلية أمام الضربات بعيدة المدى من إيران، اليمن، العراق، والمقاومتين الفلسطينية واللبنانية. ورغم وجود منظومات مثل "القبة الحديدية" و"حيتس"، تراجعت قدرتها على التصدي الشامل للصواريخ المتزامنة، بسبب نقص القوات اللازمة لتأمين الحدود. وادعاء الاحتلال بخوض حرب على سبع جبهات لم يترجم إلى استقرار دفاعي، إذ عجز سلاح الجو عن تقديم استجابة كاملة للتهديدات، وعكس نقصاً حادّاً في الاستعداد العسكري.
اقرؤوا المزيد: جبهة قتال مع "إسرائيل"، ولكن بدون دماء
أيضاً، تمثّل الخطأ الاستراتيجي في "تقديس" جيش الاحتلال للجودة التكنولوجيّة على حساب أيّ إجراء آخر، إذ إنّ الاعتماد المفرط على التكنولوجيا المتقدمة، كالذكاء الاصطناعي في تنفيذ الاستهدافات والاغتيالات لعناصر وقادة المقاومة، كشف عن أخطاء كبيرة على حساب تدريب القوات وتطوير المهارات الأساسية، ما أدى إلى تقصير التمارين وإهمال العنصر البشري في جمع المعلومات، وتسبب في مجازر دون "مكاسب سياسيّة".
وأصبح من الضرورة الجمع بين التكنولوجيا والقوة البشرية المدربة، وتعزيز التحصينات، وأنظمة الإنذار المبكر، ومنظومات الدفاع لمواجهة التحديات، بتبني خيارات "معقولة التكلفة" بدل دفع أثمان باهظة مقابل نتائج متواضعة، وذلك لترجمة النجاحات العسكرية إلى مكاسب سياسية ملموسة.
الثمن البري ومعضلة الحرب الممتدة بلا حسم
يتطلب الحسم العسكري السريع جيشاً كبيراً قادراً على القتال في جبهات متعددة، بينما تستلزم الحرب الطويلة احتياطات كافية لتدوير القوات. لذلك، جنّدت "إسرائيل" 300 ألف جندي احتياط مع بداية حرب غزة، لكن هذا القرار شكّل ضغطاً اقتصادياً هائلاً، مما كشف عن تحديات لوجستية وسياسية في إدارة الصراع الممتد.
في الوقت نفسه، فاقم رفض "الحريديم" الانخراط في الخدمة العسكرية الانقسامات السياسية، الأمر الذي هدد استقرار الحكومة وسط اقتراحات بتمديد الخدمة الإلزامية وزيادة أيام الاحتياط، وقد يؤدي هذا إلى انسحاب الأحزاب الدينية من الائتلاف، وهنا سيحاول بنيامين نتنياهو البقاء في المشهد السياسيّ، ولو على حساب استخلاص الدروس من حرب غزة.

علاوة على ذلك، تسبب جنود الاحتياط في فضائح للجيش الإسرائيلي بسبب الجرائم التي ارتكبوها ووثّقوها بهواتفهم، في غزة، ما زاد الجدل حول دورهم في الجيش.
وبينما تعتمد نظرية الأمن القومي الإسرائيلي على "نقل الحرب إلى أرض العدو"، قلبت حرب غزة هذه المعادلة. فقد توسعت المواجهة لتشمل جبهات لبنان، اليمن، العراق، وإيران، ما عرّض المدن الإسرائيلية لقصف مستمر وحوّلها إلى مناطق شبه مهجورة، وكشف عن ضعف الجبهة الداخلية.
اقرؤوا المزيد: الاجتياح البريّ للقطاع: كيف؟ ولماذا؟ وهل؟
نتيجة لذلك، عجزت النيران الجوية عن تحقيق أهداف الاحتلال، فدفع ذلك لعملية برية واسعة في غزة. ورغم أنها أثبتت فعالية نسبية، إلا أنها كلّفت مئات القتلى وآلاف الجرحى، مما أثار تساؤلات حول توقيت المناورات البرية وجدواها، وإبراز الحاجة لتكييف الاستراتيجية مع واقع الحرب.
لذا، أصبح يُوصى بتعزيز حماية مركبات الجنود بمدافع وشبكات تمويه للحفاظ على حياتهم من نيران الدروع التي تحوزها المقاومة ليس فقط في الخطوط الأمامية، بل أيضاً في المؤخرة العسكرية، بتجهيزها بوسائل مخصصة لحماية مركباتها، وتجهيزها بعدد كبير من المدافع والقذائف، وإعادة تدريب القوات على استغلال التضاريس لتقليل تعرّضها لنيران المقاومة، وإعادة تجهيزها بشبكات تمويه جديدة النّماذج، لتتكيف مع التهديدات.
ومن بين التوصيّات أيضاً، العمل على اختراق العقبات التي تضعها المقاومة، بما فيها الألغام المنثورة على طريق حركة القوات، وذلك باستخدام الصواريخ أو الطائرات دون طيّار. مع التأكيد على إجراء القتال المتكامل على المستويات الدنيا بإضافة وسائل جديدة، كالمركبات الجويّة غير المأهولة للمراقبة والهجوم.
اقرؤوا المزيد: رحلة تدمير الدبّابة
كذلك، توصي الورقة البحثيّة الإسرائيليّة بمزيد من التخصص لقوّات الجيش، وفقاً لأنواع التضاريس التي يتوقع أن تُقاتل فيها، وتطوير القدرة على إمداد القوات بعمق يصل إلى عشرات الكيلومترات خلف الحدود، عبر الغارات الجويّة والنقل البري، مع التعامل مع عمليات الإمداد كمهمة قتالية بكلِّ معنى الكلمة.
وعلى ضوء ذلك، تظهر الحرب الطويلة والثمن البري مدى هشاشة الأمن الإسرائيلي أمام التهديدات المتعددة. فدون تعديل استراتيجي يجمع بين قوات مدربة وإدارة فعالة للاحتياط، قد تواجه "إسرائيل" مخاطر تفكك داخلي وخسائر أكبر في المستقبل.
الإحباط الإسرائيلي وسؤال المستقبل
تكشف قراءة هذه الورقة الإسرائيلية، بلغتها العبرية الأمّ، عن عمق الإحباط الإسرائيلي نتيجة "هزيمة السابع من أكتوبر" وما أعقبها من حرب دامية على غزة. الهجوم المفاجئ ألحق خسائر كبيرة بالاحتلال، شملت استهداف مستوطني الغلاف، وضرب قواته العسكرية، والاستيلاء على أجزاء من المستوطنات.
ورغم أنّ خطة المقاومة لم تحقق كامل أهدافها - بحسب الورقة - ولم يكن ممكناً تدمير "إسرائيل" أو الاحتفاظ بالأراضي التي سيطرت عليها لفترات طويلة، إلّا أنّ حجم الأضرار التي تكبّدها الاحتلال يكشف هشاشة منظومته الأمنية.
ومع الأضرار المادية الهائلة وارتفاع أعداد القتلى والجرحى، يكمن الضرر الأكبر في الأثر النفسي الذي أصاب الأمن الذاتي للإسرائيليين. يبرز هذا ضمن النقاش حول "التكلفة التراكمية" لهذه الهزيمة، ومخاوف حدوث هجوم مماثل مستقبلاً. هذه الهزيمة، تمثّل تراجعاً كبيراً في سعي الاحتلال لتحقيق مفهومه للأمن القومي، وتضعه أمام تحديات جذرية لإعادة بناء استراتيجيته.