30 ديسمبر 2019

في مديح اليأس وسبع أمنيات على بوابة العقد الجديد

في مديح اليأس وسبع أمنيات على بوابة العقد الجديد

عزيزي،

تُفاتحني بالتحيّة على عتبة العقد الجديد، وتذكّرني بأحوالنا المُدماة من الخليج إلى المحيط، ثمّ تسألني سؤال اليائس عمّا يلوح في مستقبلنا من آمال ووعود، وعمّا اختنزته ذاكرتنا من دروس وآلام. وألمح في كلامك أنّك تطلبُ منّي عزاءً ينتشلك من لجّة اليأس، ووعداً يهبك أملاً أخضراً تحملُ به عناءَ ما مضى وعناء ما سيأتي. وليس عندي مما تطلب شيء! فأنا أكثر يأساً منك –ليس اليأس من الوعد الأخير، بل اليأس من نوال أسبابه المرئيّة – ولكنّني حفيّ بيأسي، ومرتاحٌ إليه. ألم يقل الشاعر "وفي اليأس للنفس المريضة راحةٌ"، وألم يُقل "اليأس أحد النجحين".

اليأس إمكان يا عزيزي. نعم، لقد استحوذ علينا اليأس، كيف لا وما حاولناه انقلب إلى ضدّه. خرج الناس إلى الشوارع برايات الحريّة فانقلب الحال مزيداً من الاستبداد؛ نادوا بالتحرّر الخارجيّ، فلقوا أنفسهم محاطين بشلّة من المطبّعين والخونة؛ طالبوا بكرامتهم، فسُحلوا إلى الزنازين وعلّقوا تحت السياط وبُعثروا في المنافي. وبعد عشر سنين، نلنا ثلاثة حروب واستعصائين سياسيين أو ثلاثة، واستثناءً أو استثناءً ونصف، وجُزينا بالصبر صبراً.1والصبر بالمعنى الثاني، هو نصب كائن حيّ واتخاذه هدفاً للتدرّب على الرماية. جاء في الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صبر البهائم. وها هي الكتائب الطائفيّة في خمسة عواصم أو تكاد، وها هي الرايات الصفراء تصارع الرايات السوداء، وها وجه "إسرائيل" الكبرى يبتسم!

قالوا "اليأس أوفى من الصبر الجميل"، لأنّ للصبر حدوداً، وليس لليأس حدّ. الصبر يخذلك: له عمرٌ افتراضيّ، وقلّة منّا تحمل طولة بال أيّوب. أما اليأس، فيُقيم ويستقرّ، ويرفض أن يتزحزح بسهولة، بل إنّه يبعث فينا ريبةً في الأمل السهل ويُجنّبنا الخديعة. ضحكتُ (باكياً) على أصدقائي المصريين حين حاربوا أيّ أمل بنداءات محمّد علي، ناضلوا كي لا يُصدّقوا، ثمّ استسلموا للأمل، ولكنّه أملٌ ما كان إلا ليزيدهم يأساً بعده.

اليأسُ مرّ وقاتم، يُجهض العمل قبل أن يبدأ، ولكنّه يُمكن أن يتحوّل إلى طاقة فعل لو أحسنّا استثماره. يُعلّمنا اليأس ألا نقوم بشيء ابتغاء غايته في حياتنا: يُعلّمنا ألا نتوقّع تحقّق الأهداف هنا والآن. عند ذلك، يُصبح مبدأ العمل هو قيمته الذاتيّة نفسها، يُصبح تلبيةً لنداء "الواجب" بتعبير كانط. 

تلخّص معركةُ صاحبنا ممدوح عدوان ذلك: 

معركة اليوم بلا أملٍ بالنصر،
وأنت تقاتل كي لا تخجل من نفسك.
كي تجرؤ أن تنظر في عيني ابنك.
كي لا تُغرقك الأحلام المخزية وكي تبقى إنسان!".

هذا النوع من الفعل أكثر حصانةً من الانكسار. إنّه لا يتحطّم لأنّه لا يأمل. إنّه ينبعث فقط من رفضنا للواقع، من رفضنا للكذب، من ضرورة أن نحرس إنسانيّتنا من الخيانة والقبح والزيف. صحيحٌ أنّ هذا النوع من الفعل سلبيّ (أي يستمدّ معناه من الرفض)، وأنّه لا يبني مشروعاً، ولكنّه في الوقت نفسه لا ينكسر، ولا يتوقّف، وهذا ما لا يفهمه الطغاة.

لليأس قيمة أخرى، وهو أنّه يجعلنا أكثر استرخاءً. يفيدنا ذلك في أمرين: الأوّل، أنّه يوقظ فينا بصيرةً أعمق، ورؤية أوضح، لا يشوّشها التفكير الرغبويّ.2مثال سيء على ذلك: في بداية الثورات كان منظّرو التحوّل الديمقراطي أكثر تفاؤلاً وتبشيراً بإمكانيّة التحوّل حيثما نهض الشعب وطالب بكرامته. اليوم، باتت النظريّة أكثر تواضعاً ووضعت شروطاً إضافيّة لنجاح هذا التحوّل: 1) وجود إجماع على الدولة. 2) وجود انقسام كامن أو ظاهر في نخب السلطة. 3) حياد الجيش أو اصطفافه مع الثوار 4) تواطؤ خارجي أو قبول. إلخ. استفادت النظريّة من خيبة الأمل؟ والثاني، أنّه يسمح لنا بأن نمارس ذاتيّاتنا دون أن نلوم أنفسنا. أذكرُ في بدايات العقد أنّ أعداد الشباب المقبلين على الثقافة كانت في تزايد هائل. كان للثقافة معنى عام وواسع وكبير، وكنا نعتقد بأنّ طريق الثورة الثقافية موازٍ لطريق الثورة السياسيّة. انتكب الكثيرون عن طريق الثقافة، عندما انكسر الأمل السياسيّ. ولكنّ الكثيرين، من جهة أخرى، أدركوا أنّهم يحبّون الثقافة لذاتها. لا حاجة لتبرير قيمة العلم من خارجه. ولذا، بتنا اليوم، في مطلع العقد الجديد، أمام مجموعات أكثر إخلاصاً للثقافة، بل ولبعض حقولها المتخصّصة، لا يتوقّعون منها أن تُقدّم لهم خلاصاً، أو أن تقدّم لمجتمعاتهم حلولاً سياسيّة بالضرورة، ولكنّهم اتخذوها أسلوب حياة، وطريقة وجود.

لذلك نظائر. كلّ شيء خسر جدواه مع انكسار الأمل السياسي، ثمّ بدأ يستعيد جدواه على أرضيّته الخاصّة، على أرضيّة الحب! أعني بالحب ذلك الباعث الذاتي "الخالص" الذي لا يتطلّع إلى ما سواه. صديقي محمد عبد الباري أهدى مجموعته الشعريّة إلى قارئه، قال له: "افتتاناً بك. إذ ينهار العالم وأنت تبحث عن قصيدة!". ألا يُذكّرنا ذلك بحديث الفسيلة التي ينبغي أن نزرعها ولو قامت القيامة. لقد اختلف متكلّمو الإسلام في كينونة الخير والشرّ في العالم، فقال فريقٌ منهم بأنّ للشرّ وجوداً حقيقيّاً، وقال فريقٌ –وهو الغالب- بأنّ وجود الشرّ اعتباريّ، فما هو إلا غياب الخير، كما أنّ الظلمة ليست إلا غياب النور. تبعاً للمنظور الثاني، فإنّ عمل الخير وحده كافٍ –أنطولوجيّاً على الأقل- لتخفيق وطأة الشرّ وإنارة جزء من الظلام.

ربّما كان اليأس واسترخاء الأمل هو ما سمح لنا بأن نفكّر بأنّ القضايا الاجتماعيّة جديرة بذاتها دون أن نقرنها بمشاريع سياسيّة كبرى: العدالة للنساء أمرٌ مطلوب لذاته دون أن نعترض بالقول بأنّ ذلك يُعارض الأولويّة السياسيّة، ودون أن نضطّر أيضاً إلى جعله حلقةً في سلسلة التغيير الجذري المأمول. تجديد الثقافة وتنشيطها أمرٌ مطلوبٌ دون أوهام عن دورها في تغيير العالم. الفنّ الجميل جديرٌ لذاته. الإيمان مطلوب في ذاته. أوه، كم كنّا كاذبين حين كنّا نطلب الأشياء لغيرها، حين كان على كلّ شيء أن يصبّ في السياسية مباشرةً دون أن نُعطيه قيمته الذاتيّة، ودون أن نأخذ بالاعتبار إن كنّا نحبّه ونُريده بأسمى ما فينا.

سقط الكثيرون في الاختبار، سقطوا عندما سقط الأمل، واستمرّ الأكثر أصالةً واكتشفوا العالم من جديد. وهؤلاء الأكثر أصالةً –أفراداً ومشاريع- أكثر حصانةً من الانهيار.

جميل هو اليأس يا صاحبي: مُعلِّم قدير ومُمتَحِنٌ خطير. وأعظمُ ما يورثك إياه اليأس هو الجرأة!

 تذكّر إذاً أن تحصّن وجودك بما هو باقٍ، وألا تُشهِر سيف الأمل إلا عند انتهاء المعركة، وتذكّر دروس السنوات العشرة:

  1. كلّ شيء مؤقّت وقابل للزوال: ليس لهذه الأنظمة السياسيّة قَدَرُ الآلهة، وهي على بطشها وتنكيلها فاقدةٌ لشروط الصلاحيّة الذاتيّة، وليس لها أن تدوم.
  2. بين السبب والنتيجة حقلٌ من الألغام ودوامة من تفاعل الأسباب وتداخل الإرادات. التاريخ ماكر ومُتقلّب.
  3. قوس الأحداث لم يُغلق. بل إنّه لا يُغلق أبداً.3بلغة أخرى، هذه هي الدروس : 1) ألا كلّ شيء ما خلا الله باطلُ. 2) أنا أريد وأنت تريد، والله يفعل ما يُريد. 3) لا تدري لعلّ الله يُحدث بعد ذلك أمراً. 

تذكّر أعداءك أيضاً، ولا تنسى الشهداء. ضع ذلك صراطاً أمام عينيك.

ولكنّني مع ذلك يا عزيزي لا أريد تركك دون أمل. فعلى جماليّة اليأس وما ينطوي عليه من إمكان، يظلّ ثقيلاً، وربّما بائساً وحزيناً. ولا أعرف إن كنتَ تحمل ما يكفي من إيمان لتتطلّع إلى ما وراء المستقبل، أم كانت حصّتك هي المكابرة بلا رجاء ولا عزاء. ولكي لا أمنحك أملاً قد يخيب، أسمّيها أمنيات، نكتبها أنا وأنت على بوابة العقد الجديد.

أمنية أولى، أن تكون الحروب أقلّ هولاً، أن يموت الرجال وحدهم في الحروب.

أمنية ثانية، أن نجد عدواً واضحاً، ألا نُقاتل بُنى وأنظمة غير مشخّصة لا أوجه لها، أن نعرف الوجه الذي نقاتله.

أمنية ثالثة، أن نجد وجهاً لنا: أن يجد كلّ فردٍ وجهه، وأن نجد وجهاً للـ "نحن". يكفينا من عطبٍ أن نتوه كأفراد مذرّرين في عالم تصطفّ جيوشه المدجّجة حولنا.

أمنية رابعة، أن نكون في الخضمّ. ألا نكون الهامش الذي يتحدّث عن المأساة. فلتعبر المأساة فوق أجسادنا ليحقّ لنا الحديث.

أمنية خامسة، أن يعود الأصدقاء .. من المنافي والسجون –وبما أننا نتمنّى – ومن القبور.

أمنية سادسة، أن نتذكّر ما يجب أن نتذكّره، وأن تنسى الأجيال القادمة ما تحتاج إلى نسيانه لكي تخطو للأمام. فالذاكرة عبء.

أمنية سابعة وأخيرة، ألا يستمرّ الموت رمادياً وبطيئاً، أن يتوقّف النزف المتمهّل لبلادنا. إن كان ولا بدّ، فلتشمّر الحرب ساقيها ولتدخل كاملةً، فليكن الموت ساطعاً وواضحاً. لا بأس إن لم يُبق ولم يذر. لنا ولادة بعده، فنحن أهل البلاد، ونرثها إن شاء الله!