16 أغسطس 2025

"عقدة في الحلق".. الحزن في منفى غزة

"عقدة في الحلق".. الحزن في منفى غزة

في الثانية فجراً، أصحو مذعورة على إشعارٍ جديد: قصف على حيّ أعرفه جيداً. أمدّ يدي للهاتف، لا لتطمئن، بل لتنكسر. كيف ينام الألم؟ كيف يهدأ وجع الفلسطيني الغزّي أمام آلة موتٍ لا تهدأ منذ واحد وعشرين شهراً؟ كيف يستريح قلبٌ يعيش على وقع القصف والدمار، ويشاهد في كل لحظة ما لا يُحتمل؟

وكيف يمكن للمغترب، ذاك الذي خرج جسده من حدود غزة، لكن ظلت روحه معلّقة بكل تفصيلة فيها، وظلت أنفاسه مع أهله، أن يعيش حياة "طبيعية"؟ كيف ينهض كل صباح، ويعمل، ويضحك، ويطهو لأطفاله، بينما يحمل في قلبه خنجراً من القهر لا يُنتزع؟

نعيش في الخارج بأجسادنا، لكن أرواحنا مربوطة بخيطٍ دامٍ هناك، لا ينقطع. نُمارس حياتنا الوظيفية والأكاديمية والاجتماعية، لكننا نُمارسها ونحن نُعاني انفصاماً داخلياً حاداً: نصفنا يؤدي دوره في المسرح، يبتسم ويتفاعل، ونصفنا الآخر مسجّى خلف الستارة، لا يصفق ولا يتكلم، جالس في ركنٍ داخلي، يراقب الهاتف كمن يراقب مقصلة أهله.

اقرؤوا المزيد: الفقدان الذي لم نعتده في غزة

تحوّلت حياتنا إلى شاشة. الهاتف لم يعد وسيلة تواصل، بل صار مقبرة إلكترونية، ينقل إلينا المجازر كما تنقل الغربان النحس، ينثر الموت في وجهنا صباحاً ومساءً، مع كل إشعار جديد، ومع كل صورة، ومع كل اسم جديد، سهم جديد يُغرز في القلب. أتصفحه في منتصف الليل فأرى أسماء الشهداء من أقاربنا، أو أصعق بصورة بيتنا المقصوف. أغلق الهاتف، لكن المشاهد تعلق داخلي، وتظل مفتوحة في روحي، كأنما أصبحت عالقةً في مشهد لا ينتهي.

نقرأ أسماء الشهداء كما نقرأ أسماء إخوتنا، لأنهم كذلك فعلاً، ونقرأ أماكن القصف التي كانت شوارع طفولتنا. نتفقد الناجين كما نتفقد بقايا أرواحنا. نحن العاجزون بالخارج، نحمل ذنباً لا ذنب لنا فيه، لكننا نحمله كأنه قدر، ونحاول أن نبدو "طبيعيين" لكننا لا ننجح. نتحدث ونُجامل ونعدّ الوجبات ونرسل الأطفال إلى المدرسة، ونكمل أعمالنا، ونذهب للسوق، بينما في داخلنا عتمة، نزيف لا يتوقف، قلب عاجز، يردد بلا صوت: "أنا هناك، ولست هنا".

عامان من القصف والانهيار، من الأخبار التي لا تنقطع، من الشهداء الذين نعرفهم وجهاً وصوتاً وسيرة، من صور الدمار التي لا تحتاج إلى تعليق ولا إلى خيال. عامان من محاولات رتْق أرواحنا كي نظهر "سالمين"، بينما الحقيقة أننا ننزف ببطء، ونخيط جراحنا بخيوط الصبر المتقطعة. 

اقرؤوا المزيد: ماذا نفعل لغزة؟

القهر لا يزول. لكنه يتحوّل إلى عقدة في الحلق، إلى غصّة في الضحكة، إلى دمعة لا تسقط، إلى ألم يعرف جيداً كيف يظل مستيقظاً. إلى ضمير دائم التأنيب، إلى غضبٍ غير مبرر في لحظات لا تحتمل الانفجار، إلى ارتباك في الشعور، وارتباك في اللغة، إلى صمت طويل، يتبعه بكاء لا منطق فيه. لعلني قلت: "منطقي؟" وأي منطق في كل ما يحدث؟ ما المنطق في أن تُترك غزة وحدها في المقصلة؟ أن يصمد أهلها لأكثر من 600 يوم تحت القصف والتجويع والتدمير؟ أن يتعفن هذا العالم في صمته، بينما نعدّ شهداءنا بالأسماء؟ أي منطق في أن يُحاصر الفلسطيني، وينظر حوله فلا يرى إلا الحصار والمقابر والخذلان؟

ضاقت الأرض، فاتسعت السماء. رحل أغلب الأحباب، الأصدقاء، والأقارب. انتقلوا إلى عالم آخر، عالم لا جوع فيه ولا عطش، لا نزوح ولا فقد، لا خيمة ولا مجزرة. أتساءل: كيف يبدو شكل ذلك العالم؟ هل يتقابلون فيه؟ هل يفرحون عندما يصعد إليهم حبيب جديد؟ هل يجهزون له استقبالاً؟ أم يبكون في صمت لأننا ما زلنا في الأسفل نُذبح؟ هل يمدون أيديهم لنا من فوق؟ هل يروننا؟ هل يشعرون بعجزنا؟ هل يؤلمهم عذابنا؟ أم أن الموت، وحده، يُنسي الإنسان كل ما عرف من قسوة الحياة؟

نحاول أن نعيش يا صديقي، أن نبدو طبيعيين، نكمل دراستنا، ونداوم في أعمالنا، ونعدّ الوجبات. لكن الحقيقة أننا لا نُكمل شيئاً، نحن فقط نقنع العالم أننا ما زلنا نعيش، بينما الحقيقة أننا نُؤجل انهيارنا فحسب.