كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل حين أسقطتُ رأسي على المخدّة مُستعداً للنوم. أمسكتُ الهاتف، واحتملتُ عناء إدخال كلمة المرور؛ رقماً رقماً. أجريت جولة تفقديّة سريعة للتطبيقات المختلفة، ثم شاهدت واحدة من ثلاثة: مقاطع MMA، مُباراة Snooker، شجار بين كلبين وتدخّل سريع من جمال العمواسي. ثمّ كعادتي، اتّخذت الإجراءَ الروتينيّ التالي: نقرة على تطبيق Clock، ثمّ نقرة أخرى على خيار Alarm، ثمّ اخترت بدون تفكير طويل أن ينبّهني الهاتف على الساعة التاسعة وخمس وعشرين دقيقة صباحاً.
رنّ المنبّه. استيقظتُ. غسّلتُ يديّ لمدّة 40 ثانية، علّ ذلك ينسِبُني لجيشِ مواجهة الـ"كورونا". عُدت إلى فراشي، والتحفتُ الغطاء مرّة أخرى، فتحتُ الـ"لابتوب"، نظرتُ إلى الساعة، إنّها التاسعة والنصف. دخلت على تطبيق Zoom. اخترت: لا أريد استعمال الكاميرا، أريد استعمال الميكروفون فقط، ولكنّني سأضعه على "mute"؛ "لا تنسى أن تُعطّل المايك، هذا أهم ما في الأمر" - هذا ما كان يتردّد في رأسي. ثم أرسلت لأمي رسالةً نصيّةً: "يمّا، لا يُصدر أحدٌ صوتاً، عندي محاضرة!"
بيرزيت تدفع رُبع مليون دولار... القصّة أكبر من Skype
ضمن حالة الطوارئ، أغلقت الجامعاتُ أبوابها منعاً لأي تواصلٍ واحتكاك بين الطلبة. فما يُثير القلق من الفيروس أنّه كائن اجتماعيّ جداً. صحيحٌ أنّها ليست الطريقة التي تمنّاها الطلبة؛ "فيروس؟! كنّا نظنّها الانتفاضة هي التي ستفعل ذلك"، لكنّ النتيجة نفسها على أيّ حال.
انتشر الفيروس أسرع من الإشاعة، وأغلقت 119 بلداً مؤسساتها الأكاديميّة، وشرعت العديد من جامعات العالم على فتح مكاتبها ومساقاتها التعليميّة أمام الجميع، وبدا واضحاً وقتها أنّ الجميع سيذهب باتجاه "التعليم الإلكتروني".
أما نحن، فمنذُ ثلاثة أسابيع نُناقش في مجموعة "Facebook Messenger" خاصّة بمساقنا التعليميّ: هل نلتقي على "moodle" أم على ""zoom؟ 1تعتمد معظم الجامعات الفلسطينيّة نظام إدارة التعلّم "moodle"، وهو أداة لإدارة عمليّة التعليم الإلكتروني للربط بين إدارة الجامعة والطاقم التدريسي والطلبة. أما "Zoom" فهو برنامج واسع الانتشار لإجراء الاجتماعات واللقاءات الالكترونيّة. أحدُنا أكسل من أن يتعلّم كيفيّة استخدام هذه البرامج، فاقترح أن نلتقي في الـ"ماسنجر" نفسه. رُبّما ينفع ذلك، لكنّنا بحاجة للشعور بأنّنا قد أجرينا تعديلاً أو إضافةً ما في ظلّ معركتنا مع الـ"كورونا". لم أقترح أن تكون الحصّة على "السكايب" مثلاً، لئلا أعطي انطباعاً بعدم معرفتي في شؤون التعليم الإلكترونيّ. فأنا الذي لم يخبر يوماً تعليماً جامعيّاً على الشبكة الافتراضية، ظننتُ أن التعليم عن بعد يعني محادثة الفيديو على الـ"ماسنجر" أو الـ"واتساب". لكنّني تداركت خطأي وقلتُ في نفسي: استثمرت جامعة بيرزيت ربع مليون دولار لتطوير التعلّم عن بعد، لذا لا بد أن يكون الأمر أكثر من ذلك.
لسان حال الطلبة الفلسطينيين
"أين أيّام المرمطة؟" ستقول أيّها القارئ. كان الواحد منّا يحتاج إلى الاستيقاظ قبل موعد المُحاضرة بأربعين دقيقة على الأقل، كي يلحق الباص بالموعد، فيصل المُحاضرة قبل أن يغلق أستاذُهُ الباب. وإن تأخر، فهو بحاجة إلى مُخيّلةٍ جامحةٍ من الحُجج كي يسوقها إلى الأستاذ فتُقنعه، أما الآن، فخمسُ دقائق تكفي للاستعداد للمحاضرة.
حتّى لو كنتَ تسكنُ بالقرب من قاعة المحاضرة، فإنك لن تستيقظ قبل خمس دقائق. وقتها عليك أن تظهر بمظهر حسن، وعليك أيضاً أن تبدو نشطاً ومُستعداً لأي تواصل بشريّ. أما في التعليم الإلكترونيّ عن بعد، فإن الـ"mute" يحلّ جميع هذه المشاكل، فالصوت عندك مُغلق بدعوى الصدى، والكاميرا مُغلقة بدعوى أنّها تُبطئ الإنترنت.
تبدو فكرة التعليم عن بعد، من سرير النوم تحديداً، مُثيرة. وأن تُجلب إلى غرفتك وجبةُ فطورٍ مع كاسة شاي، بعد أن كنت طالب سكنات "معتّر" طوال فترة تعليمك، إنّه لأمرٌ مذهل.
يا طلبة فلسطين، أليس هذا هو لسان حالكم؟
من زمن المراسلة الجميل إلى Zoom
نشأ التعليم عن بعد من ظروفٍ مختلفة عن حالتنا اليوم. قام التعليم عن بعد على مبدأ توفير العلم للأشخاص الذين ليس بمقدورهم الوصول إلى الجامعات؛ سواء لأسبابٍ ماليّة، كغلاء الدراسة والمعيشة، أو لأسباب البُعد الجغرافيّ وغيرها من الأسباب الاجتماعيّة.
تعود بدايات التعليم عن بعد إلى القرن الثامن عشر، حين أعلنت الصحيفة الأميركيّة "Boston Gazette" عن دروسٍ بالمراسلة البريديّة، وإلى نظامٍ إنجليزيٍّ للتعليم بالمراسلة في القرن التاسع عشر، وفيه افتتحت أوّل جامعةٍ إنجليزيّة – جامعة لندن- برنامجاً خارجيّاً للتعليم بالمراسلة عام 1858. أما أوائل القرن العشرين فانتشر استخدام التعليم بالمراسلة في عدد كبير من الجامعات الأوروبيّة والأميركيّة. ظلّ شكل التعليم عن بعد في تطوّر، فمن استخدام الإذاعة والتلفزيون إلى الأشرطة ثم الحواسيب وصولاً إلى الانترنت الذي بدأ استخدامه أوّل التسعينيّات في الولايات المتّحدة لغرض التعليم.
أغلب الجامعات الإلكترونية المعروفة هي جامعات أميركيّة وبريطانيّة وأستراليّة، وتقدّم معظمها منحاً للتعليم عن بعد. من هذه الجامعات ما هو مخصّصٌ فقط للتعليم عن بعد، ومنه من يقدّم النوعين من التعليم أو يستخدمه كمكوّن ثانوي. عادةً ما تقدّم هذه الجامعات مسارين: الأوّل موجّه، يُعتمد فيه النظام الفصليّ. والثاني مرن، ويُعتمد فيه نظام الساعات. إضافة إلى الجامعات، هناك بعض المنصّات التي تقدّم دورات تعليميّة، مثل: عالميّة مثل كورسيرا (Coursera)، وعربية مثل "إدراك".
مصائبُ / فوائدُ
بعد أن عرفتُ بذلك، حمدتُ الله. لو لم يكن الإنترنت موجوداً لكنّا نصطفّ الآن في طوابير أمام البريد لاستكمال التعليم. فإنّ مشكلاتنا اليوم هي مثلاً عدم القدرة على فهم آليّة عمل "موودل"، أو بُطء في الإنترنت، أو دخول صغار العائلة على الخطّ، أو صعوبة التواصل الإنسانيّ على هذه الأدوات. "نعم، هذه هي نوعية المُشكلات التي ننتمي لها في هذا العصر"، قلتُ في نفسي.
"لا، ليست هذه المشاكل فقط"، تداركتُ بتوبيخٍ ذاتيٍّ لَمَعَ فجأة: "كيف سيكون شكل التعليم الإلكتروني في قطاع غزّة مثلاً، حيث الشمعة أكثر استخداماً من الكهرباء؟ ماذا عن الأشخاص الذين لا يملكون اتصالاً بالإنترنت في بيوتهم أو لم يسدّدوا ثمن الفواتير المتراكمة عليهم؟ كيف لك أن تتجاهل كلّ ذلك، ها؟"
لكنّ ألم يقل المتنبّي: "مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ". ليست مزايدة، لكنّ هناك شرائح أخرى يتعذّر عليها الانضمام إلى الجامعات بنظامها التقليديّ ربما الآن يسهل عليها الانضمام إلى هذا النمط من التعليم عن بعد. كبير السن لن يلتحق غالباً بصفوفٍ مع جيل بعمر أولاده، والفتاة التي منعها أهلُها من الانتقال خارج مدينتها للتعليم، والعاملون في ساعات النهار ومن يعيشون في مناطق نائية؟ هؤلاء جميعهم سيُفرحهم التعليم الإلكترونيّ. وعلاوة على ذلك، فأين دعاة اللحاق بركب الحضارة؟ (وأنا الذي كنت أشتِمُهم) إن لم يظهروا الآن، فعلى الدنيا السلام!
فرصة
سيقدّم التعليم الإلكتروني لكم ما لا يقدّمه التعليم التقليدي. ألا تتراكم الخسائر الماليّة على معظم جامعاتنا، ولا تُقدّم الحكومة تمويلاً كافياً للتعليم؟ ألا تزدحم جامعاتُنا بالطلبة ولا تكفيهم الصفوف؟ ألا نشكو من قلّة المعلّمين المُتخصّصين؟ ألستم تكرهون نظام الحضور والغياب المُتّبع في جامعاتكم؟ ألا تقولون إنّ ذلك يُكرهكم على المجيء وما هكذا يجب أن يكون التعليم؟
حسناً إذاً، ها هو التعليم الإلكتروني وقد يقدّم لكم حلًا لهذه المشاكل، ثمّ أراكم أيّها الطلبة تشتمونه على فيسبوك؟ 2في تصويت جرى على مجموعة طلاب جامعة بيرزيت على فيسبوك، كان أكثر من 3000 طالب وطالبة ضد التعليم الإلكتروني، وأقل من 800 معه. بالتأكيد ما زال هناك "حضورٌ وغياب" حتّى الآن، لا زلنا في بداية الطريق، وتحت التوتر الذي نشأ عن حالة الطوارئ. إنما يقتضي التعليم الإلكتروني -لو أعطيتموه فرصة- أن يكون أكثر مرونةً وانفتاحاً، وهو أوسع بكثير من مجرّد إجراء نفس المحاضرة التقليديّة عبر الإنترنت. فهو نوعان: متزامن، أي الفيديو والمكالمة الفوريّة في صفّ افتراضي كما تفعلون الآن. وغير متزامن، أي يعتمد على الوسائط والمواد التعليميّة المتنوّعة، كما بإمكانك التفاعل مع المواد في أيّ وقت.
لو طُبّق التعليم عن بعد فعلاً...
لا زلنا حتّى اللحظة ننسخ نمط التعليم التقليديّ من خلال مكالمات الفيديو. ولكنّ مبادئ التعليم عن بعد أوسع من ذلك بكثير، وتوفّر خصائص أخرى يفتقدها التعليم التقليديّ:
ليس المُعلّم محور العمليّة التعليميّة فيه، بل أنت أيها الطالب. (افرح، لقد أصبحت وأخيراً مركز الكون عزيزي كاره التلقين والحفظ).
ثمنه ليس باهظاً كما التعليم التقليدي، للمُعلِّم والمُتعلّم، حيث لا مبانٍ ولا مواصلات ولا سكن. (لن أحتجّ على رفع الأقساط، ولن اضطر غالباً للوقوف على طوابير التقسيط).
فرصه مُتساوية، فالجميع يحظى بنفس الدرجة من التركيز والاهتمام (حمداً لله على أنّ التقنيّة ليس لديها مشاعر تحيّز حتّى الآن).
فيه لن يكون معدّل الشعبة مُحدّداً لتقدّمك (لن يفرح الكثيرون).
كذلك بإمكان الجميع المشاركة بنفس الجرأة، فالشاشة تخفي معالم الوجه (لن يمنعك الخجل).
سيكون على الجميع الإجابة بعد التفكير مليّاً بالمسألة (لن نسمع إجاباتٍ مُتعجّلة بعد الآن).
المنهاج مُتوفّر على مدار 24 ساعة (أيّها المزاجي افرح. كذلك اللذين يعملون).
ليست هذه دعوة للاستغناء عن التعليم داخل أسوار الجامعة، فما زال ذلك يعني أشياء كثيرة لنا، مثل توفير المساحة للعمل السياسيّ والاجتماعيّ. لكنّ التعليم عن بعد فيه سحرٌ ما، فهو قاهرٌ للزمان ومفتّتٌ للمكان. لا وقت يحكمه ولا جغرافيا تضبطه. لا مبانٍ تحجبه ولا مسافات تلزمه. والآن، ألا تسمع قولي فتدخل على محاضرة الـ"أونلاين" مشروح الصدر؟