كَانَتْ الدراجةُ النّاريّةُ، أو "الفِزْبَة" كما يُسَمّيها الفلسطينيون في غزّة، إحدى أهم المنتَجات التي دخلت القطاع عبر الأنفاق مع مصر بعد اشتداد الحصار الإسرائيلي.1الفزبة (فيسبا: Vespa): أكثر الدراجات الناريّة رواجاً في العالم، صنعتها شركة (بيجو) الإيطالية وصممها (دي أسكيانو) أواخر الحرب العالمية الثانيّة. اُعتبر تصميمها الآمن والأنيق وغير المكلف طفرةً في عالم الدراجات الناريّة. اعتمدها الجيش الأميركي كإحدى معداته، واشترى كمياتٍ كبيرة منها لسلاح الجو والبر، واستخدمها في حملات مطاردة النازيين على الحدود النمساوية. وتطلق كلمة Vespa في الإيطالية واللاتينية على حشرة الدبور. وأصبح الكثيرون يستخدمون مصطلح (فيسبا/ فزبة) للإشارة إلى الدراجات النارية بعمومها. . سِعرُ الفزبة المنخفض، وعدم الحاجة إلى دفع ترخيصٍ وضريبةٍ في بداية الأمر، كانت أَسباباً رئيسةً وراء انتشارها الواسع في شوارع القطاع، واقتناء الشَّباب لها خاصةً، هذا إلى جانب سهولة الحركة التي تــُـوَّفرُها الفِزْبَةُ في حيـّزٍ جغرافيٍّ مثل غـزَّة. وعليه، قام سوقٌ كـَـاملٌ خَاصٌّ بالفِزَب، من بيعٍ وشِراءٍ وتصليحٍ واكسسوارات، ونشأتْ لدى مُجتمع سائقي الفزب -إن كان لنا أن نُطلق عليه ذلك-عاداتٌ خاصّة.
تَدليلُ الواجهة الأماميّة للِفِزْبَة بالكتابة عليها، كانتْ إحدى هذه العادات اللافتة، فإمّا أَنْ تُخَطَّ عليها عبارةٌ مُقتبسةٌ من أُغنِيةٍ أو اسمٌ أو حَرفٌ يُشير إلى راكبِ الدّراجة أو محبوبه. ومن بين أَشهر العبارات التي خُطَّتْ على واجهات تلك الدّراجات: "هلا بالأجاويد"، "كَتّرَا يا تايجر"، "هو الرئيس". وهي كلماتٌ مُقتبسةٌ من مواويل للفنان الشّعبيّ الفلسطينيّ أبو عياش، الذي امتلكَ إلى جانب صوته الأجشّ، شعبيةً جارفةً في القطاع.
البداية
نايف سليمان حماد عياش، هو الاسم الكامل للفنان (أبو عياش)، الذي ولد بداية السّتينيّات في مدينة رفح. ومع جدَّته لأمّه نشأَ الطّفل نايف نشأةً قاسيةً في إحدى مخيماتها، في بيتٍ خلا من أبويه، اللذَيْن فَقدَهُما في سني حياتِــهِ الأولى. ومثل فنانين كثـر، كانت الإذاعة المدرسيّة منصةَ أبو عياش الأولى، وكان زملاؤه الطلاب جمهورَ المستمعين الأول. يُرجِعُ أبو عياش الفضل في ذلك لعازف العود وأستاذ اللّغة العربيّة عباس خضر، الذي أتاح له إلى جانب المشاركة في إذاعة المدرسة، محلاً في فرقته الفنيّة التي كانت تُحيي مناسباتٍ اجتماعيّةً في مناطقَ مختلفةٍ من غزّة.
وهكذا صار نايف تلميذاً عند عباس خضر صباحاً، وزميلاً فنيّاً له مساءً. لكن، لم يمضِ كثيرٌ من الوقت حتى دخل الفنانُ الناشئ في دوامةٍ من الانقطاع عن الغناء ومن ثمّ العودةِ إليه. فالشاب الذي كان والده مُقاتلاً في "مجموعات مصطفى حافظ" المصريّة، ومشاركاً في عملياتٍ عسكريّةٍ داخل العمق الصهيونيّ إبانّ حرب النـكسة عام 1967، التحقَ هو الآخر بالمجموعات الفدائيّة في غزّة، وتعرضَ للاعتقال من قبل الاحتلال مراتٍ عديدةً، قارب مجموع مددها 7 سنوات، كان مُفتتَحُها بدايةَ الثمانينيات، ومُنتهاها مطلعَ التسعينيات، تَنّقَلَ خلالها أبو عياش بين سجن غزة المركزيّ (السرايا) وسجن عسقلان وسِجن النقب.
انصب تركيز أبو عياش في الفترات التي قضاها خارج السجون خلال الثمانينيات على الغناءِ الشّعبيّ والطّرَبيّ في حفلاتِ الأعراس، ومع بلوغ نهايةِ العقد، وقبل عودته الأخيرة إلى سجون الاحتلال، انخرط أبو عياش في المجهود الفنيّ الذي نشأ على ضفافِ انتفاضةِ الحجارةِ، فكَتَبَ ولَحَّنَ وغَنَّى إنتاجاتٍ عديدةً، لَمْ تَصِلُنَا أَغلبُ تسجيلاتِـــها، مثل أُغنيةٍ للشهيد إياد صقر، وثانيةٍ سَجّلَها بعد استشهادِ أبو جهاد الوزير، و"دلعونة الانتفاضة"، التي تقولُ كلماتُـها: "هاتلك قزازة، وفيها بنزين، وشوية كلكل مع مسامير، حطلك فيها .. نتفة فتيلة، ولّعها واضرب عالصهيونية".2استشهد في مدينة رفح منتصف عام 1990، وكان أحد أبرز العاملين في اللجان التابعة للقيادة الموحدة للانتفاضة الأولى.
والثورة مش تجارة
حين كانت الانتفاضة الأولى تطوي سنينها الأخيرة، وفي الوقت الذي استمرت فيه زيارات قيادات منظمة التحرير المكوكية بين مدريد وأوسلو، خرج أبو عياش من سجون الاحتلال، وبدأ الغناءَ لمجموعات فتح العسكريّة في غزّة، والتي عُرِفت حينها باسم "صقور الفتح".3ي وجود الفهد الأسود والصاعقة، كانت "صقور الفتح" تنظيم فتح العسكري والأمني الأبرز خلال الانتفاضة الأولى، واتجه معظم نشاطها نحو ملاحقة العملاء وتصفيتهم، مع وجود ضرباتٍ محدودة لجيش الاحتلال والمستوطنين. وهو ذات الاسم الذي عنون به أبو عياش شريطَه الأول، الصادر بعد استشهاد مقاتليّ الصقور، أسامة النجار وعطايا أبو سمهدانة عام 1992. حملتْ أغنياتُ الشريطِ رثاءً للشهيدين، وتحديداً في أغنيتي "سيري صقور الفتح"، و"يا يمّة الصقر استشهد"، وهي الأغنية التي حَكَتْ اللحظاتِ الأخيرة لأًسامة النجار.
كان النجار يعمل في وحدات الشرطة في غزّة إبان الانتفاضة الأولى، ومع صدور بيان "القيادة الوطنيّة الموحدة" الداعي إلى الانسحاب من سلك الشرطة، تركها النجار وانضم مباشرةً إلى مجموعات فتح العسكرية، ليُصبح مطارداً، ومن ثم سجيناً محكوماً بأربعة مؤبدات، كان من المفترض أن يقضيها في سجون الاحتلال.4ضمن خطتها لفك الارتباط مع منظومة الاحتلال خلال الانتفاضة الأولى، وجهت القيادة الموحدة دعوةً بالاستقالة الشاملة للعاملين في الإدارات المختلفة التابعة للاحتلال، بمن فيهم الضباط الفلسطينيين العاملين في الشرطة الإسرائيلية، والذين انحصرت مهماتهم في حينه في متابعة قضايا مدنية وجنائية محلية. ورغم وعود الشرطة الإسرائيلية بالمكافآت والعلاوات، إلا أن دعوة القيادة الموحدة لاقت استجابةً واسعة، واستقال في يوم واحد قرابة 600 ضابط. انخرط كثير منهم في العمل المقاوم، بل واستفادوا من الخبرات المتواضعة التي أتاحها تدريبهم وعملهم السابق في الشرطة الإسرائيلية. ولكن، وخلال نقله من سجن المجدل إلى محكمة الاحتلال المركزية، نجح النجار في الفرار، ليعود صقراً مطارداً قبل أن يستشهد محاصراً في أحد منازل شرق خانيونس في أغسطس/آب 1992، بعد اشتباك خاضه مع عشرات الجنود المعززين بطائرة مروحية. تحكي روايات معاصري حدث استشهاد النجار، أن جنود الاحتلال ولشدة بأسه وخفة حركته ورشاقة إطلاقه للرصاص من أكثر من جهة، اعتقدوا أن هناك أكثر من شخص يتحصن بالمنزل، وتذهب بعض تلك الروايات للقول أن ضابطاً إسرائيلياً أدّى لجثمانه التحية العسكرية.
وعودةً لأبو عياش، فإنّ علاقته مع مجموعات "صقور الفتح" لم تتوقف عند التغنّي بها وببطولات مقاتليها، بل لم يتردد أبو عياش بتوجيه النقد إلى الممارسات السيئة لبعض أفرادها وكوادر حركة "فتح" عموماً في قطاع غزّة. صحيح أن أبو عياش ظلّ يغني لـ"صقور الفتح"، لكنه أصبح يستهلُّ تلك الأغاني بسخرية لاذعة ونقدٍ لـ"كروش النصابين". كان ذلك خطاباً سابقاً نسبيّاً على خطاب كتائب أبو الريش، الذي ظهر لاحقاً على شاكلة بنية تنظيمية عقب استشهاد أحمد أبو الريش، وتأسيس الكتائب على يد عمرو أبو ستة.5كتائب أبو الريش: على إثر توقيع اتفاقية أوسلو، تشكلت نواة مجموعة من أبناء "صقور الفتح" و"الفهد الأسود"، رافضةً لاتجاه المنظمة و"فتح" المهادن. وكان على رأس هؤلاء أحمد أبو الريش، أحد أبرز ناشطي الصقور خلال الانتفاضة الأولى، والذي كان حدث اغتياله نهاية عام 1993 على أيدي عناصر من وحدة المستعربين التابعة لجيش الاحتلال إيذاناً بانشقاق المجموعة عن إطار "صقور الفتح"، وتشكيلها لمجموعات مسلحة في رفح وخانيونس أطلقت على نفسها بدايةً "مجموعات الشهيد أحمد أبو الريش". وكان جهد هذه الكتائب العسكري محدوداً خلال الانتفاضة الثانية، واعتمدت نمط العمل المشترك مع أجنحة المقاومة الأخرى، لكن جهودها الأوسع ارتبطت بالتعبئة وتوفير السلاح والحماية أحياناً، فلعبت الكتائب على سبيل المثال، دوراً كبيراً في حماية بعض قيادات "حماس" من السلطة في أوقاتٍ مختلفة، وهذا يعود بشكلٍ أساس لطبيعة وشخصية مؤسس الكتائب الشهيد عمرو أبو ستة. وعدا عن تقديم أغاني الصقور مسبوقةً بمواويل وعبارات تنتقد الفساد والفاسدين، فقد أنتجت هذه المرحلة أغانٍ جديدة، من بينها (صراخ المنسيين)، الـ"مهداة لكل الشرفاء"، كما يصرخ أبو عياش.
"ما ظل في القلب مَحَنّة"
مع قدوم السّلطة الفلسطينيّة إلى غزّة، اتجه أبو عياش لامتهان الطرب والغناء في الأفراح بذات أغانيه الوطنية القديمة. كانت فترةً لم يحقق فيها أبو عياش أي نجاحٍ يُذكر، بينما صعد فيها نجم مطربي الأفراح الذين قدّموا أغاني عاطفيّة كخالد المغاري.
ولعامين تقريباً، غاب صوت أبو عياش عن شوارع غزّة، ثم عاد عام 1996 نابشاً البدويّ الذي يسكنه، وقدّم شريطَه ذائع الصيت "ولد يا راكب القعود"، محققاً مبيعاتٍ قياسيّة في سوق الكاسيت في قطاع غزّة لشهورٍ متواصلة، وليصل الشريط بعدها بسنوات إلى أيدي أبناء العشائر البدوية المُهجرة في الأردن مشكلاً صرعة بدويّةً لا مثيل لها.
الشريط الذي أنتجته شركة "نيو ساوند"، كان من أوائل الإصدارات الفنية بعد قدوم السّلطة، وحملت أغانيه غزلاً صريحاً وفاحشاً، وغنّاه أبو عياش بلهجته البدويّة. شريطٌ مثّل يأس أبو عياش من الهوية الوطنيّة وانصرافه عنها، والالتفات لكونه رجلاً بدويّاً سليطَ اللسان، فتوقف عن الغناء لهموم المناضل الفتحاويّ، نقداً أو مجداً، وابتدأ بتقديم نقاط تمايز فنيّة جديدة، فهو يغني باللهجة البدويّة، واللغة العبريّة، وبتعبيراتٍ وتلميحاتٍ جنسيّة.
لم يكن أحدٌ من فناني غزّة قادراً على مجاراة أبو عياش في مضماره الجديد، فعاد الأسمرُ النحيف بسترته التوتيّة الشهيرة، وبنطاله القماش المزركش، ليكون نجم حفلات الأعراس الأول في غزّة، حتى اندلعت انتفاضة الاقصى. اختفى بعدها أبو عياش من جديد، قبل أن يعود للأغنية السّياسيّة بعد اغتيال ياسر عرفات وتسميمه بالبولونيوم المشع أواخر عام 2004.
وإلى جانب أغاني رثاء ياسر عرفات، أعاد أبو عياش غناء بعض الأغاني الفلسطينيّة والعربيّة مثل أغنية أبو عرب "يا يمة في دقة ع بابنا"، والأغنية العراقيّة "سباع الفلوجة". عدا عن إصداره شريطاً غنائيّاً في العام ذاته، باسم "من تحت الأرض عدينا: كتائب أبو الريش"، حاملاً سبع أغانٍ ومواويل، كتب ولحن وغنى أبو عياش معظمها. وكما يشير عنوانُ الشريط وأغانيه، فإنه أنتج خصيصاً لـ"كتائب الشهيد أحمد أبو الريش"، التي انشقت عن "صقور الفتح" وسط التسعينيات، وقصرت نشاط مجموعاتها المسلحة على خانيونس ورفح، وقادها حتى عام 2004 مؤسسها الشهيد عمرو أبو ستة.6مثّل استشهاد أبو ستة لحظةً فارقة في وحدة الكتائب وتوجهاتها، وبالتالي انهيارها لاحقاً، فعقب استشهاده تفككت الكتائب إلى ثلاث مجموعات، (كتائب أبو الريش 1، كتائب أبو الريش 2، كتائب عمرو أبو ستة)، كانت جميعها جزءاً من حالة الفلتان الأمني التي تصاعدت في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد العام 2004. كان أبو ستة أحد أوائل المنضمين لمجموعات فتح العسكريّة أواخر الثمانينيات، والمنشقين عنها وسط التسعينيات، والذي خصّه أبو عياش بأغنيتين في الشريط، هما "أبو ماجد الغالي"، و"يا يمة عمرو استشهد"، والتي تشابهت كلماتها وألحانها مع أغنيته التسعينية "يا يمة الصقر استشهد".
وناس بتروح ع السجن زهقانة من برا
"هو الرئيس.. علي الطلاق هو الرئيس"، تروي هذه الكلمات التي صرخ بها أبو عياش وهو يغني مواله الشهير "أفاعي دبت الدنيا بسمها" حكايةَ المرحلة التي وجد فيها أبو عياش نفسه ما بين 2004 إلى منتصف 2007 ،وقد صار جزءاً من الحالة الفتحاويّة الراغبة باستعادة الهيبة، والمرتبطة بأوساط الحالة المسلحة التابعة لمحمد دحلان في غزّة، والداعمة لمعاركه السياسية الخاسرة ضد أعدائه داخل السلطة وحركة "فتح".
خلال تلك الفترة، كثرت صدامات أبو عياش مع عناصر وقيادات من الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينيّة، وتعرض لاعتقالاتٍ متكررة على خلفياتٍ مختلفة ما بين الأعوام 1998 - 2006، وهي الفترة التي تُخلّدها عبارته الأشهر: "الواحد انحبس عند كل (السلطات) ما عدا سلطة الطاقة".
أبو عياش، الذي يقول إنّه كتب كلَّ أغانيه داخل سجون الاحتلال، عاد ليدخل السجون، ولكن هذه المرة سجون حكومة غزة، وذلك لمراتٍ عديدة على خلفياتٍ سياسيةٍ وغير سياسية بعد عام 2007، وهناك في السجن تفتقت لديه موهبةٌ جديدةٌ قديمة، الغناء من أجل تسلية المساجين والسجانين.
وفي الفترة ما بين 2010 و2011 غنّى أبو عياش للأسرى ولصفقة "وفاء الأحرار" ومهندسها أحمد الجعبري، كما اشتهرت له أغنيةُ الأنفاق، التي تُعتبر كلماتها مرجعاً غنيّاً لفهم مهمات عمال الأنفاق والمشتغلين فيها وصعابها. ومن "القطّيع" حتى "الأمين"، احتفى بالأغنية، الآف العمال الوافدين من شمال القطاع إلى جنوبه، بأدوات عملهم وحبوبهم المخدرة التي تعينهم على شق الأرض وصلب القوام. غنّوها في أفراحهم، وأسمعوها لكلِّ من يعرفونه، ليقولوا، لسنا مجرد "عُمال" هنا، بل نحن فدائيون نكسر الحصار بالموت إن أردتم. نتحدى هيلان طبقات الطين الأرضية، وصواريخ الأباتشي والـ F16 الإسرائيلية، وغارات المياه والاعتقال المصرية، تلك التي ذكرها أبو عياش في أغنيته اللاذعة ضدّ مبارك وعمرو سليمان "السجون المصرية".7بلغ عدد شهداء الأنفاق الحدودية مع مصر منذ عام 2006 حوالي 250 فلسطينياً، لقوا حتفهم على إثر انهيارات في الأنفاق أو غارات إسرائيلية جوية أو هجمات إغراق بالغاز والماء نفذتها السلطات المصرية، التي تعاملت بشكلٍ قاسٍ ومهين مع عمال الأنفاق الذين وقعوا في قبضتها.
حظي يقلي "حظي وين؟"
عاد أبو عياش للاختفاء عن الساحة الغزّية خلال سني حياته الأخيرة، ففي سيناء والعريش كان غارقاً، وبالشراكة مع فنانين بدو مصريين، في إحياء حفلاتٍ شعبيّةٍ هناك، حيث وجد حفاوةً حميمةً أحبّها، و"بانجو" من الصنف الجيّد أعجبه. هناك حقق أبو عياش شهرةً واسعةً، جزء منها كان سابقاً لوجوده هناك، توفر بفضل كاسيته البدوي الشهير في التسعينيات. وعلى إثر إصابته بمرضٍ عضال في العظم، توفى أبو عياش في يناير/كانون الثاني 2014 داخل المستشفى الأوروبيّ شرق خانيونس، فيما كان ينتظر وصول تحويلةٍ طبيّةٍ للسفر والعلاج في الخارج، قال كثيرون حينها إنّ سلطة رام الله عمدت إلى منعها وتأخيرها عنه.
ختاماً، لا يمكن لنا ونحن ننظر إلى إيقاع حياة أبو عياش الفنيّة والشخصيّة، إلا أن نقرأ تاريخاً سياسيّاً واجتماعيّاً، نتنبهُ له مع سيلان كلماته اللاذعة وسلاطة لسانه، ونسمعه في صوته الرديء وألحانه الضعيفة، وندركه في اللحظة التي ينسى فيها نفسه أمام الميكرفون، ليحتار بين المغني والخطيب السياسي ونبطشي الأفراح، الذي لا تحتفظ أرشيفاتُ الإنترنت إلا ببعض أغانيه، وأقل القليل من صورٍ له. ربما كان ذلك ثمناً لأن يعيش المرء عازباً، بلا شريك أو أبناء يرفعون صورَه على "فيسبوك" وأغانيه على "يوتيوب" و"ساوند كلاود"، ليفخروا بفعله ويباهوا بفنه.