17 يناير 2022

"من صفحات العزّ": كيف روت خليّة سلواد تجربتها؟

"من صفحات العزّ": كيف روت خليّة سلواد تجربتها؟

يروي كتاب "من صفحات العزّ" قصة خليةٍ مُقاوِمَة من بلدة سلواد1سلواد: بلدة تقع في المنطقة الوسطى من فلسطين التي عرفت بعد النكبة باسم الضفة الغربية، وهي إلى الشمال الشرقي من مدينة رام الله على الطريق الرابط بين نابلس والقدس. بدأت بمبادرةٍ فرديّةٍ ثمّ انضمّت للتنظيم العسكريّ لـ"كتائب القسّام"، وكانت جزءاً من تشكيلٍ مقاومٍ عُرف بـ"مجموعات عادل وعماد عوض الله"، والذي ضمّ في صفوفه بالإضافة لها، خليتي كوبر والمزرعة الشرقيّة، وكان الأسير المحرر جاسر البرغوثي مسوؤلاً عنها.

يوثّق الكتابُ سيرةَ الخليّة من حيث ظروف تشكّلها، وخلفيات عناصرها، وآلية انضمامهم للقسام، ويحتوي  شرحاً مفصّلاً لكل عمليةٍ من عملياتها الإحدى عشر، بما يشمل اسم العملية وتاريخها وموقعها، والظرف الأمنيّ والسياسيّ الذي حدثت فيه، ومراحل التخطيط لها ثم تنفيذها، والأسلحة المستخدمة، وقائدها والمشاركين فيها، وصولاً للحديث عن ردة فعل الاحتلال، والدروس المستفادة منها. كذلك يشمل الكتاب شرحاً عن عملياتٍ خطّطت الخلية لها، لكن ظروفاً حالت دون تنفيذها. ثمّ خُتِم الكتاب بتوثيق اعتقال أفراد الخلية من قبل قوات الاحتلال، وصور لعناصرها. 

جاء صدور الكتاب عام 2017، بناءً على قناعةٍ راسخةٍ لدى عناصر الخليّة بأهمية التوثيق لهذه المحطة التاريخيّة المهمة2يُذكر أنّ الأستاذ فرح إسماعيل حامد، أحد أفراد الخلية التي اهتم الكتاب بتوثيق سيرتها، هو مدير مركز أحرار للتوثيق التاريخي، والمركز مهتم بتوثيق سير وأعمال قادة وكوادر كتائب القسام.، وفاءً لجهد المقاومين وتضحياتهم، وطمعاً في أن تستفيد الأجيالُ القادمة من تجربتهم وتُراكم عليها، كما أنّه ينسجم مع تقليدٍ قديمٍ كرَّسته المقاومة الفلسطينيّة والتزمت به "كتائب القسّام"، إذ عملت على توثيق أعمالها وتقديم روايتها للناس عبر نصوصٍ مكتوبةٍ مطبوعةٍ أو إلكترونيّة، أو تسجيلاتٍ مرئيّةٍ ومسموعة. وقد تأثَّر الكتابُ ببعض الأدبيات التي وثَّقت سيرَ المقاومين وأعمالهم3على سبيل المثال، انظر: كتب: "حرب الأيام السبعة -أسود حماس" (1993)، و"موعد مع الشاباك: دراسة في النشاط العسكري لحركة حماس وكتائب عز الدين القسام خلال عام 1993" (1995)، و"عماد عقل أسطورة الجهاد والمقاومة" (1994).، وبما نُشر من مذكرات لبعض قادة الكتائب في وقتٍ لاحق.4على سبيل المثال: مذكرات حسن سلامة (2000)، ومذكرات عوض سلمي (2001)، ومذكرات محمد عرمان (2006)، ومذكرات حسام بدران (2010)، ومذكرات عبد الله البرغوثي (2012)، ومذكرات زاهر جبارين (2012)، وغيرها.  

من الفكرة إلى العمل: كيف بدأت الخلية؟

مرّت الخلية التي يروي الكتاب تجربتها في ثلاث محطات رئيسة، أولاها فترة السجن التي استغلها كلّ من خالد النجار، وأحمد النجار، وياسر حمّاد في التعرف على العمل التنظيميّ، وتثقيف الذات والاطلاع على تجارب المقاومين. خلصت المجموعة إلى أن جهدهم في المرحلة المقبلة يجب أن يتركَّز في عمليات خطف الجنود بهدف إتمام عمليات تبادل الأسرى، وتبني استراتيجية الكمائن والتجاوز والهجوم المسلّح. واتفق أحمد النجار وخالد النجار على أن يشكّل الثاني خليّةً عسكريّةً فور خروجه من الأسر وتهيئة الظروف لحين تحرّر رفيقه.

ثم بدأت المحطة الثانية، بعد تحرّر خالد من الأسر في أبريل/نيسان2001، إذ بدأ بعدها بالعمل منفرداً، إذ امتلك السلاح وسيارة من ماله الخاصّ، ونفَّذ لوحده ثلاث عمليات إطلاق نار على سيارات للمستوطنين على شارع "60" الاستيطانيّ.5شارع "60": هو طريق استيطاني أقامه الاحتلال في عام 1993 ويمتد من شمال فلسطين حتى جنوبها ويمر قرب معظم مدن الضفة. وخلال الفترة ذاتها، حاول خالد الانضمام لكتائب القسام، وكوَّن خليّة ضمّت ياسر حماد وأحمد خالد حامد.

أما المرحلة الثالثة، فكانت الانضمام الرسميّ لـ"كتائب القسّام" وذلك في أبريل/نيسان 2002، عبر الأسير المحرر هشام حجاز من المزرعة الشرقية.6تحقّق لخالد النجار ذلك عبر الأسير المحرر هشام حجاز من بلدة المزرعة الشرقيّة قضاء رام الله، إذ ربطتهما علاقات قوية خلال فترة اعتقالهما في سجون الاحتلال، وبعد سلسلة العمليات الفردية التي نفذها النجار حصل على موافقة بالدخول إلى التنظيم العسكريّ للكتائب. زودت الكتائب الخليّة ببندقية "M16"، وبندقية "كربينة"7"الكربينة": نوع من البنادق يمتاز بالقصر وخفَة الوزن عن البنادق العادية واستخدمت في الحرب العالمية الثانية من قبل المشاة.، و"كلاشنكوف"، ومسدس من عيار 16. وكان التواصل معه يتم عبر شابٍ يحرص على ارتداء اللثام ضمن الإجراءات الأمنيّة التي اتخذتها الكتائب حينها، تبيّن لاحقاً أنّه مراد البرغوثي (منسق الخلايا الثلاثة) الذي يقضي حالياً حكماً بالسجن المؤبد عدّة مرات.

على إثر الانضمام للقسام، شكَل خالد النجار خليّةً أصبحت تُعرف لاحقاً بـ"خلية سلواد"، وتكوّنت من مجموعتين؛ ضمّت الأولى: أحمد حامد، وفرح إسماعيل حامد، وضمّت الثانية: ياسر حمد ومؤيد شكري حمّاد

زوّدهم خالد النجار بدراساتٍ أمنيّةٍ وعسكريّة، ودرّبهم على السلاح، وطَلب منهم تجهيز مخابئ له. كذلك كلَّف المجموعة الأولى برصد ومراقبة لمواقع الاحتلال ومستوطنيه، والثانية باختيار مواقع مفترضة لعملياتٍ مستقبليّة. تولى خالد مسؤولية الخليّة، وكان أحمد حامد نائباً له. وعندما خرج أحمد النجار من السجن مطلع 2003 أصبح هو المسؤول الأول عن الخليّة. وهكذا يكون مجموع أفراد هذه الخلية ستّة مقاومين.

يمكن من الكتاب استنتاج عدد من السمات الرئيسة التي تشارك فيها الستة، فهم من الجيل نفسه، ويتبنون الفكرَ الإسلاميّ، وأغلبهم أسرى سابقون، خاضوا تجارب في العمل النضاليّ الجماهيريّ، وتلقى بعضهم تدريبات على السلاح في مراحل مبكرة من حياتهم، ولبعضهم ارتباطات سابقة مع "القسام".

في قلب النار: عمليات الخلية

على مدار الشهور الممتدة من أبريل/ نيسان 2002 حتى ديسمبر/ كانون الأول 2003، نفّذت الخليّة 11 عملية إطلاق نارٍ استهدفت مواقع جيش الاحتلال والمستوطنين، وتركّزت في منطقة شرق رام الله، بالقرب من قرى: المغير، ودير جرير، والمزرعة الشرقيّة، ودير دبوان، والطيبة.

خبر عملية عين يبرود من صحيفة "القدس العربي". أرشيف الباحث بلال شلش.

يسرد الكتاب بالتفصيل تلك العمليات، وأولاها تلك التي نفّذها فرح وأحمد حامد بإطلاق النّار على سيارة مستوطن على الشارع الاستيطاني 60، بالقرب من ترمسعيا، في التاسع من أغسطس/آب 2002، وأعلن الاحتلال عن وقوع إصابات في صفوف المستوطنين. ثمَّ ثانيها العملية التي نفَّذ خالد ومؤيد وياسر عملية الشارع الزراعيّ الثانية في سلواد في السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2002. 

وفي التاسع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2003، وقعت أبرز عمليات الخليّة، إذ هاجمت بقيادة أحمد النجار دوريّةً لجيش الاحتلال وسط قرية عين يبرود، وقتلت ثلاثةً من أفرادها، وأصابت رابعاً بجراح خطيرة.

صورة توضيحية نشرها الإعلام الإسرائيلي لعملية عين يبرود، المصدر: أرشيف الباحث بلال شلش.

"لا يؤتين من قبلك": إجراءات الخلية الأمنية

يظهر خلال الكتاب حرصُ الخليّة على إجراءات السلامة الأمنيّة، مما منحها عمراً طويلاً في العمل دون أن يكشفها الاحتلال. فمثلاً التزم أفرادها بلبس اللثام أثناء تنفيذ العمليات، وحرصوا على مسح السلاح، والاهتمام بتغيير معالم السيارات المستخدمة عبر وضع أسطوانات على إطاراتها أو إزالتها أو زيادة الغبار عليها، وتعتيم زجاجها، والحرص أن لا تكون من النوع النادر في المنطقة، وتغيير الملابس والاستحمام وتعطير الأيدي. 

كذلك، التزمت الخلية في عملياتها اختيار توقيت مناسب لتنفيذها مثل انتشار الضباب أو حلول الليل أو اذان المغرب في رمضان، واختيار مكان مناسب لها يسمح بالانسحاب الآمن كأن يحوي أشجاراً كثيفة، وجدران حجرية، وميّزها أنّها تجنّبت الإعلان عن المسؤولية عن العمليات. عدا عن ذلك، استخدمت الخليّة تكتيكاتٍ حذرة في التواصل، واقتضت هيكلية العمل أن تُفرِز الخلايا الثلاثة (سلواد، كوبر، المزرعة الشرقية)، من ينوب عنها في التواصل مع قائدها ومنسقها.

أما على مستوى ردة فعل الاحتلال على كل عملية من العمليات التي نفَّذتها الخلية، فيمكن تلخيصها في عدة نقاط منها: الوصول إلى مكان العملية، ونصب الحواجز، واقتحام البلدات القريبة من موقع العلمية، ومنع التجول، وتفتيش المنازل، واعتقال الأهالي وعدم الإعلان عن النتائج الحقيقية للعملية، وإقامة الأبراج العسكريّة الدائمة، وتعزيز الدوريات على الشارع الاستيطانيّ "60"، وزيادة الاقتحامات المفاجئة للبلدات الفلسطينية، وتصفيح وسائل نقل المستوطنين.    

اعتقل الاحتلال عناصر الخلية في العشرين من يناير/ كانون الثاني 2003، وحكم عليهم بالمؤبدات، وأفرج عن أحمد النجار، وخالد النجار، وفرح حامد، وياسر حماد، ضمن صفقة "وفاء الأحرار" وبقي في الأسر مؤيد حماد، وأحمد حامد. يروي المحرر جاسر البرغوثي المسؤول عن التنظيم الذي ضم خلية سلواد أن وزير جيش الاحتلال حينها، شاؤول موفاز، قال له خلال جلسات التحقيق معه عقب اعتقاله: "أنتم أعقد خلية عسكرية واجهتها منذ عام 1967".

جدارية في قرية كوبر شمال غرب رام الله لأسرى تحرروا في صفقة "وفاء الأحرار" بينهم جاسر البرغوثي. (تصوير عباس المومني/AFP).

ماذا نقرأ من عمليات الخلية؟

تكشف سيرة خليّة سلواد، بعضاً من ميزات العمل المقاوم في الانتفاضة الثانيّة، ويلفت الانتباه دورُ الحركة الأسيرة فيها، فالخلية نتاج نقاش معمق أجراه مؤسِّساها أثناء وجودهما داخل سجون الاحتلال، وهي ليست الخلية الوحيدة التي كان الأَسرُ أحد أهم محطاتها التأسيسية، وهي ليست المشاركة الأولى للحركة الأسيرة في المقاومة، فقد رُفدتْ تجربةُ الكفاح المسلّح في فلسطين منذ سبعينات القرن الماضي بالكثير من القادة والكوادر، ويلفت الانتباه أيضاً حضور قضية تحرير الأسرى في استراتيجية المقاومة في الانتفاضة الثانية.8خططت خلية سلواد بالشراكة مع باقي الخلايا في التنظيم العسكري لعملية خطف جنود من جيش الاحتلال بعد صدم دوريتهم بشاحنة ومرت العملية بمرحلتين في الأولى حصل خلل في الميدان وقبل المحاولة مرة أخرى اعتقل الاحتلال أحد أفراد الخلية. 

 ويظهر جليّاً من تجربة عناصر الخلية أن العمل العسكريّ الفرديّ كان جزءاً من المشهد المقاوم في الانتفاضة الثانيّة، إذ أنّ نشاط الخلية بدأ بجهود خالد وأحمد النجار بصفتهما الفرديّة، ثمّ توسع لينضم إلى كتائب القسّام. 

وتؤكد سيرة الخلية تنوع أساليب المقاومة في الانتفاضة الثانية، وأنَّها لم تقتصر على ظاهرة الاستشهاديين، إذ حضرت الكمائن وعمليات إطلاق النار من نقطة الصفر، ومهاجمة حواجز الاحتلال، ودورياته والمستوطنين بقوة في العمل العسكري لدى للقسام. 

ويظهر أن خليّة سلواد (وكذلك خلية كوبر والمزرعة الشرقية) تميّزت بطبيعة الأهداف التي اختارتها، فقد استهدفت أدوات السيطرة والقهر الاستعمارية، وفي مقدمتها الحواجز العسكريّة، ودفعت الاحتلال للتخلي عنها، كما في حواجز عين يبرود، ودورا، وسردا. كما أنّها ركَّزت على الشوارع الالتفافية، التي اعتقد الاحتلال أن شقّها سيمنع تحول المستوطنين إلى هدفٍ للمقاومة، وبذا ضربت الخليّةُ في العمق الهدفَ العسكريّ- والأمنيّ منها. وقد أدّت العمليات كما يروي الكتاب إلى استنزاف الاحتلال وإجباره على مضاعفة أعداد ضباطه وجنوده العاملين في الضفّة، وبذل جهدٍ كبيرٍ في اجتراح خطط بديلة لمواجهة المقاومة.