في خيمة النزوح تبدّد حلمي بتربية طفلي عزّ الدين (4 أعوام)، كما سبق أن تمنيت وخططت وسعيت، منذ أن جاء إلى الحياة، وتحول الحلم إلى صراع يومي أحاول فيه إبعاد الفقد والجوع والمرض والبرد والفئران والحشرات عن عز، وهكذا تحولت مهمتي كأم!
أنا التي سعيت لرسم حياةٍ مليئة بالعلم والجمال لعزّ، أقرأ له القصص، وأتابع معه دروساً من منهج "المونتيسوري"، وأعلّمه أسماء الأشياء، وأدرّبه على الخطابة والملاحظة، كنت أؤمن أني سأُعدّ طفلاً قائداً.
تهاوت خططي كلها في الحرب، وخلافاً لما أردت أن أفعله لعز في سنينه الأولى، لتجهيزه وإعداده، لم يعد يشغلني سوى أن أحميه، وأن أبقيه حياً، وسليماً، وأردت لنفسي أن تظل متمسكة بخططها التي ستستعيدها لأجل طفلها يوماً ما عن قريب.
من أجل نجاة عز
في 21 أيلول/ سبتمبر 2025، اقترب جيش الاحتلال الإسرائيلي من حيّ النصر، سمعنا أصوات الدبابات والاشتباكات أقرب من أي مرة مضت، كانت السماء تمطر ناراً، والأرض تهتز من تحتنا، والأبراج تتهاوى من حولنا وتترك فراغاً.
لم يعد أمامنا سوى النزوح، بعدما انقطعت الحياة في الحيّ ولم يبقَ سوى صوت القصف، وطائرة "الكواد كابتر" التي كانت تطلق كل ليلة تعليماتٍ جديدة، في تلك الليلة الأخيرة، اشتد القصف حتى تساقطت القذائف على بيوتنا، ودخلت الطائرة من شباك الشقة تكرر عبارتها الباردة: "معك ربع ساعة، اطلع من البيت، أنت في منطقة قتال خطيرة".
اقرؤوا المزيد: رعب اسمه: حقيبة الطوارئ
حين رآها عزّ الدين، احتضن سيارته الصغيرة وقال لي بصوتٍ مرتجف: "ماما، أنا بدي أطلع على الجنوب… بلاش أموت"، تجمّدت مكاني، كأن كلماته حملت كل خوف العالم، نظر إليّ والده وقال: "ما عاد في مجال، لازم نطلع لأجل عزّ".
كان وقع الخبر كالصاعقة، تحمّلنا كل الليالي الصعبة واتفقنا ألا نغادر غزة، لكنّي استسلمت لدافع الأمومة، ولم يسعفني الوقت لأجمع مستلزماتي التي اشتريتها بعد فقدان منزلي الأول، بكيت كما لم أبكِ يوماً، بكيت ضعفي وخوفي من المجهول.
في طريقنا إلى الجنوب، رأى عزّ دموعي وقال لي: "تخافيش يا ماما، بكرة بنرجع على دارنا".
ليلة في الخيمة
وصلنا إلى خيمة في الجنوب، كان إن مر علينا النهار ونحن بخير، فالليل في الخيمة امتحانٌ آخر، حيث تتحول الأم حارسةً لطفلها من الفئران، أظل مستيقظة حتى الثانية فجراً أراقب الفرشة، أضع الريحان والفلفل الأسود كما وصفت إحداهن لي بأنه يطرد الفئران، أُبعدها بقطعة قماش، أتحسس أنفاس طفلي في الظلام، اتفقد جسده أن لا حشرة اقتربت منه.

صوت مشية الفأر أصبح فيلم رعبٍ يوميّا لا يقلّ عن صاروخٍ يمرّ فوق رؤوسنا، وفي قلبي سؤال لا يغيب: كيف أصبحنا نخاف من فأرٍ أكثر من خوفنا من القصف؟
في بيتنا، لم نكن نعرف شيئاً عن الفئران ولا الحشرات، كانت حياتنا نظيفة، مرتّبة، آمنة، الآن أنظر حولي ولا أصدق أنني كنت يوماً أعيش في منزلٍ حقيقي، وتلاشى من مخيلتي ماذا يعني المنزل!
اقرؤوا المزيد: الجوع والخيمة
هناك، كنت قد خصصت خزانة لملابس عز، رتبتها بعناية، وحرصت دوماً أن أصنع له إطلالات تنسجم مع لبسي ولبس والده، أتابع كل ما هو جديد لأجله؛ أما الآن، وسط الخراب والخيم، أصبحنا نبحث عن قطعة قماش بالية ليرتديها عز، حتى أجبرني الحال أن أعيد حياكة ملابس والده، وأحولها ملابس له.
ولكني لم أستطع حماية عز من كل شيء، ففي إحدى المرات أصيب بمرضٍ جلدي غريب، بقعٌ انتشرت في جسده وحرارةٌ مرتفعة، قيل لنا إنه بسبب "لعاب الذبابة"، وهو مرضٌ شائع بين الأطفال في الخيام، كنت أمسح جلده بقطعة قماش مبلّلة وأتمتم بالدعاء، هذا كل ما كنت أستطيع فعله.
وكيف أحميه من هذا المرض الذي ينتقل إلى الأطفال من التراب؟
فالتراب هنا في طعامنا، في شرابنا، في نومنا، في هوائنا، كنت أراقبه بحذر، أمسح جلده بقطعة قماش مبلّلة، وأحاول حمايته مما لا يُحمى منه.
وكيف أقنع طفلاً فقد كل ألعابه، ألا يلمس التراب ويلعب فيه ونحن نعيش وسطه؟
عودة إلى الروضة
حين عدنا إلى غزة في كانون الثاني/ يناير 2025 بعد النزوح الأول، قررت تسجيل عز في روضة خاصة رغم قلة الدخل، كنت أريد أن أُعيد لعزّ شيئاً من طفولته المسلوبة، كان سعيداً، يرتدي زيه الجميل ويحمل حقيبته، يضحك كل صباح، ويردد قَسم مدرسته: "أنا إنسان، صالح مبادر، أحب وطني وأحترم الجميع".
أتأمل مدرسته من شباك منزلي المطل عليه وأشعر أن فراشات تحوم بداخلي، كيف لطفلٍ يعي هذه الكلمات، كان يناقشني يومياً في مفاهيم قسم روضته يقول: "ماما أنا بدي أصير مبادر، أجمع الوسخ من الشارع، وأرتب كراسي المدرسة، وأحب غزة كل يوم".

لكن الحرب عادت سريعاً، والقصف اشتدّ في حيّنا، فاضطررنا للنزوح من جديد، حينها رأى عز معلميه يفككون المدرسة أيضاً، فبكى كثيراً، ويبدو أنه حينها فقط شعر بأحد معاني النزوح.
اقرؤوا المزيد: شتاء غزة القاتل
بعد أسبوع، وبينما كنا في خيمة جديدة، قال لي: "ماما، ما تزعلي، بكرة بنعمل غزة تانية، وبنعمر بيتنا، وبروح على المدرسة".
قبل الحرب كنت أُخطط لمستقبل عزّ بتفاصيل دقيقة: أن يتعلّم الإنجليزية، الخطابة، الحاسوب، الفنون، كل خطوة كانت محسوبة، حتى جاء القصف فنسف كل شيء، في الخيمة، لا جدران تحمي، لا خصوصية تربوية، لا بيئة تعلم، ضجيج وجوع فحسب، وعيون تراقبك من كل جهة.
حتى الحوار مع طفلي لم يعد حواراً خاصاً، ففي الخيم كل كلمة تُسمع، وكل قرار يُناقش من الغرباء.
الرسم كنجاة
يمتلك عز خيالاً سردياً قوياً، دائماً يرسم رجل الفضاء، وبعد انتهائه من رسوماته يأتي إليّ مسرعاً يشرح لي ما رسم، استطعنا أن نوفر له ألواناً وكتب تلوين، وأقلام رصاص، وعند انتهائه من أي رسمة كنت أعلقها على حائط غرفته المتضررة جزئياً.
حين خرجنا من بيتنا مجبرين، أصر عز على أخذ شنطته المدرسية، ووضع بداخلها ألوانه وكتبه وأقلامه، ومنذ ذلك الحين، أصبح لا يتخلى عنها، ويتنقل بها من مركز نزوح إلى آخر.
كانت رسوماته تعكس طفولته التي لا تنطفئ، وأحلامه التي لم تُمحَ، ذات مرة، أتى عز مبتسماً وقال: "ماما، أنا رسمت آيس كريم بطعم الفراولة والموز"، احتضنته بقوة، ووعدته بإطعامه أيس كريم بالفراولة والموز، كان المنتشر حينها في السوق بوظة مصنوعة من دواء سعال الأطفال، ذات نكهة سيئة وسعر مرتفع.
حاولت قدر الإمكان البحث عن بديل، ولكن لم نجد سوى مكمل غذائي يباع بأربعة دولارات كان من المفترض توزيعه على الأطفال مجاناً، ووعدته بأنه إذا انتهت الحرب وفتحت المعابر ستدخل جميع أصناف الطعام اللذيذة وأجلبها كلها له.
طفلي لا يعرف الخوخ
كان الجوع يكمل دائرة الضيق عليّ كأم تحاول أن تنقذ طفلها من الحرب والموت، مررنا بأيام مريرة، كنت أحاول أن أُعدّ لعزّ شيئاً يسد رمقه من العدم، العدس صار طعامنا الدائم، والدقة وجبة العشاء.
حين اشتدت المجاعة، كان يشغلني ليل نهار كيف أحضر الطعام لعز، في إحدى المرات اشتريت نصف كيلو من العجوة بـ 80 دولاراً، وملعقتين من جوز الهند بستة دولارات، صنعت منها كرات صغيرة لعز، ومرة، اشتريت طحيناً بـ 40 دولاراً لأصنع خبزاً بسيطاً من دون خميرة، أملؤه بـ "الدقة المصنوعة من العدس" وزيت القلي، وأشكله له على شكل مربعات ومثلثات ليبتهج بأشكاله.
اقرؤوا المزيد: مطبخ الشمال: الخبيزة أو السلق؟
وفي مرة ثالثة، صنعت له عجينة رقيقة من الطحين القليل، دهنتها بصلصة من معجون طماطم والقليل من التوابل، وضعت شريحتين زيتون، وحين رآها في "اللّانش بوكس" أضاءت عيناه كأنني أعددت له وليمة.
كنت أرى على فيسبوك مقاطع لأمهاتٍ يحضّرن حقائب الغداء لأطفالهن من خضار وفواكه ومعجنات، فأبتسم بمرارة، كنت أستغرب كيف يأكل طفل كل هذه الكمية ونحن الذين تعلمنا أن القليل يكفي لنعيش يوماً آخر.

في أحد الأيام بكى عزّ يريد بسكويتاً، بحثت في السوق طويلاً ولم أجد شيئاً صالحاً للأطفال،عدتُ إليه بخُفَّي حُنين، فبكى بحرقة، وبكيت أنا لعجزي، حينها شعرت أنني لم أعد أمًّا، بل ظلّ امرأةٍ تُحاول النجاة فقط.
بعد عامٍ كامل من الحرمان، دخلت بعض الفواكه السوق، اشترى والد عزّ خوخة واحدة بثلاثة دولارات، ناولته إياها بفرحٍ وسألته: "ماما، شو هاي؟"
أجابني: "بطاطا".
قلت: "لا يا عز، فاكهة".
فسأل: "كوسا؟"
تجمدت مكاني، كيف لطفلٍ في الرابعة ألا يعرف طعم الخوخ ولا لونه؟ كيف لم يعد يفرّق بين الفاكهة والخضار؟ كانت لحظة قاسية، صفعتني على وجهي كأمٍّ، وكإنسانةٍ أيضاً.
اقرؤوا المزيد: شوكولاتة وحلم.. هكذا تحدت ياسمين المجاعة
هذه الحرب لم تقتلنا فقط، بل أعادت تعريفنا، لم تعد الأمومة في غزة تعني الرعاية فقط، بل الصمود، لم تعد تعني تزيين الحقيبة المدرسية، بل حراسة الطفل من الموت، لم تعد تعني طعاما صحيا، بل انتظار شربة ماء بعد طابورٍ طويل.
هذه الرحلة الصعبة خرجت منها بدروسٍ من طفلي عز الذي علمني الصبر، والتحمل، والعطاء، والرضا، وعلمني أن الأمومة تعني أن أصنع وطناً صغيراً لطفلي.