حين تجوّلتُ في خانيونس بعد أيامٍ قليلة من انتهاء الحرب على غزّة عام 2014، كان واضحاً تحوّل المنازل التي شهدت الكمائن التي نفذتها المقاومة إلى مزاراتٍ للناس. لا زلت أذكر تحديداً عبارة "عملية الأشاوس" مخطوطةً على بقايا جدار مُحطّمٍ داخل أحد أبرز كمائن المدينة في منطقة الفراحين.
وعلى خلاف ما هو شائع عن خزاعة في معركة 2014، لم تكن المجازر التي ارتُكِبَت فيها هي رافد المكان وذاكرته الوحيدة، فسكان البلدة يفسِّرون مشهد التدمير المرعب في البلدة بأنّه نتيجةٌ للفعل العسكريّ المقاوم، وردٌّ على الاثخان الذي أَوْقَعه مقاتلو البلدة في صفوف جيش الاحتلال. في هذا السّياق، يذكُرُ النّاس أنّ العدوّ لم يتقدم نحو أحياء البلدة إلا بعد أن ارتكب حملاتِ قصفٍ واسعة، ودمَّر ثُلُثَي البلدة الصغيرة، ولم يستطع السّيطرة عليها طيلة أيام المعركة.
إطلالة على تاريخ قريب
تقع بلدة خزاعة جنوب قطاع غزّة، شرق محافظة خانيونس تحديداً. يبلغ عدد سكانها 11 ألف فلسطينيّ. للبلدة موقعٌ جغرافيٌّ مُتميّز؛ هي أقصى مكان يبعد باتجاه الشّرق عن شارع صلاح الدّين الذي يتوسّط قطاعَ غزّة، وعلى خلاف بقية المناطق الحدوديّة، تمتد أراضيها إلى الشّرق أكثر داخل أراضي الـ48. يعود ذلك للمواجهة التي أبداها أهالي المنطقة رفضاً لاتفاقية التعايش التي وقعها الجيش المصري مع العدوّ الإسرائيلي عام 1950، فبقيت القرية تحت سيطرة الإدارة المصريّة، هي وقرية عبسان ومعظم أراضي خانيونس الشرقية، على خلاف بقية الشريط الشرقيّ للقطاع.1.
ومنذ انطلاق انتفاضة الأقصى كانت خزاعة نقطةَ رباطٍ مُتقدِمَة في مواجهة عمليات الاجتياح الإسرائيليّة، وذلك نظراٍ لموقعها الجغرافيّ الذي يجعل قصفها -بالنسبة للإسرائيليّين- سهلاً ومتاحاً من الشّرق والشّمال. كما كانت خزاعة نقطة تماسٍ مباشرة في معظم الجولات العسكريّة بين المقاومة الفلسطينيّة وجيش الاحتلال، سواء خلال عمليات الاجتياح خلال الانتفاضة الثانيّة، أو خلال الحروب المتعاقبة، خاصّةً حربي عام 2008 وعام 2014. هذه الأخيرة كانت بشهادة سكان البلدة، أعنف جولة مواجهةٍ يشهدونها، إذ دُمِّرت ثُلثا مساحة البلدة، واستُشهد أكثر من 90 من أبنائها، وحُوصِرت لأسبوعين.
الكمائن وحرب الشوارع الصغيرة
بدأت المعارك البريّة في قطاع غزّة خلال حرب 2014 ليلة الثامن عشر من يوليو/تموز. شاركت كلُّ الألويّة الإسرائيليّة الرئيسة في الهجوم البريّ، وتوّلى كلُّ لواءٍ مسؤوليةَ قطاعٍ جغرافيّ محدّد. توّلى لواءُ المظليين في جيش الاحتلال إدارة القتال في مدينة خانيونس.
ورغم كون خزاعة أقرب منطقة إلى الحدود الشّرقيّة، إلا أنّ العدوّ أجَّلَ المعركةَ البريّةَ فيها إلى 23 يوليو/ تموز. اتّبع العدوّ في خزاعة خدعةً عسكريّةً لتضليل مقاتلي البلدة؛ إذ قام بهجوم ثانويِّ2في بداية التوغل البريّ، تحديداً في منطقة النجار، ثمّ اقتحم خزاعة من جهتين: عبسان من الشّمال، والفخاري من الجنوب، فكانت النتيجة تطويق البلدة الصغيرة من جميع الاتجاهات.
يلحظ أن المناورة العسكريّة التي اتبعها العدوّ في خزاعة مختلفة عن المناورات التي اتبعها في بقية مناطق قطاع غزّة؛ في خزاعة اعتمد الاحتلال على مناورة التطويق لمحاصرة البلدة، فيما اعتمد في بقية المناطق على الاختراق الجبهويّ (الاختراق الجبهويّ هو مهاجمة جبهة كاملة من الأمام، وتركيز الجهود على محاور محددة لتشتيت انتباه العدوّ، على خلاف تكتيك التطويق والالتفاف).3.
كان مقاتلو المقاومة، وغالبهم من كتائب القسّام، يحملون عتاداً خفيفاً، إلى جانب استعداداتِهم التقليديّة المتعلّقة بمنظومات الأنفاق والعُقَد الدفاعيّة الصغيرة، مع استعدادٍ قتاليٍّ مختلف عن المعارك السّابقة، في ظلّ استثمار واسع في عمليات التدريب منذ حرب 2008، وهو ما انعكس على طبيعة أداء المُقاتلين في معظم نقاط الاشتباك. بالإضافة إلى ذلك، ضاعفت الأنفاق والعقد الدفاعيّة من قدرة المقاومين على تحقيق المفاجأة والمبادرة، وأنقذت المقاتلين من استراتيجية الأرض المحروقة4 التي كان لها دورٌ كبيرٌ في حسم كثيرٍ من معارك حرب 2008، وهو ما ساعد على استمرار عمليات الكرّ والفرّ معظم أيام محاصرة البلدة.
لكن ما يميّز خزاعة عن غيرها، متعلقٌ بجغرافيّة البلدة المنعزلة عن بقية المناطق، وهو ما يعني بأنّ القتال فيها هو قتالٌ فدائيٌّ بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنى، وهو ما كان في أيام المعارك على مدار أسبوعين.
منذ بداية المعركة كان واضحاً شراسة المعركة بالنسبة لجيش العدوّ، فقد جرى تفجير جرافة D9 وفق تكتيك "الهجوم الفدائيّ"، ثم تلت ذلك مجموعةٌ متواصلةٌ من الكمائن العسكريّة في أحياء البلدة، ومحاولة تنفيذ عمليةِ خطفٍ لأحد الجنود.5.
في ظلّ عمليات التهجير المستمرة للسكان، والقصف الجويّ الكثيف، نفّذ المقاتلون عدداً من الكمائن في جنود الاحتلال، من أهمّها الذي كان في 22 يوليو/ تموز. وقع ذلك اليوم اشتباكٌ عنيفٌ بين وحدةٍ مكوّنة من أربعةِ مُقاتلين فلسطينيّين وبين مجموعةٍ راجلةٍ من لواء المظليين، قُتِلَ على إثره ثلاثةٌ من جنود العدوّ.
بالإضافة إلى كمينٍ آخر في أول أيام عيد الفطر، في 28 يوليو/ تموز، وكمينٌ آخر بالقرب من خزّان المياه الرئيس في البلدة أدّى إلى مقتل ثلاثةٍ من جنود اللواء المدرع السّابع في جيش الاحتلال، بالإضافة إلى محاولة -لم تنجح- لاختطاف جنديين إسرائيليّين في عمليات مختلفة.6
على الرغم من حالة الضبابية التي رافقت سير المعركة البريّة في خزاعة، وذلك بسبب استمرارية التكتم الأمنيّ لجيش العدوّ على مجرياتها، بالإضافة إلى استشهاد معظم المقاتلين الذين قادوا الكمائن ونفّذوها، إلا أنّ القتال استمرَّ حتى اللحظات الأخيرة. يتضح ذلك على الأقلّ من استمرار استشهاد المقاتلين حتى اليوم الأخير، بالإضافة لاستمرار إعلان العدوّ عن خسائر طيلة أيام المعركة. الاعتراف الأخير للعدوّ، كان في 28 يوليو/ تموز، عندما وقع كمين عسكريّ قاتلت فيه مجموعة من مقاتلي كتائب القسام وسرايا القدس، واستشهد فيه قائد الكمين محمد سعيد فسيفس، ورامي أبو دقة، وبلال قديح، جميعهم من كتائب القسام، وإياد أبو ريدة من سرايا القدس.
الهاون.. ضربة من تحت الركام
إضافة إلى شراسة المعركة البريّة، شهدت خزاعة عدّة عمليات بسلاح المدفعيّة، خاصّةً ضربات الهاون التي أوقعت خسائر كبيرة في صفوف العدوّ. يوم الاثنين 28 يوليو/ تموز، تمام الساعة 04:15 فجراً، وصلت إشارة من وحدة استطلاعٍ إلى أحد مرابض الهاون داخل خزاعة، تتحدث عن وجود تجمعٍ لجنود جيش العدوّ بالقرب من الحدود. حدّدت مجموعةُ المدفعيّة الإحداثيات، وأطلقت خمس قذائف هاون من عيار 120، وكانت النتيجة ستّة قتلى من جنود الاحتلال.
كانت تلك العملية، إضافةً إلى عمليةٍ أُخرى وقعت في المحافظة الوسطى في 31 يوليو/ تموز، وأوقعتْ خمسة قتلى أيضاً، من الدلائل التي أكدّت المميّزات التكتيكيّة الواسعة لسلاح الهاون، ومقدرته على إيقاع خسائر كبيرة تُغيّر من مسار المعركة.
لاحقاً، أصبح الهاون السّلاح الرئيس في حرب المدفعيّة في الأيام الأخيرة للمعركة. وأسهم في إضعاف الروح المعنويّة لمستوطني الغلاف، إذ كانت مقدرةُ القبّة الحديديّة وقتها على التصدي له محدودةً، مما دفع معظمهم إلى مغادرة الكيبوتسات في أول عملية نزوح استيطانيّ بناءً على فعلٍ عسكريٍّ للمقاومة الفلسطينية منذ عقود.
وحسب ما اعترف به العدوّ، فإنّ الكمائن العسكريّة التي نفّذتها المقاومة خلال الحملة البريّة في خزاعة، وتحديداً في 23، و25، و28 يوليو/ تموز، وبدون احتساب ضربة الهاون في 28 يوليو/ تموز، أوقعت في صفوفه ثمانية قتلى بالمجمل، بالإضافة إلى عشرات الجرحى، وهو ما يشكّل تقريباً خُمس قتلى الجيش خلال المعارك البريّة، التي فقد خلالها 42 جنديّاً من ألوية النخبة.
بعد مرور خمسة أعوام، ما زالت قصص المقاتلين في خانيونس، وفي خزاعة تحديداً، وحجم الاستبسال الذي أبدوه في معركةٍ تبدو مستحيلةً وفق القواعد العسكريّة للمعارك، تُشَكِّلُ إلى اليوم خزّاناً ورافداً أساسيّاً في ذاكرة المكان وأهله.
- اتفاقية التعايش عام 1950: اتفاقية جرى توقيعها سرّاً بين الجيش المصريّ وجيش الاحتلال الإسرائيليّ عام 1950 في منطقة العوجا، وذلك على إثر الشّكوى الإسرائيليّة المستمرة من عمليات التسلل الفلسطينيّ من قطاع غزة إلى الأراضي المحتلة. جرى بموجب هذه الاتفاقية اقتطاع 185 كم من مساحة قطاع غزّة الشرقيّة والشماليّة لصالح العدو، عن طريق إزاحة خطّ الهدنة إلى الغرب حوالي 3 كم. كان مقرراً أن تكون الإزاحة على امتداد الحدود الشرقيّة، من الشّمال إلى الجنوب، إلا أن معارضة أهالي خزاعة وعبسان في الجنوب ومهاجمتهم لجيبات ضباط الهدنة المصريّين، وإصرارهم على رفض الإتفاقية أنقذت قرى شرق غزة الجنوبيّة من الضمّ، ولذلك بقيت المسافة العرضية في منطقة خانيونس هي أطول عرض على طول قطاع غزّة."
- الهجوم الثانويّ هو لإيهام الخصم بالدخول من منطقة جغرافيّة محددة، ودفعه لتركيز دفاعه وانتباهه فيها، ثمّ مباغتته عبر الهجوم الرئيسي من مكانٍ آخر.
- يمكن مراجعة: "دراسة الحرب على غزّة: الأداء العسكريّ للمقاومة الفلسطينية"، محمود أبو وطفة.
- استراتيجية الأرض المحروقة: استراتيجيّة عسكريّة يجري بمقتضاها تدميرُ كلّ شيء فوق الأرض قبل تقدم القوات البريّة، وذلك لتدمير الخصم وتقليص الاشتباك معه لأكبر قدر ممكن. يشمل ذلك تدمير البنى التحتيّة، والأماكن المشتبه بوجود عسكريّ فيها. في الحالة الفلسطينية المعاصرة، كان أول استخدام لهذه الاستراتيجيّة من قبل العدوّ في حرب 2008، ولكن جرى تجاوز هذه الاستراتيجية نوعاً ما عبر بناء منظومات الأنفاق غير المعروفة، والتي تصعب بشكل كبير على العدو معرفتها كما أنها لا تتأثر بعمليات القصف الجويّ على خلاف المنازل والعقد الدفاعية فوق الأرضيّة.
- يُمكن مراجعة شهادة أحد مقاتلي كتائب القسّام عبر الرابط هنا
- "شهادات ضباط جيش الاحتلال، من ضمنهم قائد الكتيبة 101 في لواء المظليين"، موقع كتائب القسّام، هنا