صرّح محمد اشتية، رئيس حكومة رام الله هذا الشّهر بأنّ منطقةً صناعيّةً حرّةً في جنين ستوفّر 5 آلاف فرصة عملٍ مباشرة، وستفتح المجالَ لـ15 ألف فرصةٍ غير مباشرة. اعتبر اشتية أنّ هذه المنطقة الصناعيّة المزمع إقامتها قريباً تقع "ضمن استراتيجيّتنا للانفكاك عن الاحتلال".
لكن، يبدو أنّ ما يحدث على الأرض فعلياً يُناقِضُ الشّعارات التي يُراكِمها اشتية منذ تولّيه منصبه، وأنّ "تطوير" الصّناعة الفلسطينيّة الذي يجري الحديث عنه قد يُشكّل في الوقت ذاته إمعاناً في الخضوع للإسرائيليّ.
أحد أهمّ النماذج على استغلال "إسرائيل" للصناعة الفلسطينيّة، واشتراط تطويرها بتوغّل السّيطرة الإسرائيليّة، يظهر جليّاً في مشروعٍ جديدٍ تُنفّذه "إسرائيل" منذ مارس/ آذار 2018 بالتعاون مع رؤوس أموالٍ فلسطينيّين، من بينهم مصنع رويال للبلاستيك، وشركة أفيكو للبلاستيك، وشركة الحرباوي للفرشات، وغيرها من كبرى مصانع الخليل.
يحمل هذا المشروع اسم "باب إلى باب"، وقد انضمّت إليه -حسب ما نُشر حتى الآن- تسعة مصانع فلسطينيّة على الأقل. أما التفاصيل المعروفة عنه حتى اللحظة، فقد أشارت إليها صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيليّة في تقرير نشرته في يوليو/ تموز الماضي. بحسب الصحيفة، فقد أطلقت الإدارة المدنيّة للاحتلال هذا المشروع بهدف تسهيل نقل البضائع الفلسطينيّة إلى "إسرائيل" دون تأخيرٍ على حاجز ترقوميا جنوب الضّفة الغربيّة.
كما أعدّ مكتب منسّق عمليّات حكومة الاحتلال في أراضي عام 1967، الذي يخاطب الفلسطينيين من خلال حسابه على "فيسبوك" باسم "المنسّق"، تقريرين مكتوبين ومصوّرين، عن مشروع "باب إلى باب". أشار التقرير الأول إلى دورة تدريبيّة "أمنيّة" من يومين عُقِدت في صالة تابعة لحاجز طولكرم شمال الضّفة الغربيّة في سبتمبر/ أيلول 2018. هدف الدورة تجهيز موظفين فلسطينيّين ليكونوا "ضباط أمنٍ"، ويتعلموا كيفية "تأمين نقل البضائع من المصنع إلى السّوق الإسرائيليّ بحسب المعايير الإسرائيليّة والعالميّة"، وبالتالي ينضموا للعمل في المصانع المشتركة في مشروع "باب إلى باب".
فيما أشار التقرير الثاني، المنشور في فبراير/ شباط 2019، إلى احتفال أقامته الإدارة المدنيّة بمناسبة انضمام مصانع جديدة من محافظة الخليل إلى المشروع، وأنه لم يعد "مشروعاً تجريبياً"، وإنما تثبّت كإجراء رسميّ، مع العمل على توسيع الدائرة لتشمل مصانع شمال الضّفة الغربيّة. وقد حضر اللقاء ممثلون إسرائيليون عن مجلس الأمن القومي الإسرائيليّ (التابع مباشرة للحكومة)، وعن شرطة الاحتلال، وممثلون عن الوكالة الأميركيّة للتنمية الدوليّة- USAID، وممثلون عن اللجنة الرباعية الدوليّة، والاتحاد الأوروبي، والسفارة الأميركية في تل أبيب، وغيرهم.
تفاصيل المشروع
قبل "باب إلى باب" كانت الشّاحنة ذات الترخيص الفلسطينيّ تُحمّل بالبضائع من المصنع الفلسطينيّ حوالي السّاعة السّادسة صباحاً، وتتجه نحو حاجز ترقوميا. هناك تقف الشاحنة في صفٍّ طويلٍ مُنتظرة دورها في إخضاعها وبضاعتها لتفتيش وإجراءات أمنيّة مشدّدة. بعدها، تُحمّل البضائع في شاحنة ثانيّة تنتظر بعد الحاجز وتحمل لوحة ترخيص إسرائيليّة.
تُؤخّر هذه العملية التي تُسمّيها سلطات الاحتلال "ظهر إلى ظهر" من وصول البضائع إلى وجهتها داخل أراضي الـ48 حتى السّاعة الثانية بعد الظهر تقريباً؛ حينها يكون النهار قد انتهى، ولم يحظَ صاحب المصنع الفلسطينيّ إلا بنقلة واحدة. بحسب مروجي مشروع "باب إلى باب"، فإنّ هذا المسار الطويل والبطيء يُضعف من إمكانيّة تطوير خطّ إنتاج إضافيّ، لأنّ التكلفة مرتفعة.
في المقابل، فإنّ مشروع "باب إلى باب" يُتيح نقل البضائع في شاحنة واحدة فقط، تحمل البضاعة من المصنع مباشرةً، تمرّ عبر حاجز ترقوميا بسرعة، وصولاً إلى وجهتها في أراضي الـ48. يقلّص المشروع الجديد إذاً المدّة التي تستغرقها البضائع الفلسطينيّة في الوصول إلى "إسرائيل" من 8 ساعات تقريباً، إلى ساعتين فقط.
الأهمّ هنا هو الشروط الأمنيّة التي تُحددها "إسرائيل" للانضمام إلى هذا المشروع، ولضمان عدم استغلال هذه "التسهيلات" لتنفيذ عمليات "إرهابيّة". من ضمن هذه الشروط بناء جدارٍ أو سياج مُحكَم حول المصنع، ونصب كاميرات مراقبة دائمة خارج المصنع وداخله ترتبط مباشرةً مع غرفةِ مراقبةٍ إسرائيليّةٍ. تبلغ تكلفة هذه الإجراءات أكثر من 100 ألف شيكل (28 ألف دولار) يدفعها المصنع الفلسطينيّ، في سبيل تلبيّة "معيار الأمن الإسرائيليّ".
كما يشترط المشروع وجود قاعةٍ "معقّمة" في المصنع، تُحمّل فيها الشاحنة الإسرائيليّة بالبضائع، على أن تُركّب فيها كاميرات متّصلة مع غرفة مراقبة تابعة لجيش الاحتلال أيضاً، وأن يُمنع دخولها إلا لأشخاص محددين ومعروفين مسبقاً من موظفي المصنع أو مالكيه، ممن اجتازوا المصادقة الأمنيّة الإسرائيليّة، بالإضافة إلى سائق الشاحنة، وضابط الأمن المسؤول عن تأمين القاعة. وفي حال دخل الغرفة من ليس مصرحاً له بذلك، قد يجد العمّال جيب الجيش أمام المصنع للتأكد من الأمور.
بعد خروجها من المصنع تبقى الشاحنة مُراقَبةً في طريقها بواسطة GPS لمعرفة ما إذا توقفت أم لا قبل الوصول للحاجز.. وهكذا تؤدي هذه القاعة وظيفة "المعبر" الأمنيّة في فحص البضائع، ولكن، هذه المرة داخل المصانع الفلسطينيّة نفسها.
في تقرير يديعوت، يتحدث شادي شاور، صاحب مصنع أفيكو بلاست لتصنيع المواد البلاستيكية، وأحد المشاركين الفلسطينيّين في المشروع، يقول: "كنت أرسل شاحنة واحدة فقط إلى "إسرائيل" كلّ يوم (قبل المشروع). أرسل حالياً أربع شاحنات كلّ يوم". ومنذ بداية المشروع في مارس/ آذار 2018 حتى يوليو/ تموز 2019، دخلت إلى "إسرائيل" حوالي سبع آلاف شاحنة بهذه الطريقة.
ويتابع شاور في ذات اللقاء: "منذ بدء المشروع انضم إلى المصنع 60 عاملاً جديداً، وتمّ إدخال خطِّ إنتاجٍ جديدٍ يعمل بـثلاثة مناوبات على مدار الساعة". ثمّ يضيف مفتخراً: "يحصل العاملون لدي على أجور أعلى من متوسط الأجر في السّلطة الفلسطينيّة. إنهم يزيدون من القوّة الشّرائيّة في الخليل وفي النهاية، هذه إضافة أخرى للاقتصاد الفلسطيني".
باختصار: وجود جولتين من النقل؛ شاحنتين وسائقين، يعني وقتاً أكثر، وبالتالي إنتاجيّة أقل. في المقابل: جولة واحدة؛ شاحنة وسائق، يعني وقتاً أقل، وبالتالي خطّ إنتاجية أعلى. هذا ما تروّج له الإدارة المدنيّة، وتوّفر الدليل بالقول إن الإنتاج الفلسطيني للمصانع المشتركة بالمشروع تضاعف ثلاثة أضعاف. وهكذا، فإنّ المشروع الجديد سيزيد من أرباح صاحب رأس المال الفلسطينيّ المشترك به، كما سيزيد من أرباح الإسرائيليّ الذي يتعامل مع السوق الفلسطينيّ كيد عاملة رخيصة، ما يجعل هامش الربح للمنتج الإسرائيلي أعلى.
غير أنّ "باب إلى باب"، والأهم مما سبق، سيزيد أيضاً من تغول أدوات "إسرائيل" في مراقبة الفلسطينيّ والسّيطرة عليه، ومن اختراقها للمناطق الصناعيّة داخل الضفّة، ومراقبة العمّال وإمكانيّة ابتزازهم بمصادر رزقهم. كلّ ذلك بترتيب مباشر بين الإدارة المدنيّة الإسرائيليّة وصاحب المصنع الفلسطينيّ، دون أن يكون للسلطة أيّ حاجةٍ أو دور -كما اعتادت- كمنظّم للعمليّة أو وسيط فيها.
هل يسري "المنع الأمنيّ" داخل الضفة أيضاً؟
وصل إجمالي قيمة الصّادرات الفلسطينيّة السلعيّة إلى "إسرائيل" عام 2017 وحده، أكثر من 878 مليون دولار أميركيّ، وقد ارتفعت عام 2018 إلى أكثر من 967 مليون دولار أميركي، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
أما اليوم، وفي ظلّ نية الإدارة المدنية العمل على أن تنقل 30% من الشاحنات بضائعها إلى "إسرائيل" بهذه الطريقة حتى نهاية عام 2020، فسترتفع قيمة هذه الصادرات، ولكن في مقابل أن يُحكم أكثر فأكثر ربط الحبل حول رقبة السّوق الفلسطيني، حبل إسرائيليّ أشد وطأة وأكثر خنقاً من ذي قبل. إحدى دلالات ذلك أنّ هذا الارتفاع في مبيعات الشّركات المشاركة قد يُقابله انهيارُ المصانع غير المشاركة والتي لن يسعها بعد ذلك الصمود في المنافسة، لأنها لن تستطيع تطوير خطوط إنتاج كغيرها. عمليّاً، فإن رفض التعاون مع مخططات "إسرائيل" يُعرّض المصانع لخطر الإغلاق ويعرّض عمّالها لاحتمال التسريح.
في أحد تقارير "المنسق"، يظهر قائد مكتب التنسيق والارتباط في مدينة الخليل، قائلاً إنّ "الاستقرار الاقتصاديّ مرتبطٌ بالاستقرار الأمنيّ". وبهذا فإنّ التسهيلات الاقتصاديّة التي يقدّمها المشروع الجديد للرأسمال الفلسطيني مشروطة بالضرورة بسلوك أمنيّ "مُرضي" للأجهزة الأمنيّة الإسرائيليّة.
من هنا، يُشكّل مشروع "باب إلى باب"ابتزازاً اقتصاديّاً تعمل بواسطته "إسرائيل" على تحقيق أمنّها. يُذَكّرنا هذا أنّ "إسرائيل" تاريخيّاً لا تقدّم أيّ -ما يُسمّى- تسهيلات ما لم يترتّب عليها مشروعٌ سياسيّ يُحكم الخناق علينا كفلسطينيّين. فإن كان شريطة حصول العمّال الفلسطينيّين على عمل في مستوطنات الضّفة أو في أراضي الـ48، مقروناً بسجّلٍ أمنيٍّ "نظيف"، فإنّ المشروع الجديد من شأنه أن ينقل هذا الاشتراط مستقبلاً إلى العمل في مصانع فلسطينيّة تعمل في أراضي الـ 67، وبالتالي يبتزّ الناس بلقمة عيشهم. إنّ اشتراك معظم السوق الفلسطيني الصناعي بالمشروع، يعني أن النّاس ستدفع ثمن هذا الارتباط التجاريّ المباشر؛ ستتعمّق السّيطرة الإسرائيليّة على لقمة الناس، وبالتالي تمنع كل إمكانيّات حركتهم السياسيّة.
اقرأ/ي المزيد: "التصاريح.. أداة "إسرائيل" للعقاب والثواب".
ولا ننسى أن هذا المشروع يأتي في الوقت الذي لا تنقطع آذاننا فيه عن سماع التحضير لـ"صفقة القرن"، والتي تُقدّم على أنّها ستُحسّن الأوضاع المعيشيّة للفلسطينيّ. يشبه ذلك ما قاله أحد الضّباط، وهو رئيس فرع المعابر في الإدارة المدنيّة، عن المشروع الجديد بأنّه سيُحسّن من الاقتصاد والحياة الفلسطينيّة في منطقة "يهودا والسامرة". وفي حين تتباهى سلطة رام الله برفضها صفقة القرن، تُطبّق سياسات "السّلام الاقتصاديّ" بشكلٍ يوميّ دون أي ردٍ أو معالجة، وفي تواصل مباشر بين التّجار وأصحاب رؤوس الأموال وبين الإدارة المدنيّة.
مهما ظهرت لغة رئيس الحكومة الفلسطينيّة اشتية مُنمقة وجديدة ومختلفة عما قبلها، إلا أنّها في جوهرها لا تختلف عن سياسات سلام فيّاض التي طرحت التنمية الاقتصاديّة دون أن تعمل فعلياً على النضال ضدّ الاحتلال الذي يبسط سيطرته على الجغرافيا والحركة، ويتحكّم بشكلٍ مطلق بالبنية التحتيّة للاقتصاد الفلسطينيّ، ويستخدم هذا التحكّم ليعمّق سيطرته على المجتمع الفلسطينيّ.