كنا أطفالًا نلعب ونلهو بينما كان أحمد يتعلم زراعة الأرض وحراثتها، كنا نجتمع في بيت جدي فيحضر أحيانا ويغيب أحايين كثيرة، لا نعرف أين يكون أو ماذا يفعل ولا نسأل عنه غالبًا. وبينما كنا نكبر ونحلم بالمستقبل كان الفتى يعيش الحاضر، كنا نبحث عن الحب بينما كان يعيشه واقعًا. كان الفتى البهي قوي البنية يقترب من الأرض برابط لا يفهمه إلا هما، هو والأرض، كأنهما استحالا شيئًا واحدًا بمكنونات متجانسة من الثورة والغضب والحزن والصبر واليقين.
مضت الأيام حتى إذا ما صرنا يافعين في نهاية الثانوية وفرقتنا الحياة، سافر بعضنا، وانشغل بعضنا الآخر في طلب العلم والرزق والسعي في الدنيا، قرر أحمد أن يقاتل، يقاتل لأجل الأرض التي حفظها، وحفظ شوارعها ومبانيها ومواسم زراعة أشتالها، الأرض التي شاركته هموم اليتم المبكر، والأيام الثقيلة، فحملته وبسطت نفسها له كما لم يفعل أحد من قبل.
اشتد عود المقاتل قبل أن يبلغ العشرين، شاب قوي لا يشغل وقته إلا بالسلاح والإعداد والتدريب. قاتل في عمر السابعة عشرة في حرب 2008، ومن يومها لم يتوقف عن القتال. قاتل الشاب الأسمر في كل المعارك التي حاولت قضم الأرض. وعلى الرغم من عشرات المرات التي لاقى فيها الموت وجهًا لوجه، فقد انتصر دائمًا، حتى صرنا نظنه عصيًا على الموت، مخلوقًا ينهض من الفناء، ثورة تتجدد مع كل طلعة شمس، وبات يصفه المقربون "أحمد لا يموت، قط بسبعة أرواح".

مر على الفتى عقد ونصف من القتال، حتى بات خبيرًا به، يعرف الكمائن والأنفاق ومواقع العبوات، حتى إذا بدأ الطوفان لم يقعد يومًا عن القتال، فلما عاد الموت مرة أخرى إلى بيت لاهيا باحثًا عن أحمد ورفاقه، خرج ليقاتلهم كما فعل مئات المرات من قبل، لكنه الموت تمكن منه هذه المرة، بعد ما يزيد على 450 يومًا من القتال.
دفنه رفيقه في أرض بيت لاهيا أقصى شمال القطاع، دفنه في الأرض التي أحبها وتركنا أمام الأسئلة التي لا إجابة لها عن الموت ومغزى الحياة، جواب عرفه أحمد مذ كان في السادسة عشرة من عمره، وظل على الطريق ذاته حتى رحيله مقاتلا حتى الرمق الأخير.
كنا نحلم بدرجات علمية أعلى، وهو ينتقل بين الوحدات والعقد القتاليّة، كنا نتنافس في الدنيا في حين كان ينافس رفاقه على الحفر والإعداد، عرفتَ الطريق يا ابن صباح، عرفته كما عرفه والدك قبل عقود، عرفت الطريق كما لم نعرفه نحن المتشدقين المتباهين اللاهين، ثم أكملته وحيدًا جائعًا، لكن عنيدًا صامدًا مقاتلًا حتى الرمق الأخير.
لم يكن أحمد قائدًا لتكتب عنه الصحف وتتناقل صورته الصفحات، لكن يكفيه من الذكر دعوات المحبين ويكفيه من المعرفة ما رأى منه أعداؤه، ويكفيه من مديح البشر قول أخته أمام الملأ "كل الناس في كفة وأخويا أحمد في كفة"، ويكفيه أن الرفاق ما خانوا العهود، وما سلموا وما هانوا ليستمر القتال بعده حتى الرمق الأخير.
فالمجد لأحمد علي ورفاقه..