11 أكتوبر 2018

ماذا فعل الـ"راف كوك"؟ فكرة الخلاص في الصهيونيّة الدينيّة

ماذا فعل الـ"راف كوك"؟ فكرة الخلاص في الصهيونيّة الدينيّة

أوّلاً، ورفعاً لأيّ التباس، يحملُ شخصان اسم الـ"راف كوك" Rav Kook: الأب وابنه، ويمثّلان معاً استمراراً للمشروع الدينيّ-الصهيونيّ ذاته. الراف كوك الأب (1865-1935) وضعَ الأُسسَ الفكريّة، وكان ذا مكانة دينيّة رفيعة، فيما بلور الإبن (1891-1982) الأيديولوجيا وبنى حركة "غوش إيمونيم" Gush Emunim الاستيطانيّة.

سيرةُ الرجلين قد تكون مهمّة أكثر، في حال كان هدف هذه المادّة فهم الجذور الفكريّة والتنظيميّة للأحزاب الاستيطانيّة التي تهيّمن اليوم، عملياً، على السياسة الإسرائيليّة. غير أنّ هذه المادّة -لقصرها- ستركّز بشكل أساسيّ على فكرة "الخلاص" في اليهوديّة، التي يُعتبر التحوّل الذي أحدثه فيها الراف كوك الأبّ، حجرَ أساسٍ للتيّار الصهيونيّ الدينيّ ومشروعه.

فكرةُ "الخلاص" ركنٌ أساسيّ من أركان العقيدة اليهوديّة ومن الفرائض القلبيّة (مثل الصلاة)، وهي مرتبطة، أساساً، بانتظار مجيء المسيح، والإيمان بهذا المجيء، وهذا مُبيّن في "التلمود" وفي كتابَي "هزوهر" و"عتس هحاييم"1. ففكرة الخلاص، مثلاً، هي الركن رقم 12، ضمن الأركان التي وضعها الراف موسى بن ميمون (رامبام): "مجيء المسيح: الإيمان بمجيء المسيح ابن داوود وهو أكبر الملوك".

ارتبطت فكرة "الخلاص" بالشتات، الذي فُهم على أنّه عقابٌ على الخطايا، وأنّ الله سيخلّص اليهود من الشتات في المستقبل المجهول، وعليهم أنّ يتوبوا عن الخطايا، وأن يقوموا بكلّ الفرائض الدينيّة كي يجيء المسيح ويخلّصهم من الشتات ومن العذاب. هذا يعني أنّ الشتات لا ينتهي قبل مجيء المسيح، وهذا كان، وما زال، سبب لا-صهيونيّة التيارات الدينيّة، خصوصاً مجموعات الـ"حريديم"، التي عارضت تأسيس دولة يهوديّة لجمع الشتات اليهوديّ قبل مجيء المسيح.

دورُ كوك الأب

ماذا فعل الراف كوك؟ ربط التوبة والخلاص بالصهيونيّة: لا يبدأ الخلاص بمجيء المسيح بل بالاستيطان مجدّداً في أرض "إسرائيل" من خلال الصهيونيّة. لم يكن الراف كوك مجرّد حاخام، بل كان الحاخام الرئيسي الأشكنازيّ الأوّل في فلسطين (1921-1935)، وكان قبلها راف مدينة يافا وراف مدينة القدس، ومفتي، ومنّظر، و"كاباليست" (من حاخامات الكبالاه التيّار الروحانيّ اليهوديّ).

أبراهام إسحاق كوك، الراف كوك الأب.
أبراهام إسحاق كوك، راف كوك الأب.

أسّس كوك الأب المدرسة الدينيّة المعروفة بأم المدارس الدينيّة الصهيونيّة: "يشيفات مركاز هراف" (التي ستشكّل لاحقاً الكليّة الأساسيّة لتأهيل قيادات الحركة الصهيونيّة-الدينيّة والمستوطنين)، وله كتب كثيرة. في أهمّ كتبه، "أنوار التوبة"، يعتبر الراف كوك التّوبة سيرورةَ تَقدّمٍ شاملة للواقع، لا مسألة متعلّقة بالأفراد فقط، بل توبةً جماعية. إنّها سيرورات سياسيّة واجتماعيّة وعلميّة، ويقوم تصوّره عن التوبة بالأساس على أنّ "عودة شعب إسرائيل إلى أرضه وخلاصه القوميّ هي هي التوبة".

"غوش إيمونيم".. إيقاظُ التحقّق الصهيونيّ

الراف كوك الإبن، الذي أصبح القائد الروحيّ البارز للصهيونيّة الدينية، ورئيس "يشيفات مركاز هراف"، استكمل هذا التوجّه، معتبراً أنّ "شعب إسرائيل" موجود في ذروة سيرورة خلاص، وأنّ قيام دولة "إسرائيل" مرحلةٌ مركزيّة في الخلاص اليهوديّ، وأنّها ظاهرة يتجلّى فيها تقديس اسم الربّ، وأنّ قدوم اليهود إلى إسرائيل والاستيطان في "يهودا والسامرة" (التسمية الصهيونيّة لمناطق الضفّة الغربيّة المحتلّة)، هو من أهمّ محطات هذا الخلاص.

الراف كوك الإبن كان القائد الروحيّ المؤسّس لحركة "غوش إيمونيم" الاستيطانيّة، التي قامت عملياً في أعقاب حرب 1973. في وثيقتها التأسيسيّة، التي نشرتها في التاسع من فبراير/ شباط 1974، كتبت الحركة: "تأسّست غوش إيمونيم من أجل تشكيل بشارة جديدة-قديمة... من أجل إيقاظ التحقّق الصهيونيّ الكامل في العمل والروح، عبر إدراك جذور رؤية اليهوديّة: الخلاص الكامل لشعب إسرائيل والعالم أجمع!".

زفي يهودا كوك، راف كوك الإبن.
زفي يهودا كوك، راف كوك الإبن.

شجّع الراف كوك الإبن مُريديه على إقامة مستوطنات في الضفّة الغربيّة المحتلّة، وكان بينهم محفّزاً. يُحكى في مصادر المستوطنين أنّه عندما قام جيش الاحتلال في السبعينيّات بإخلاء نواة مستوطنة "ألون موريه"، التي أقيمت على أراضي حوارة، قرب نابلس، كان الراف كوك هناك محاولاً منع الإخلاء، ويُحكى أنّه فتح معطفه ووقف أمام الجنود وصرخ قائلاً: "أطلقوا عليّ النار واقتلوني… وكما لن تنجحوا بأن تفرضوا عليّ أكل الخنزير لن تُخلوني من هنا!". يومها، تقدّم الضابط نحوه، بعد إخلاء باقي المستوطنين، وأمسكه من يده ومشى معه حتى الحافلة. على أيّ حال، عاد الراف كوك إلى ذات المكان، بعد بضع سنوات، وقد أقامت فيه حركة "أمناه" -الذراع الموطِّن لحركة "غوش إيمونيم"- مستوطنة "ألون موريه".

مُعارضةُ كوك

كان الأكاديميّ اليهوديّ يشعياهو ليفوفيتش Yeshayahu Leibowitz، من بين أبرز الأصوات المعارضة للراف كوك. بدأ ليفوفيتش مسيرته عضواً ناشطاً في حركة "همزراحي" الصهيونيّة الدينيّة، إلا أنّ توجهّاته انقلبت بعد حرب 1967، ليصبح من المنتقدين المركزيّين للراف كوك وللصهيونيّة الدينيّة بشكل عامّ. اتّهم ليفوفيتش هؤلاء بأنّهم ألغوا الفرق بين المقدّس والدنيويّ، فبالنسبة إليه كلّ ما هو واقعيّ هو دنيويّ، والله هو المقدّس فقط، ويمكن للإنسان السعي نحو الوصول للمقدّس من خلال القيام بالفرائض.

بحسب ليفوفيتش، لا قداسة للدّولة نهائيّاً، ولا حتى لـ"أرض إسرائيل"، ولا لأي شيء. لم يرَ ليفوفيتش أنّ هناك أيّ معنى دينيّ لإقامة دولة "إسرائيل"، وقد أغضبه تبرير اليمين السياسيّ العلمانيّ والدينيّ، للسيطرة على المناطق المحتلة في "يهودا والسامرة" والاستيطان فيها بوجود علاقة تاريخيّة مع "الأرض".

الأهمّ، أنّ ليفوفيتش اعتبر المعنى المسيانيّ، أي الخلاصيّ، الذي تُعطيه المؤسّسة الدينية في الدولة العلمانية، ومعها أنصار الصهيونيّة الدينيّة، لـ"عودة شعب إسرائيل لأرضه وإقامة الدولة" وتسميتها الآرامية "أتحلتا ديجئولا"، أي بداية الخلاص، ليست إلّا معتقدات كاذبة تماماً. بالنسبة لـ ليفوفيتش، يكون الخلاص من خلال تعلّم التوراة من أجل التوراة، لا من أجل أهداف سياسيّة-حكوميّة، وما يجب فعله، قبل كلّ شيء، هو تحرير الديانة اليهوديّة التي شبّهها بالعشيقة المسجونة عند النظام العلمانيّ.

إعطاء معنى دينيّ لإقامة "إسرائيل" وللاستيطان كفعل خلاصيّ يقرّب مجيء المسيح، لا يقتصر فقط على الراف كوك الأب والإبن، ولا على التيّارات اليهوديّة الصهيونيّة-الدينيّة، بل هناك تيّارات مسيحيّة-صهيونيّة، تتقاطعُ مع هذه الرؤية الخلاصيّة، وترى في "إسرائيل" تحقيقاً لنبؤات الكتاب المقدّس، وهي ذات تأثير ولها دور، يجب الوقوف عنده والتعمّق فيه، في موادّ لاحقة، ربّما.

  1. كتابات وشروحات فلسفيّة وروحانيّة يهوديّة، تُدرج ضمن كُتب الـ قبالة/ كبالاه Kabbalah.