2 ديسمبر 2020

أفلام إسرائيليّة "يساريّة".. حين يرتدون ثوب الضحية

أفلام إسرائيليّة "يساريّة".. حين يرتدون ثوب الضحية

أذكر المرّة الأولى التي شاهدت فيها فيلماً إسرائيلياً. كان ذلك أثناء تواجدي في النرويج عام 2013، حيثُ مهرجان ترومسو الدولي للأفلام- Tromso International Film Festival، والمعروف بدعمه للقضية الفلسطينيّة. أشار أحد المنظمين، بصيغة اعتذاريّةٍ مني، بأنهم سيعرضون أفلاماً وثائقيةً إسرائيليّة ضمن برنامج عروض الأفلام، إلا أنه طمأنني بأنها أفلام "يساريّة" تنتقدُ النظام الإسرائيلي. وعلى مضض، شاهدتُ اثنين من الأفلام، وهما: "جندي/مواطن" (Soldier/Citizen; 2012) وحرّاس البوابة (The Gatekeepers; 2012). 

على المستوى الظاهري، لم تكن هناك أي مشكلة واضحة في الفيلمين المعروضين. بل على العكس، فلقد سلّطا الضوء على الكثير من ممارسات الاحتلال غير الإنسانية تجاه الشعب الفلسطيني. مع ذلك، شعرت بغضبٍ واستياءٍ شديدين، دون أن أعرف السبب وراء ذلك. 

بعد 5 سنوات، شاهدت فيلماً إسرائيليّاً آخر من النوع ذاته في مهرجان لندن للأفلام - London Film Festival، وهو: (Unsettling; 2018). فقط وقتها، أدركت السبب، وعرفتُ أين تكمن المشكلة.  

موقف "صعب"!

يروي الفيلم الوثائقي "غير مُستقر" (Unsettling) للمخرجة الإسرائيلية آيريس زكي قصّةَ انتقالها من "تل أبيب" للعيش في مستوطنة "تقوع"، جنوب بيت لحم، لمدة شهرين. ومن خلال مقابلات تجريها مع المستوطنين، تريد المُخرجة معرفة سبب اختيارهم العيش بشكل غير قانونيّ في الضفة الغربيّة.

يبدأ الفيلم بإعطاء الُمشاهد الحقائق من خلال أرقام: 400 ألف مستوطن في الضفة الغربيّة، بواقع 125 مستوطنة، مقابل 3 ملايين فلسطيني. تخبر زكي صديقها المستوطن بشكل واضح أنّها ضد الاستيطان في الضفة الغربيّة. نسمع صوتَ المستوطنين المتدينين وهم يسألون خارج إطار الكاميرا:  "هل التصوير قانوني في إسرائيل بدون تصريح؟". فيبدو كأننا، نحن الجمهور، نشاهد فيلماً "ضدّ القانون الإسرائيليّ". من النظرة الأولى، ولجمهورٍ غربيّ يجهلُ تفاصيل الواقع الاستيطانيّ في الضفّة، يبدو الفيلم مناهضاً للاستيطان.

إلا أن لغة الفيلم البصريّة تُشير إلى عكس ذلك. نسمع على شكل voice over صوتَ اتهامات المستوطنين للمخرجة على أنها "يساريّة دخيلة". بينما نشاهد ضمن المشاهد الافتتاحية للفيلم لافتة "عناق مجانيّ" مُثبّتة على الأرض، وأطفالاً يسيرون بحقائب مدرسيّة، وآخرين يلعبون على المراجيح مع عائلاتهم. نشاهد في لقطات أخرى لافتةً لـ"مهرجان الحب"، يمارس خلاله المستوطنون اليوغا. نرى أيضاً لافتةً لشارعٍ يُسمّى "السّعادة"، وآخرَ يُسمّى "الضيافة"، وجنوداً بضفائر شعر. للحظة، نشعر ببطء في الوقت، وكذلك بهدوءٍ وسلامٍ يتسم بهما المكان. 

يستمرُ طغيان الجانب الشخصيّ في الفيلم على الجانب السياسيّ إلى أن نسمع نبأ مقتلِ شابٍ فلسطينيٍّ بـ"طلقات ناريّةٍ طائشة" من قبل الاحتلال. تعود المخرجة بعدها إلى الجانب الشخصيّ، فنتعمّق أكثر في حياة المستوطنين العائليّة (وأحياناً أخرى مشاكلهم الغراميّة). ثمّ نعود لنسمع نبأ تعرض رابٍ (حاخام) يهوديّ وعائلته لطلقاتٍ ناريّة فلسطينيّة أودت بحياته، لنكتشف بأن ابنة الرابي هي جارة المخرجة في المستوطنة. يهزّ الموقفُ المخرجة، فيسخر منها صديقُها بأنها لم تعد "خارج" القصة، بل أصبحت الآن داخلها. فجأة، يهتزّ المشاهدون كذلك، ثمّ يتعاطفون مع المخرجة الموجودة في موقفٍ لا تُحسد عليه. 

لغة تظهر عكس ما تبطن

إذاً، هذه هي المُشكلة؛ تُظهرُ هذه الأفلام شيئاً وتُضمر شيئاً آخر تماماً. قدّم لنا الفيلم نفسَه في البداية على أنه "يساريّ" (تُستخدم كلمة "اليسار" واشتقاقاتها في الفيلم أكثر من 20 مرة)، ضدّ الاستيطان وضدّ الحكومة الإسرائيليّة، وهيأنا لفيلم يعكس واقع الاضطهاد الذي يعاني منه الشعب الفلسطينيّ من  الاحتلال الإسرائيليّ. لكنّنا في الحقيقة لا نسمع صوت الفلسطينيين في الفيلم، بل نسمع عنهم، ولا نراهم إلا من خلال عينيّ المُخرجة. 

مشهد من فيلم Unsettling.

بأدواتٍ صوتيّة وبصريّة، مرّر لنا الفيلم بخفّة طبقات من المعاني المُتشابكة والمُتناقضة، حتّى وصل إلى حقيقة مفادها: أن الصراع أكثر تعقيداً من الأفكار والقيم "الساذجة" التي طرحتها المُخرجة بفكرها اليساري، جاعلاً منها الضحية الحقيقيّة هنا.

انشغل الفيلم بتبادل دور "الضحيّة" بين الإسرائيلي المُحافظ وبين الإسرائيلي المُعارض، بطريقة أقل مباشرة من أفلام البروباغاندا المعتادة. يُذكرنا هذا بموجة الأفلام الإسرائيلية التي انتشرت في بداية الثمانينيات، والتي أطلقت عليها الناقدة الإسرائيلية أيلا شوحاط اسم أفلام "الموجة الفلسطينية"، في كتابها "السينما الإسرائيلية: الشرق/الغرب وسياسات التمثيل" (1989).   

يُحيل المُصطلح إلى مجموعة من الأفلام الإسرائيلية التي ظهرت إثر الاجتياح الإسرائيليّ للبنان عام 1982، ومن أبرزها "هامسين" (1982)، و"زملاء السفر" (1982)،  و"ابتسامة الخروف" (1986). تمتاز هذه الأفلام بإظهارها الفلسطينيّ كموضوع، وأنسنتِهِ من خلال احتلالِه أدواراً ثانويّةً في الفيلم. كما تُركّز على وجهة نظر الجيل الجديد، الذي يعرف بـ"صبرا"، وهو الجيل اليهودي الذي وُلِد في "إسرائيل". إذ تعرض أفلام "الموجة الفلسطينيّة" مشاعر مُبهمة من الصدمة والتشويش لدى اكتشاف هذا الجيل لوجود "الآخر" – الفلسطينيّ - ورؤيته على أنّه ضحيّة، بعد أن قُدّم كأضحية لا بدّ منها لقيام دولة "إسرائيل". 

تزامن ظهور هذه الأفلام مع حركة فنّية "يساريّة" أوسع، شَملت ممارساتٍ فنيّةً مناهضةً للحرب في المجتمع الإسرائيليّ؛ في الشعر والمسرح والتصوير الفوتوغرافيّ. كان أصحابها غالباً فنانين وصفوا أنفسهم سابقاً على أنهم "غير مُسيّسين"، مثل المخرجين يهودا نعمان ودانيال واكسمان.

تُموّل الحكومة الإسرائيليّة بشكلٍ جزئي أو كلّي الكثير من الأفلام الإسرائيليّة، ومن ضمنها كانت الأفلام "اليساريّة" النقديّة وأفلام "الموجة الفلسطينية".مؤخراً، أقرّت وزيرة الثقافة الإسرائيليّة ميري ريغيف "قانون أفلام" جديد، يحدّ من دعم وزارة الثقافة الإسرائيليّة للأفلام النقديّة للحكومة الإسرائيليّة، إذ يمنح القانون وزيرة الثقافة الصلاحية لاختيار الأفلام التي تدعمها الحكومة ومقدار الدعم.) فمثلاً، كان إنتاج أول فيلم ضمن هذه الموجة عن طريق التلفاز الإسرائيلي الرسمي عام 1978، وهو فيلم "خربة خزعة"، الذي يروي قصة تهجير جنود إسرائيليين لسكان قرية عربيّة وهميّة تدعى "خربة خزعة" وممارساتهم غير الأخلاقيّة مع سكان القرية. 

لأنّها "يساريّة" و"نقديّة" علينا أن نقلق!

ما شجّع "إسرائيل" على تقبل ودعم هذه الأفلام في السابق إلى حدّ ما أنّها تنظر لذاتها على أنّها "الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، كما تحاجج شوحاط. عقّب العديد من المخرجين الإسرائيليين لدى عودتهم من عروض دوليّة على أهمية هذه الأفلام في نشر صورة ديموقراطيّة عن دولة "إسرائيل". وهذا فعلاً ما كان عليه الأمر. 

سواءً في مهرجان ترومسو أو مهرجان لندن للأفلام، رأيت ضمن الجمهور من يرتدون الحطّة الفلسطينيّة تضامناً مع الشعب الفلسطيني، وكانوا أنفسهم من صفّق بحرارةٍ بعد انتهاء عرض هذه الأفلام، وطرح أسئلةً على المخرجين عن التحدّيات التي واجهوها في إعدادهم الأفلام. جعل ذلك القضيّة هي قضيّة المخرجين الذين يسعون نحو "التغيير" من خلال الفن، بينما نُسي الفلسطينيون الذين تسلّق المُخرج على قصّتهم.

تطرح هذه الأفلام نفسَها على أنها "يساريّة" و"نقديّة" و"راديكاليّة" و"بديلة"، مما يجعلها مُتقبّلةً بالنسبة لجمهورٍ ومؤسساتٍ مُتضامنة مع القضيّة الفلسطينيّة ما كانت ستعرض أفلاماً إسرائيليّة بكامل إرادتها لولا أنّها قُدّمت بهذا القالب. ولا ينتهي الأمر عند هذا الحدّ، بل يتعدّاه إلى التأثير الذي تُحقّقه هذه الأفلام على تفكير الجمهور المُتضامِن، إذ تُحَوِّر الصراعَ وتُميّعه، وهنا تكمن خطورتها. تعمد هذه الأفلام على توظيف "الفلسطينيّ" (الظاهر كموضوع وغائب كصوت) كأداة لجذب الجمهور وتلميع صورة "إسرائيل"؛ لا نرى في تلك الأفلام مستعمِراً ومستعمَراً، بل نرى طرفي صراع (يكادا يتشاركان في دور الضحية). وهكذا، تجذبُ هذه الأفلام الجمهورَ العالميَّ وتسرِقَهُ، وتُلمَّع صورة "إسرائيل" القمعيّة، ثمّ يُريح المُخرج ضميره وينام…!