3 يوليو 2019

كيف يُمكن للنبيّ يونس أن يُنقذنا؟

كيف يُمكن للنبيّ يونس أن يُنقذنا؟

قبل عامين من وفاته، سُئِل عالم النفس السويسريّ كارل يونغ Carl Jung، في مقابلةٍ معه على شبكة BBC البريطانيّة، عمّا إذا كان يؤمن بالله. يصمت يونغ لوهلة مبتسماً، ثمّ يقول: "من الصعب الإجابة. لا أحتاج أن أؤمن، أنا أعلم". ماذا تعني تلك الإجابة من رجلٍ أفنى سنين من حياته باحثاً في الأديان وغارقاً في الأساطير؟ حسناً، ربما تعني عدّة أشياء، إحداها أنّ انشغال يونغ البحثيّ يمدّه بيقينٍ قائمٍ على الأدلّة بوجود الله، لذا لا حاجة له للإيمان. وربما لا تعني ذلك.

أمضى يونغ معظم حياته في استكشاف ما يعنيه أن يعيش الإنسانُ أزمةً روحيّةً، وبحثاً واسعاً عن المعنى. كان يعي تماماً أنّ هذه سمة العصر الحديث، وأنّ ثمّة تراجعاً في الدين يُفضي إلى أزمة حضاريّة ونفسيّة. لم يقدّم له الحاضرُ وحده أية إجابة، فعاد إلى الأساطير وقصص أسلافنا من العصور الوسطى والأقدمين لعلّه يجد فيها ما يبحث عنه.

تأثر يونغ بنيتشه كثيراً، ووافقه بأنّ العصر الحالي أفقدنا المعنى، حين أباد الأسطورة وجرّد البشر منها، وفصلهم عن جذوره البدائيّة. وبهذا، رأى يونغ أنّ للأسطورة وظيفتها الوجوديّة، إذ تحفر في تاريخ الإنسان لعمق ماضيه السحيق. وهي قبل كلّ شيء قصة الآلهة وأفعالها منذ بداية الزمن؛ قصّة مقدّسة تحوي حدثاً أصيلاً قادراً على إعطاء معنى ما لحياة الإنسان؛ معنى يمنحه منظوراً يتجاوز وجوده المحدود. وكلاهما أيضاً، نيشته ويونغ، اتفقا على أنّ الله سيزال موجوداً كحقيقة نفسيّة يتوق إليها حتى الملحد الذي "يأخذ نيرانه من اللهب الذي أشعله إيمانٌ عمره آلاف السنين"، بحسب قول نيتشه.

قرأ يونغ الأساطير من منظور اللاوعي الجمعيّ، بوصفه مستودعاً للذكريات والأنماط الموروثة عن أسلافنا الأقدمين. تستند فكرة يونغ الأساسية؛ "النماذج البدائية" Archetypes، إلى أنّ هناك العديد من السّمات والصور النفسيّة واللاشعوريّة واللاواعية التي راكمناها ورسّخناها في أنسجة أدمغتنا بطرقٍ مختلفة، وذلك نتيجةً للخبرات المتكرّرة للأجيال السابقة بدءاً من العصور "البدائيّة". يعني ذلك أنّنا نحملُ جميعاً رواسبَ نفسيّةً لاواعية لتجارب إنسانيّة قديمة، منها ما هو عالميٌّ، ومنها ما تشترك فيه مجموعاتٌ بعينها. 

إنّ تصوّر يونغ للأسطورة الدينيّة، كواحدةٍ من أعظم إنجازات الإنسان وأهمّها، إذ تساعده على النموّ النفسيّ والتعامل مع معضلة وجوده، يدفعنا للتساؤل: ماذا لو قرأنا قصص الأنبياء والكتب المقدّسة بلغة التحليل النفسيّ؟ ماذا لو كانت تلك القصص، بعيداً عن صحّة وقوعها من عدمه، قائمةً على المجازات والرموز ولا تأبه بالنص الحرفيّ للحدث والشّخصيات؟ وماذا لو كانت تلك القصص ليست سوى سرداً أسطوريّاً لوجودنا وذواتنا وتجاربنا جميعاً؟ تبدو فكرةً مثيرةً بكلّ تأكيد. وبكلّ تأكيد أيضاً، نحتاج إلى اللجوء إلى يونغ في ذلك.

لنأخذ رحلة النبيّ يونس هنا كمثال. القصة، كما عرفناها مبكّراً، تخبرنا أنّ النبيّ يونس غضب من قومه بعد أن يئس من دعوتهم، حتّى قرر الهرب من مهمّته ضجِراً إلى البحر، دون أنْ تكون له وجهةٌ محدّدة. في رحلته البحريّة، تحدث العاصفة ويُلقى خارج السفينة، فيبتلعه الحوت، أو "يلتقمه" بلغة القرآن. 

لا نعلم على وجه الدقّة المدّة التي مكثها النبيّ يونس في بطن الحوت، غير أنّه يُقال في العهد القديم إنّ رحلته المُظلمة استمرّت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. وفي التفسير الإسلاميّ تتراوح المدّة بين أربع ساعات وأربعين يوماً، قبل أنْ يعود إلى أهل نينوى مواجهاً قدره ومبشّراً برسالته. 

وردت القصّة في الكتب المقدّسة جميعها مع اختلافاتٍ فريدةٍ في سرديّتها وتفاصيلها وسماتها. لكنّنا لو تتبعنا التّاريخ إلى ما هو أقدم من العهد القديم لوجدنا أنّ هناك قصصاً مشابهة كانت شائعة للغاية في الشامانية وطقوسها الرمزيّة القديمة (نتحدث هنا عن أكثر من 3000 عام قبل الميلاد). هذه القصص المُشابهة، ليست بالضرورة  قصةً عن البحر والغرق، لكنها تتحدث عن البطل الذي يلتهمه وحشٌ ما ويتحرّر في النهاية. لاحقاً في الأساطير الإغريقيّة ظهر البطل الذي يبتلعه وحش البحر، كما حدث مع هرقل أو هيراكليس على سبيل المثال، ثمّ حُرّر في نهاية المطاف مثل النبيّ يونس.

يُبتلَع البطل ويختفي بالكامل في بطن الحوت، ليتحرّر في النهاية. لكن لنعد للبداية، حين يغضب النبيّ يونس، ويسأل نفسه عن جدوى دعوته قومه، ليغرق في اليأس من أيّ إصلاحٍ للفوضى والفساد، ويفقد أيّ شعورٍ بالواجب تجاه العالم من حوله، فيختار رحلة البحر هرباً. ثمّ تضربُ السّفينةَ عاصفةٌ، فيُلقى بالنبيّ يونس ليواجه الغرق. لكنّ حوتاً يبتلعه، فيمكث في جوفه فاقداً أيّ مسارٍ للوقت الذي تستغرقه رحلته بالفعل. ظلامٌ كاملٌ يُفقِدُه أيّ اتصالٍ بالعالم الخارجيّ من حوله. لا شيء سوى ذاته وأفكاره، وصوته الداخليّ الذي وجد نفسه وجهاً لوجه معه. في النهاية، يُلقيه الحوت على أرضٍ بعيدة، عارياً متجرّداً كما لو كان حديث الولادة.

في الرواية الدينيّة، يعلم يونس أنّ العاصفة كانت لأجله، وقد أدرك منذ اللحظة الأولى للعاصفة أنّ هذا ما ينتظره بسبب هربه من مصيره وتملّصه من واجبه. في المقابل، اعتقد يونغ أنّ رحلة البحر المُظلمة هي فكرة أسطوريّة ترسّخت في لغتنا وأفكارنا منذ تاريخنا المبكّر كبشر، ويرى –بلغة التحليل النفسيّ- أنّ محنة يونس ما هي إلّا صورة مصغّرة لحكاية الخلق ومحنة نشوء الكون. 

في طقوس البدء التي عرفها الإنسانُ منذ القدم، يُمثّل "الموتُ" العودةَ المؤقتةَ إلى الفوضى البدائيّة التي وُلد منها الكون. في حين أنّ "الولادة" تماثل ولادة الكون ونشوءه. من هذا التجديد الرمزيّ لأسطورة الخلق، يولد الفرد من جديد. 

تصبح بذلك رحلة البحر المُظلمة التي عاشها يونس مجازاً لولادة جديدة للفرد على المستوى النفسيّ. هي الهجرة الدورية للبطل، لأناه أو ذاته، والعودة إلى الأمّ التي جاء منها، إلى اللاوعي. هي رحلة إلى الظلام والعودة إلى الرحم لقتال الوحش من الداخل. وبكلمات يونغ، هي توقٌ لتحقيق ولادةٍ جديدةٍ من خلال العودة إلى الرحم والغرق في اللاوعي؛ هي رحلة داخليّة تصنعها الذاتُ أثناء عبورها عتبة المغامرة ومواجهتها لنفسها. بطن الحوت في القصّة، هو الرحم الذي سيقود إلى الحياة مُجدّداً . الليل هو الحدود التي عادةً ما تُحجم الشّخصيات عن عبورها، لأنّها مظلمة وغير واضحة ومليئة بجميع الوحوش التي يمكن أن يستحضرها اللاوعي. أما الماء، فلطالما شكّل رمزاً كلاسيكياً للّاوعي في الأدب والفنّ والتحليل النفسيّ.

يوسّع يونغ هذه الفكرة لتشمل التغييرات المفاجئة التي تبتلع حياة الشّخص، تاركةً له الحيرة والارتباك والخوف والقلق، كما لو كان قد ابتلعه الحوت وأصبح في عالمٍ جديد، تحكمه العزلة والصمت والتأمل الذاتيّ. تُمكّن تلك التجربة الإنسان من تعلّم كيفية إعادة تعريف نفسه ومواجهة وحوشه، ليعود بعدها بفهمٍ جديدٍ لذاته وهويّته وشخصيته وواجبه. 1في دراسته الكلاسيكية عن الشامانية، يصف عالم الإنسان والفيلسوف الروماني ميرتشا إلياده ما يسمّيه "طقوس البدء" عند الشامانية، والتي تعتمد على فكرة موت الفرد متبوعاً بقيامته وإعادة إحيائه. في تلك الطقوس المركّبة، يمرّ الشخص بفترة من العزلة في "عالمٍ سُفليّ" يعزله تماماً عن الخارج، ليعود لاحقاً إلى مجتمعه بعد ولادةٍ جديدةٍ له.

على أية حال، يبدو أنّ حياة ما بعد الحداثة لم تستطع أنْ تنتزع من البشر حاجتهم النفسيّة للموت الرمزيّ والعودة إلى الحياة من جديد. فالعديد من أساطير الموت والعودة إلى الحياة يُعاد بعثها حين يستعيرها الأدب والسينما والتلفزيون.

لا أدري إنْ كان هنالك من يزال يقصّ على أطفاله قصة ليلى والذئب؛ يلتهم الذئب ليلى وجدّتها قبل أنْ يأتي الحطّاب الشجاع وينتزعهما من بطنه بعد شقّ أحشائه، لتعود كلتاهما للحياة. يا لها من قصة تُسرَد للأطفال! لكنْ ربّما نعي أنها لم تأتِ من خيالٍ عبثيّ حملته الأجيال المتتابعة، بل هي محاولة لاواعية منّا لربط أواصرنا مع الأساطير القديمة، التي تساعدنا على فهم قصّتنا والالتفات إلى دواخلنا لنكشف لأنفسنا ذلك المعنى المستور للحياة والموت والواجب. 

بدلاً من الانشغال في أسئلة كمثل: كيف مكث يونس في بطن الحوت، وكيف تنفّس، وماذا أكل، وأيّ نوعٍ من الحيتان ابتلعته، أو لماذا أُنبتت عليه شجرةً من يقطين لا غيرها من الأشجار والنباتات، ربّما سيكون مفيداً كذلك أن تُلهمنا قصته في السعي لاستكشاف أسطورتنا الخاصّة وحكايتنا المتفرّدة بما فيها من ضياعٍ وكبَدٍ ومعاناةٍ وبحثٍ دائمٍ عن معنى أو واجب.



31 يناير 2023
اللهث خلف الرغبة

انتهى منذ وقتٍ طويل عصرُ الذات المريدة الحرّة في نضالاتها اليومية. لقد انتهى هذا النوع من النضال مع حركات التحرّر…