ليست الانتفاضة الثانية حدثاً عابراً في التاريخ السياسي الفلسطيني، بل هي شكلٌ من أشكال انضغاط الزمن، جرى من خلاله تكثيف عنفوان الهوية، وتعبئة الفلسطينيين سياسياً على نحو لم يسبق له مثيل. إنّه حدثٌ قاد إلى تحوّلات قيميّة عميقة في المجتمع الفلسطيني، وفرض لغته على الشارع، وخلخل بنية المؤسسة السياسية الفلسطينية، وشكْل السياسة الفلسطينية إلى الأبد.
لم تكن الانتفاضةُ المواجهةَ الأولى التي يخوضها الفلسطينيون ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، كما لم تكن الأخيرة. لكن، ميّزها من غيرها أنّها شكلّت ذروة العمل النضاليّ الذي جمع فيه الفلسطينيون خلاصة الخبرات الميدانية التي راكموها من تجربة الكفاح المسلّح في لبنان، والتي استندت أساساً إلى حرب العصابات، ومن تجربة الانتفاضة الأولى التي ارتكزت على نحو أساسيّ على المقاومة الجماهيرية شبه السلمية والتضامن المجتمعي الواسع.
ما ميّز الانتفاضة الثانية من إجماليّ المعارك الأخرى التي تلتها، هو حجم التعبئة السياسية الكبير الذي مارسته مختلف الفصائل الفلسطينية على قواعدها الاجتماعية والشعبية، والذي كان من نتائجه المباشرة انفصامٌ مرعبٌ في بنية المؤسسة السياسيّة وخطابها الوطنيّ. انفصامٌ شقَّ المؤسسة السياسية الفلسطينية إلى اثنتين، لتصبح السلطة برأسين، وذلك بعد تاريخٍ طويلٍ من سيطرة وتفرّد "حركة فتح" بالسلطة وآليات اتخاذ القرار. بهذا المعنى، فإنَّ انتفاضة الأقصى مسؤولةٌ، أكثر من أيّ حدثٍ محليٍّ آخر، عن تشكيل الزمن السياسيّ الفلسطينيّ الذي نعيشه اليوم، وهو زمنٌ يتسمّ بتشظي المرجعيّة السياسية وانهيار آفاق العمل المشترك.
من الممكن أن يكون مردّ ذلك إلى أنَّ أحداً، من الأطراف السياسية الفاعلة في الانتفاضة الثانية، لم يتمكّن من تحقيق نتائج حاسمة على الأرض أو ادّعاء الانتصار أو الاعتراف بالهزيمة. لقد نجحت "إسرائيل" في إرساء قبضتها الأمنية على الضفة الغربية وأراضي الـ 48، إلّا أنّها فشلت في قطاع غزة الذي تحوّل إلى حصنِ مقاومةٍ عنيدة. وقفت "حركة حماس"، في المقابل، موقف العاجز إزاء تفكيك بنيتها التنظيمية في الضفة الغربية، لتجد نفسها لاحقاً معزولةً في منطقة واحدة من أراضي فلسطين التاريخية، تجاهد في سبيل انتزاع الاعتراف بشرعيتها السياسية التي حققتها بعد مسيرةٍ طويلة من التضحيات، وتواجه في الآن نفسه مجتمعاً فُرض عليه الصمود.
أما الخاسر الأكبر فقد كانت "حركة فتح"، التي وجدت نفسها مضطرةً إلى دفع أثمان سياسية باهظة ومتتالية ومذلّة، نظير مسؤوليتها عن إطلاق شرارة الانتفاضة، بوصف ذلك طريقاً إجباريّاً للاحتفاظ بالاعتراف الدوليّ، وهو ما زاد لاحقاً من عزلتها الشعبية، وحدّ من قدرتها على المناورة، وأفقدها معقلها الجنوبيّ في غزة. أما اليسار بمجموعاته المختلفة فقد تفكك سياسياً وتحوّل إلى حالةٍ ثقافية تجاهد في سبيل التمايز.
في سياقٍ حافلٍ بأنصاف الانتصارات (أو الهزائم)، كان من الطبيعيّ أن تبقى المعارك بين مختلف الأطراف السياسية الفاعلة مستمرّة، وهو ما وفّر الفرصة لتخيّل حروب غزة الثلاثة، والعمل الفرديّ المسلّح في مناطق الضفة الغربية لاحقاً، بوصفها استمرارية تواصلية للحظة الانتفاضة، على الرغم من انتمائها إلى مرحلةٍ أخرى من النضال الوطنيّ الفلسطينيّ ضدّ الصهيونية. ولأنَّ أيّاً من الفصائل الفلسطينية لم يعلن صراحةً عن انتهاء الانتفاضة، ولأنَّ أيّاً منها كذلك لم يكن معنياً بتقديم مراجعةٍ نقدية لما كان قد جرى، فإنّنا لا زلنا محشورين في سرديات تاريخية متوازية، عن الحدث الجامع، تنفي إحداهما الأخرى.
في سرديّات الانتفاضة الثانية
لدى الفلسطينيين سرديّة قوميّة واحدة للانتفاضة، وعددٌ آخرٌ من السرديّات المتنافرة الأكثر جزئية. تقرأ السردية القوميّة الانتفاضة الثانية بوصفها لحظة من لحظات النضال التاريخيّ الطويل ضدّ الاستعمار. الانتفاضة هنا استمراريةٌ تاريخية لنضالات الشعب العربي الفلسطيني منذ "هبّة البراق" عام 1929.
يطيب للعديد من قرّاء التاريخ مقارنة الانتفاضة الثانية مقارنةً خاصةً بثورة عام 1936، التي مزجت كذلك بين النضالين الجماهيري والمسلّح، وأنتج قمْعُها حالةً من التفكّك والانهيار الاجتماعي والسياسي، تُغري مقارنته بحالة المجتمع الفلسطيني منذ عام 2005 على الأقلّ. تلاقي هذه السردية قبولاً واسعاً بين مختلف القوى السياسية الفلسطينية على اختلاف مشاربها؛ فـ"منظمة التحرير" الفلسطينية أصلاً، كانت سبّاقة إلى الاستثمار السياسي في تاريخ الشعب العربي في فلسطين قبل النكبة، معتبرةً نفسها وريثة الإرادة السياسية الفلسطينية لتلك الحقبة، كما لم تكن صدفةً أن تسمّي "حركة حماس" جناحها العسكريّ بـ"كتائب القسّام" تيمّنًا بأحد أهم رموز ثورة الـ 36.
تكمن المفارقة في أنَّ هذه السرديّة القوميّة الجامعة، التي لا يختلف عليها فصيلان فلسطينيان، هي الأسهل من ناحية تفكيكها تاريخياً، حالها حال كلّ السرديات القومية التي تستحضر على نحو أو آخر فكرة العوْد الأبديّ والتقاء الماضي بالحاضر. أمّا في الواقع، فلا ياسر عرفات استمراريةٌ تاريخيّةٌ للحاجّ أمين الحسينيّ، الذي كان له هويةٌ وأفقٌ مختلفان، ولا "كتائب القسّام" تطوّرٌ عضويّ لمجموعة عزّ الدين القسّام في الثلاثينيّات، التي لم تعرّف نفسها على أنها فلسطينيّة.
فالهُويّة الفلسطينية، بوصفها نقيضاً للصهيونية، لم تكن قد وجدت حضوراً طاغياً داخل فلسطين إلا في ثمانينيات القرن الماضي، مع تركيز "منظمة التحرير الفلسطينية"، بعد خروجها من لبنان، على الأرض المحتلّة، وبنائها مؤسسات وطنية موازية لمؤسسات الاحتلال، ومع ارتفاع مستويات التعليم ارتفاعاً غير مسبوق، ومع سياسات التهميش والاستغلال التي انتهجتها سلطات الإدارة المدنيّة الإسرائيليّة، والتي أقنعت شرائح مؤثرة من سكان المدن الفلسطينية، لم تكن مقتنعة بمواجهة "إسرائيل" قبل ذلك، بالانضمام إلى العصيان المدني، الذي جرى تتويجه باندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987.
لذلك، فإنَّ أي جهدٍ نقديٍّ يتوخّى مراجعة الانتفاضة الثانية، لا بد له أن يعود تحديداً إلى سنوات التأسيس في الثمانينيات، والمقدّمات التاريخية التي أنتجت الانتفاضة الأولى، والتي ساهمت في تعميم الهوية الفلسطينية على سكّان الأرض المحتلة من جهة، وهمّشت من انقسامات اجتماعية أخرى كانت مُعيقةً لتبلورِ مجتمعٍ سياسيٍّ متماسكٍ آنذاك (كالانقسام الريفي المديني، واللاجئ والمقيم... إلخ) من جهةٍ ثانية، ومن جهةٍ ثالثة أفرزت قوّة سياسيّة أساسيّة أدّت دوراً أساسياً في إعادة تعريف الثقافة السياسية الفلسطينية، وتولّت قيادة الانتفاضة المُعسكرة لأكثر من عامين، وهي التيّار الإسلاميّ.
إلى جانب السرديّة القومية، هنالك أيضاً سرديات جزئية يمتلكها كلّ تيّارٍ سياسيّ عن الانتفاضة الثانية. فهي بالنسبة لـ"حركة فتح" محطةٌ من محطّات النضال من أجل الحقّ الوطنيّ في تقرير المصير، الذي دشّنته هي مع انطلاق الثورة الفلسطينية عام 1965. إنّه النضال الطويل من أجل الاستقلال الذي راوغ بين "غصن الزيتون والبندقية"، واحترفت "فتح" ممارسته. ولئن كانت الانتفاضة في عامها الأوّل، بحسب هذه السردية، تعبيرٌ عن عنفوان الحجر والبندقية، فإنّه كان من المفترض أن تتلوها جولةٌ من جولات غصن الزيتون، التي أخذها أبو مازن، خليفة أبي عمّار في رئاسة "حركة فتح"، إلى منتهاها، وفشل فيها فشلاً ذريعاً نعيش آثاره الوخيمة اليوم.
وإن كانت الانتفاضة بالنسبة لليسار الفلسطينيّ المُعارض ثورةً تصحيحية على خطيئة "أوسلو"، الذي يجد جذوره التسليميّة في البرنامج المرحليّ الذي تبنّته "منظمة التحرير" في مطلع السبعينيّات، فهي بالنسبة لـ"حركة حماس" تعبيرٌ عن حتميّة الصراع بين الحقّ والباطل، ودليلٌ على إصرارِ الغرب الاستعماريّ على كبحِ تمكينِ الإسلام، عن طريق زرعهِ للكيان الصهيونيّ في المنطقة، ليصحّ بذلك اعتبارها انتفاضةً إسلاميّة. الانتفاضة كانت لـ"حماس" كذلك إعادة اعتبار للتمثيل السياسيّ للشعب الفلسطيني المسلم، الذي خدعته "منظمة التحرير" بادّعائها تمثيله، وفي صفقة عودة قياداتها من الخارج عطّلت جهاده، وفرضت عليه استسلاماً لا يليق بتضحياته. بذلك، كان خطاب حماس أكثر راديكالية حتى من "خطاب فتح" في بواكيرها، لكنه لم يفلح في تقديم برنامجٍ سياسيٍّ مختلف كما نرى اليوم.
في ثقافةٍ سياسيّة تعتبر النقد الذاتيّ عاراً، كان مفهوماً أن تتجاوز كلٌّ من "فتح" و"حماس" تجربة الانتفاضة الثانية، من دون تقديم مكاشفةٍ نقديّة لأدائها السياسيّ والتنظيميّ، ومن يتحمّل المسؤوليّة عن نتائجها التي نعيشها اليوم. فأبو مازن، الذي لم يتورّع في مرّات عديدة عن لومِ ما يُسمى "عسكرة الانتفاضة"، لم يكن معنياً بالمراجعة العلنيّة الشاملة التي قد تكشف الضوء على صراعه المرير مع عرفات، الذي أصبح بعد رحيله الغامض رمزاً شعبياً. أمّا "حماس"، التي تُدين للانتفاضة بتوسيع شعبيتها ونفوذها على الأرض، فقد كان سينطوي نقدها الذاتيّ واستنتاجاتها المتأخرة على تعقيداتٍ أشد على قواعدها الشعبيّة، خاصةً على المستوى الأيديولوجي، فليس من السهل أبداً، بالنسبة إلى الحركات الأيديولوجية، أن تكون حكيماً بعد فوات الأوان.
أدّى الاستنكاف عن المراجعة الذاتية، وضعف الكتابة التاريخية عن تلك المرحلة، إلى تمويه معرفتنا عن الانتفاضة الثانية. فنحن حتى الآن ليس لدينا صورة مكتملة عمّا جرى في الانتفاضة، التي بذل فيها الشعب الفلسطينيّ عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والأسرى، ودفع فيها وبعدها أجيالٌ من الشباب من أحلامهم، هذا عدا عن الثمن السياسيّ الباهظ الذي دفعته قضية فلسطين. تكمن مأساتنا المعرفية في أنّنا لسنا قادرين، حتى اليوم، على أن نتّفق أين أصبنا في الانتفاضة وأين أخطأنا؟ ولماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟
وجهة نظر تاريخيّة في الانتفاضة الثانية
في القراءة التاريخية لانتفاضة الأقصى، لا يمكن تجاهل الدور المركزيّ الذي أدّاه عرفات في التخطيط لها عشية مفاوضات الحلّ النهائي في "كامب ديفيد"، التي استنتج أنّها مسرحيّة، وتيقّن من الخديعة التي كانت قد انطلت عليه في "أوسلو"، وأنَّ "إسرائيل" لم تكن تنظر إليه إلا بوصفه وكيلاً عنها في مكافحة التمرّد وحفظ الأمن في الأرض المحتلّة. بل لدينا العديد من المؤشّرات، التي تدلّ على أنّ عرفات ربما فكّر باحتمال الانتفاضة قبل أن تطأ قدماه أرض فلسطين، فباشر منذ وصوله على تقوية مجموعات فتحاوية ستصبح لاحقاً "كتائب شهداء الأقصى"، وأصرّ منذ عام 1994 على ألا تمرّ رواتب عناصر الأجهزة الأمنيّة من خلال البنوك، بل أنْ تُصرف نقداً من خلاله وحده، حتى يتسنّى له توجيهها بعيداً عن الرقابة الرسميّة، بما يسمح له بتطوير جيشٍ مُسَلّح يماثل ذلك الذي توافر له في لبنان، ولكنّه هذه المرّة تحت غطاء الأجهزة الأمنية، وتحت حماية ثورة شعبيّة تماثل تلك التي حصلت عام 1987. تلك كانت خطة الطوارئ لدى عرفات إن فشلت المفاوضات.
الانتفاضة كما فكّر عرفات كان لا بدّ أن تكون مؤلمة لـ"إسرائيل"، لكنها يجب أيضًا أن تكون محدودة، وهدفها الأساسيّ كان إجبار "إسرائيل" على القبول بتفسيره لاتفاق "أوسلو"، أي إعطاء الفلسطينيين دولةً معقولةً عاصمتها القدس الشرقية. وقد تردّد عن عرفات أكثر من مرة، كما يروي مروان كنفاني في مذكراته السياسية، كلامٌ يفيد بتفكيره بنموذج فلسطيني يستفيد من تجربة المقاومة المسلحة في جنوب لبنان من ناحية، ويستفيد من التدّخل الدوليّ الرافض لقتل المدنيين كما حصل في كوسوفو. والحال أنَّ هذه الخطة قد جرى تطبيقها بحذافيرها في العام الأوّل على الأقلّ من الانتفاضة، وأنتجت تضامناً دولياً غير مسبوق، وقد كان من الممكن أن تؤتي أُكلها، لولا سوء الطالعِ من جهة، وسوء التقديرِ من جهةٍ أخرى.
أمّا سوء الطالع، فقد تجلّى في هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول في العام الثاني للانتفاضة، التي خلقت جوّاً دولياً لا يتفهّم ممارسة العنف من أجل التغيير السياسيّ، كما كان الحال في عالم ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي الذي جاء منه عرفات. وأمّا سوء التقدير، فقد كان مردّه إلى تعويل عرفات أولاً على ولاء قاعدته الفتحاوية، وتعويله ثانياً على تعاون الفصائل الفلسطينية الأخرى. فقد سمح عرفات منذ بداية الانتفاضة لمجموعات "كتائب شهداء الأقصى" بالعمل، والتي كان أغلب أعضائها إمّا من أفراد الأجهزة الأمنية أو تحت تغطيتها، ومرتبطة من خلال تنظيمات "فتح" الإقليميّة به مباشرة، وعلى نحو عشوائيّ وغير رسميّ. وقد أمر كذلك قادة الأجهزة الأمنية بغضّ الطرف عن تسليح الفصائل الفلسطينية الأخرى، خاصّةً حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلاميّ" إضافةً إلى "الجبهة الشعبية". وقد قيل إنَّ عدداً من قادة الأمن قاموا بالمساهمة في تسليح مجموعات تابعة للفصائل، لأنَّ عرفات اعتقد أنّ نشاطها العسكري سيكون مفيداً.
كان عرفات مخطئاً في تقديراته، ففي العام الثاني للانتفاضة بدا كأنَّ "كتائب شهداء الأقصى"، التي تكاثرت مجموعاتها بعد انهيار الأجهزة الأمنية وضعف قياداتها، تتمرّد عليه، ولا تقبل بإدارته السياسية للانتفاضة. وقد تجلّى ذلك أساساً من خلال إصرار أغلب المجموعات على مواصلة المقاومة المسلّحة في الفترات التي احتاج فيها عرفات إلى التهدئة لاستثمار الحدث سياسياً، خاصّة في تلك الأيّام التي كان يستقبل فيها المبعوثين الأميركيين والدوليين للتفاوض. ولم يؤدِّ ذلك التمرّد إلى الفشل السياسيّ والعسكريّ الفتحاويّ فحسب، بل أدى كذلك إلى مساعدة "إسرائيل" في عزل عرفات حين نجح آريئيل شارون، صاحب الثأر الشخصيّ القديم معه، في العام الثالث للانتفاضة، في إقناع الإدارة الأميركية بأنَّ عرفات لم يعد أصلاً يسيطر على "فتح"، وأنّه بات من الضروريّ البحث عن بديلٍ عنه يفرض السيطرة.
لم يتوقّع عرفات أيضاً أن تذهب الحال بالفصائل الفلسطينيّة إلى أن تتبنّى أسلوب العمليات الاستشهادية ضدّ "مدنيين" إسرائيليين، والتي أعطت المبرّر لـ"إسرائيل" لاجتياح المدن الفلسطينيّة بدءاً من عام 2001 لتصفية المقاومة المسلحة، كما جلبت نقداً دولياً كان الفلسطينيون في غنى عنه في وقت كانت تخرج فيه تقليعة الإرهاب. كان عرفات يدرك أنّ العمليات الاستشهادية، بغضّ النظر عن مشروعيتها، انتحارٌ ذاتيّ، لدرجة أنّه شكّ في بداية الظاهرة، بأنّها صنيع المخابرات الإسرائيليّة1أحمد قريع (أبو علاء)، الرواية الفلسطينية الكاملة للمفاوضات: من أوسلو إلى خارطة الطريق، ج 3 (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2011)، ص 60.، قبل أن يدرك أنّها انقلابٌ سياسيٌ داخليٌّ عليه شخصياً، شاركت فيه كلّ الفصائل بما فيها "فتح". وقد كانت نتيجة ذلك أنّ أمضى أبو عمّار آخر أيامه معزولاً سياسياً في الخارج بتهمة الإرهاب، وداخلياً بدعوات الإصلاح. بذلك، لم يكن شارون بحاجةٍ بعد ذلك إلى اغتياله، فقد قتله سياسياً قبل ذلك.
أين أخطأ عرفات؟
كان خطأ ياسر عرفات الإستراتيجي في أنّه لم يشكّل معرفة دقيقة عن القوى المحليّة في الأرض المحتلّة. فحينما وصلَ إلى فلسطين لم يحرص على أن يفرض توازناً لتوزيع السُلطة، وخاصةً على مستوى المناصب الحكومية العليا منها. فقد نقل طواقم مؤسسات المنظمة من الخارج وفرّغها على المناصب العُليا في المنظمة وفي السلطة، مفترضاً أنّها تمتلك خبرةً أوسع بالسياسة، في حين فتحَ الوزارات والمجلس التشريعيّ لكبار الفتحاويين المحليين، وفرّغ صغار الفتحاويين المحليين في القطاع العام الذي شمل الأجهزة الأمنية المختلفة وعموم الوظائف الحكومية. وينبغي الإضافة أنّ عرفات ميّزَ كذلك ضدّ "حماس" و"الجهاد الإسلاميّ" في مبدأ التوظيف، محتفظاً بهذا الملفّ للمستقبل من أجل الضغط عليهما للانضمام إلى "منظمة التحرير" تحت زعامته. سرعان ما فجّرت هذه السياسة تناقضاً في التسعينيات عُرف بتناقض العائدين والمواطنين لا زال العديد منا يتذكره2بدأت بوادر هذا التناقض تظهر في الخطاب السياسي الفلسطينيّ قبل ذلك بسنواتٍ عديدة، ففي حوارٍ صحافيّ أُجري في أبريل/ نيسان 1989، أي قبل توقيع اتفاق "أوسلو" بسنوات، شدّد الشيخ أحمد ياسين على أن "حركة حماس" لا ترى نفسها بديلاً عن "منظمة التحرير الفلسطينية" في عملية التفاوض، ولكنها في الوقت نفسه، تعتبر "منظمة التحرير" ممثلةً للفلسطينيين في الخارج، لا في الأرض المحتلة، انظر:Yezid Sayigh, Armed Struggle and the Search for State (Oxford: Oxford University Press, 2004), p. 651. ولم يكن ياسين بذلك يقصد أنَّ "حماس" ممثلة الفلسطينيين في الداخل، بل كان يقصد أنَّ النُخب السياسيّة الفلسطينية التي صنعتها الانتفاضة الأولى، لم تكن ممثلةً في عملية صناعة القرار السياسيّ، على الرغم من أنّها هي التي قادت العمل النضاليّ آنذاك..
عشية الانتفاضة الثانية، كانت قواعد "فتح"، المشكّلة أساساً من فتحاويين محليين، ناقمةً على نظام المحسوبية الذي أرساه عرفات، إلى درجة أنَّ لغة الشارع آنذاك ربطت بين شريحة مديري القطاع العام المتضخمة في السلطة وبين شريحة العائدين. لم تكن القواعد الفتحاوية داخل الأجهزة الأمنيّة، التي تمتلك السلاح والخبرة الميدانية، بمنأى عن مشاعر النقمة، خاصّةً أن العديد من أفرادها كانوا مسيّسين، ولهم تاريخٌ قياديّ تنظيميّ في الانتفاضة الأولى، وكفاءة في تعبئة الجمهور، جعلهم يعتبرون أنفسهم مؤهلين أيضاً للقيادة، ليجدوا أنفسهم فجأةً تحت إمرةِ مجموعة تستمدّ شرعيتها من قربها من الرئيس. وقد زاد الأمرُ تعقيداً أنَّ هذه الشريحة، التي كان مخططاً لها أن تكون أساس قاعدة الانتفاضة، كانت أكثر راديكاليّة من قيادتها، وذلك له علاقةٌ بطبيعة الحال بتشكّل الهوية الفلسطينية المتأخر في الداخل مقارنةً بالشتات، فاللاحق يتشدد أكثر من السابق.
تُرجمت تراكمات هذه الفجوة بين عرفات وقواعد فتح على الأرض بدءاً من السنة الثانية للانتفاضة، إذ تمردّت أغلب مجموعات كتائب شهداء الأقصى على الزعامة السياسية لعرفات للانتفاضة مستغلةً انقطاع التواصل معه بسبب حصاره، وكان تمرّدها عاملاً مهمّاً أدّى إلى عزْلهِ سياسياً. ففي عامه الأخير، كانت مجموعات مختلفة من الأجهزة الأمنية بقياداتها المحليّة تحتجّ علنًا ضده، وتطالب بالإصلاح كما كان في حالة محمد دحلان في غزة، وكانت مجموعات أخرى، مثل العديد من العناصر القيادية الغزّاوية في "لجان المقاومة الشعبية" و"ألوية الناصر صلاح الدين" فيما بعد، تنشق عن "فتح" وتتحالف مع خصومها المحليين.
ولم يكن من المُصادفة أن تدعم قواعد "فتح" الأخرى في السلطة، في الفترة نفسها، بالمعيّة مع شخصيّات سياسيّة من "منظمة التحرير" ومن مؤسسات المجتمع المدنيّ، أبا مازن في دعواته إلى الإصلاح وكسر التفرّد بالقرار. يكفي أن نذكر أنَّ أغلب أعضاء المجلس التشريعيّ الفلسطينيّ، في إحدى جلساته في سبتمبر/ أيلول 2003، وقفوا مصفّقين لخطاب محمود عبّاس، الذي أعلن فيه عن نيته الاستقالة من منصبه رئيساً للوزراء، بدعوى ممانعة عرفات للإصلاح، الذي فرضته الولايات المتحدة عبر خطة "خارطة الطريق" في أبريل/ نيسان 2003. كان ذلك في الوقت ذاته الذي كان عرفات يصف فيه أبا مازن بأنه "كرزاي فلسطين"، مُدركاً أنَّ كلّاً من الولايات المتحدة و"إسرائيل" قد قرّرتا عزله سياسياً عبر فرْضِ "الإصلاح"، الذي كانت النُخب السياسية الفلسطينية المُختلفة أيضاً مقتنعةً بضرورته، كلٌ لأسبابهِ الخاصّة. بذلك نشأ وضعٌ مُفارق، ففي حين كانت مجموعة أبي مازن، المدعومة من أغلبية "حركة فتح" السياسية، رافضةً لاستبعاد عرفات سياسياً، فإنها كانت، في الوقت نفسه، متحمّسةً للطريقة التي باشرت من خلالها "إسرائيل" وأميركا بإجراءات عزله. وما كان لهذا التناقض أنْ يُحلَّ بهدوء، لولا رحيل عرفات الذي وفّر فرصةً لمن خَلَفه لتبنّيه رمزاً وشهيداً، وطيّ صفحته في الآن نفسه. 3كانت القضية الجوهرية التي أججت المواجهة بين عبّاس وعرفات هي رفض الأخير نقل مسؤولية الأجهزة الأمنية إلى رئاسة الوزراء، إذ رشّح عبّاس كلّاً من اللواء نصر يوسف لتسلّم منصب نائب رئيس الحكومة، ومحمد دحلان لتسلّم منصب وزارة الداخلية، وهو الأمر الذي رفضه عرفات قطعياً. والحقيقة أنَّ السلطة الحقيقية، كما رآها عرفات، كمنت دائماً في التحكّم في القوّة العسكرية والأمنية التي كان يصرّ على احتكارها منذ تأسيسه لـ"حركة فتح"، في حين لم يمانع عرفات في يومٍ من الأيّام أن يفوّض الصلاحيات السياسية الأخرى لآخرين.
أساء عرفات أيضاً تقدير حجم "حماس" وقدرتها على الانقلاب على خطته للانتفاضة، وكان لذهابه إلى المُواجهة مع "إسرائيل" من دون تسوية تناقضاته معها آثارٌ وخيمة، خاصّة وهو الأعرف بعمقها في المجتمع الفلسطينيّ. فعندما انطلقت الانتفاضة الثانية، لم يكن لدى "حماس" أي سببٍ للثقة بعرفات وبإدارته السياسية. وما كان من الممكن توقّع أن تمنحه سريعاً الثقة، وأغلب قياداتها وعناصرها لم يكن مضى وقت طويل على خروجهم من تجربةٍ مريرة تحت سياط أجهزته الأمنية، ومنهم من قصفته "إسرائيل" في سجون السلطة أثناء الانتفاضة، كما كانت الحال في "سجن نابلس المركزيّ" في أغسطس/ آب 2001. هذا عدا عن أنَّ "حماس" لم تكن أصلاً تعترف بشرعية عرفات مرجعيةً سياسيّة، ولم تكن لتلتحق بانتفاضة قد ينتج عنها سقفٌ سياسيٌّ ترفضه، هو سقف "أوسلو".
كان بديل "حماس" أن تقود هي الانتفاضة وفقاً لسقفها السياسيّ المتمثل في تحرير كامل فلسطين، وقد كان هذا يعني على الأرض حرباً شاملة تدمّر الأسس التي قام عليها أوسلو، وتضمن ديمومة الصراع، وهو ما يعني في المحصّلة عزل عرفات. أظهرت "حماس" براعةً منقطعة النظير في إعادة بناء تنظيمها من القاع بسرعةٍ فائقة، بعد أن كانت السلطة قد فكّكته في التسعينيات. وفي خلال عامٍ واحد، استطاعت أن تتصدّر الانتفاضة، وأن يصبح لها نصيب الأسد من التضحيات والعمليات العسكرية. ومع تحوّل الانتفاضة إلى العمليات الاستشهادية، أصبح مسلّماً لـ"حماس" قيادتها، وأنّها صاحبة القول الفصل في قرار الهدوء والمواجهة. ليس غريباً بعد ذلك كلّه أن يُسمع عرفات في آخر أيامه يقول ساخراً، كما يروي لنا مروان كنفاني، إنّ "إسرائيل" "تفضّل التعامل مع القسّام والأقصى على أن تتعامل معه"4مروان كنفاني، سنوات الأمل (القاهرة: دار الشروق، 2007). يوجد نسخة إلكترونية على موقع الأستاذ مروان كنفاني وهي التي تمّ اقتباسها في هذا المقال.
هل انتهت الانتفاضة الثانية حقّاً؟
انطبعت الانتفاضة الثانية في ذاكرتنا بوصفها آخر مواجهة مجتمعيّةٍ شاملة بيننا وبين "إسرائيل"، قبل أن تقمعها الأخيرة، ويجهز عليها سياسياً أبو مازن بإدانتها بأثرٍ رجعيّ وبتعاونه مع "إسرائيل" في تصفية آثارها. غير أن ثمّة جانباً آخر من جوانب الانتفاضة لا زال مستمراً حتى هذه اللحظة ولم تُحسم ديناميته بعد. فقد كانت الانتفاضة أيضاً ثورةً ضدّ العرفاتيّة، وتمرّداً على البنية السياسية الفلسطينية، التي تميّزت قبل ذلك بهيمنة قوة واحدة بزعامةِ شخصٍ واحدٍ على مقاليد القرار، لتتحوّل المؤسسة السياسية من مؤسسةٍ برأسٍ واحدٍ إلى رأسين. إنَّ الديناميّة الداخلية هذه، هي تحديداً ما بقي لنا مستمرّاً من الانتفاضة الثانية، وهي استمرارية تاريخيّة للأسلوب التي اعتاد الفلسطينيون من خلاله فرض التغيير الداخليّ، أي من خلال الحرب مع "إسرائيل".
وعلى خلاف معارك الفدائيين الفلسطينيين مع "إسرائيل" بعد نكسة يونيو/ حزيران 1967، التي كانت نتيجتها السياسية انتزاع الفصائل الفلسطينية لـ"منظمة التحرير الفلسطينية" من قيادة الشقيري، لم تأتِ الانتفاضة الثانية بنتائج سياسيّةٍ حاسمة على المستوى الداخلي. فبدلاً من أن يؤدي ظهور قوى سياسيّة محليّة إلى إثراء العمل السياسيّ الفلسطينيّ وتوسيع دائرة المناورة، فقد أدّت إلى انهيار آفاق العمل المشترك، الذي قادنا إلى ما نحن عليه اليوم. بهذا المعنى، لا مناص من الاعتراف اليوم بأنَّ ما يمكن اعتباره النموذج الأكثر تطوّراً من النضال الفلسطينيّ قد تُرجم إلى فشلٍ سياسيّ، نعيش متاهاته اليوم.