29 سبتمبر 2019

طالعات

نضالنا لاستعادة السياسة "منهم"

نضالنا لاستعادة السياسة "منهم"

منذ زمنٍ لم أشعر أنّ السّياسة في فلسطين قادرةٌ على خلق الأمل فينا كما فعلت في السّادس والعشرين من سبتمبر/ أيلول، عندما صرخنا: “نساء فلسطين طالعات لنعيد تعريف التحرّر الوطنيّ”. خرجت آلاف النساء في كلّ فلسطين وخارجها للقول بأنّ آلامنا وعذاباتِنا لن تمرّ بصمتٍ بعد اليوم، وأوصلن صرخة “إحنا معاكِ” لنساءٍ أخريات لم تستطعن الخروج معهن. 

مثّل هذا اليوم ردّ اعتبارٍ للنساء الفلسطينيّات، ليس للنساء اللواتي يُهمَّشن من الحيّز العام والعمل السياسيّ فقط، إنّما أيضاً للنساء اللواتي عِشنَّ سنواتٍ طويلة في ظلّ النفي والكتم داخل منظومات العمل السياسيّ في فلسطين. فمن عاشت تجربة النشاط السياسيّ في فلسطين تدرك معنى أن تكون السياسة بعيدة وغير متّصلة بآلام النساء اللواتي يعشن شتّى أنواع الترويع اليوميّ. كما ندرك، من قلب أطر النضال الوطنيّ، غياب مفهومٍ جذريٍّ للتحرّر قادر على حمل آلام كلّ الناس، وتحديداً عذابات المنسيّات، دون تراتبٍ للأولويّات.

عن الرجال والأوامر

عاد هذا النفي يظهر قُبيل مسيرة “طالعات”، مع بدء صدور لوائح التعليمات من قبل الرجال الناشطين في العمل الوطنيّ، كما بدأ من جهةٍ أخرى ابتزازنا بفلسطين، لنجد أنفسنا تحت امتحانٍ دائمٍ لوطنيّتنا وأمام حاجةٍ لإثبات قدرتِنا على الفعل السياسيّ. نمط التوجّهات هذا هو استمرار لسنواتٍ طويلةٍ من ممارسة الوصاية على المساهمة النسويّة في العمل الوطنيّ الفلسطينيّ، وهو يحمل افتراضات ضمنيّة بأن النضال لأجل كرامة وأمن النساء هو تشتيتٌ للنضال الوطنيّ.

“إرفعن صور الأسيرات” يؤشّرون لنا. ولا يهم إن قيل هذا بمنطق قائمة التحديات التي وَضَعَها لنا أحدُهم، أو بمنطلق القلق على الحراك. لسنا مدينات لأيّ شخصٍ أو فئة، وللرجال خاصّةً، بتقديم أيّة براهين حول التزامنا تجاه النضال ضدّ الاستعمار. لن نُقدِّم براهين لأحدٍ، لأننا -كنساء- قضينا سنوات نحاول فيها تقديم سياسة تحرريّة أخرى لشعبنا، وكنا في كل مرة نجد أنفسنا في مواجهة مع مفهوم تحررٍ وطنيٍّ يحكمه “العقلانيّ” و”العمليّ”. وهي معايير راعت العنف الذكوريّ وتحالفت معه، وقدّمت سياسةً سلطويّةً عنيفةً بذاتها تقوم على هيمنة الذكور، وكان الرجال فيها غالباً ما يتهموننا بـ”الحساسيّة المفرطة” والتهور ونقص المعرفة والحنكة السياسيّة. وكان يتكرر القول بأنّ تلك الحنكة تقتضي تأجيل قضايا المرأة والمسحوقين بيننا لما “بعد التحرير”، وبأن هذه المرحلة هي مرحلة تقتضي السعي للحصول على إجماعٍ شعبيّ، ذات الإجماع الذي يمرّ لسنوات على أجسادنا وأرواحنا المنتهكة. 

القوّة الجماهيريّة الكامنة في هشاشة الشخصيّ

تعرف النساء اللواتي خرجن ما يُـرِدنه جيّداً: إعادة تعريف التحرّر الوطنيّ في فلسطين. فقد علّمتنا سنوات طويلة من نفينا خارج العمل السياسيّ مفهوماً جديداً لهذا التحرّر، وفهماً جديداً لمكانة الناس فيه. لطالما عنى الالتحاق بالعمل السياسيّ، بالنسبة لي ولأخريات، طموحاً يعبّر عنه اليوم شعار “لا وجود لوطن حر إلا بنساءٍ حرّة”. ولطالما فهمتُ التحرّر الوطنيّ على أنه نضال يتجاوز سؤال الانعتاق من الاستعمار الإسرائيليّ وحده. وأنّ وظيفة النضال أن يحمل آلام الناس الشخصيّة ورواياتهم الشخصيّة، إلى حيّزٍ يتشاركون فيها مع آخرين، ويتبلور فيه شعور جماعيّ بالاضطهاد والغضب، وتعبير جماعيّ عن القهر يشكّل حكايةً جماهيريّة وعامّة. 

ضمن “السياسة الوطنيّة” المباشرة والفجّة، يصبح التفكير بمظالم وآلام الناس الشخصيّة والخاصّة، محض ترفٍ خارج “الأولويّات”، إلا أنّه بالحقيقة الجوهر والشرط الأساسيّ لتفكيرٍ وفعلٍ سياسيّ أصيل وعادل وتحرّريّ. يجب أن تتحوّل الحكايات الشخصيّة المبعثرة لرواية جامعة حول منظومات تسحق الناس، تخلص إلى مقولات سياسيّة لفهم هذه الأنظمة ومواجهتها: أن يُصبح الصراع مع الفقر سؤالاً حول منظومة اقتصاديّة وحشيّة، لا فشلاً مهنيّاً فرديّاً، وأن يصبح هدم منزل لعائلة فلسطينيّة مسألة منظومة تخطيطٍ استعماريّ، لا مسألة استهتارٍ فرديٍّ أو توسيع مسطّح في هذه القرية وتلك، وأن يصبح قتل امرأة سؤالاً حول هيمنة وقوّة اجتماعيّة مروّعة، لا خلافاً عائليّاً أو ملف تحقيقٍ جنائيّ يخصّ القتلة المباشرين.

التوق للشفاء

تفتح هذه الأرضيّة ممكنات خلّاقة للعمل السياسيّ فهماً وحركةً. ممكنات تشتق من الألم قوة تضامن حقيقيّة، تُصبح جزءاً من سيرورة شفاءٍ يستطيع معها الواقعات والواقعون تحت القمع فهم منطق الظلم الذي يخضعون له، مشاركته مع الآخرين، واعتباره مسألة جامعة. سيرورة الشفاء، هي سيرورة تحويل الألم الشخصيّ إلى مجموع حكايات يُعترف بمكانها في الفضاء العام، وتتحوّل فهماً سياسيّاً يلد طاقاتِ مقاومةٍ وأدواتِ عملٍ شعبيٍّ لامركزيّة قادرة على أن تتصل بأكثر الناس تهميشاً. 

اجتاحنا التوق لهذا الشفاء، أمام هراوات جنود الاحتلال في باب العامود، وأمام مستشفى رام الله حيث النظام الطبيّ يشارك في العنف اليوميّ ويسنده وحيث ترقد نساء معنّفات دون حماية، وحين طلّت النساء والطفلات من شرفات وادي النسناس في حيفا، وحين نَفـيـنا من مساحاتنا أولئك الذين علا شأنهم وعلت مكانتهم الاجتماعيّة على ركام كرامتنا المنتهكة.

هذا ما حمله حراك “طالعات” بالنسبة لي. على أمل أن يتحوّل، بعد سنوات من التردد، إلى تنظيرٍ وممارسة حرّة لا تحاول النطق باسم النساء، ولا تقرّر لهن كيف يتحرّكن ولا تحدّد لهن سقفهن. ممارسة سياسة حرّة قادرة على إدراك القوّة الهائلة التي تحملها الهشاشة المنبعثة من حكاياتنا الشخصيّة.

 ملحوظة لعِلم الرجال

لن نقدّم براهين وطنيّة لأحد بعد اليوم. تستطيع النساء، وتريد، تعريف ما هو “منطقيّ” و”عقلانيّ” و”عمليّ”، وستبدأ الحكاية من عندنا. أما المتهور وغير العقلانيّ فهو التعامل مع فلسطين كقضيّة معدومة الحساسيّة الشخصيّة وفيّة لشعارات كبرى لا لألم الناس وقصصها.

إن التحرّر من العنف رديف لما يمكن تقديمه من سياسة تحرّرية بعد سنوات كنّا نعمل خلالها دون كللٍ ضدّ الاستعمار، ثم نتوارى غير واثقات خلف رجال يصكّون مقولات في السياسة والتنظيم، لا تلامسنا ولا تلامس واقع النساء، بل وأثبتت التجربة أنها لا تلامس الأغلبيّة الساحقة من أبناء وبنات شعبنا. لقد عشنا هذا العنف في الأطر السياسيّة: فالعنف ليس ما تعيشه أخريات في بيوتهن أو شوارعهن المعتمة فقط، إنما هو بيننا، لسنوات عانينا فيها من الذعر والتهديد والنفي والكبت داخل منظومات عنيفة ومع رجالٍ عنيفين أو صامتين اتجاه العنف الذين يعرفونه ويشاهدونه. 

ناضلت النساء لأجل التحرّر الوطنيّ في عوالم يهيمن عليها الرجال من أصحاب الامتيازات -حركاتنا وأحزابنا وفصائلنا ومنظماتنا وجمعيّاتنا- وفيها كلّها عشنا سيرورات اعتداء بعضها جنسيّ وكلاميّ مباشر، وبعدها سيرورات أعمق لا تقلّ عنفاً، من “التهذيب” الذي حاول ترويضنا، كما روّض التحرّر إلى ممارسةٍ سياسيّة آليّة.

أما اليوم فسنحاول ونجتهد وقد نخفق (ما أجمل أن يكون لدينا الحقُّ بأن نخوض تجاربنا وبأن نخفق)، وأفضل ما يمكنكم أن تقدِّموه لنا إن كنتم شركاء حقيقيين في هذا النضال هو أن تصغوا وتفهموا ما عشناه ونعيشه وأن تدركوا موقعَكم من ذلك كلّه، وهذا يعني أن تستخدموا امتيازاتِكم لخوض معركةٍ خلفنا، وهي معركة قد تدفعون فيها أثماناً باهظة. وهذا يعني كذلك ألاّ عليكم أن تُسائلونا نحن. لم نعد نسمح بهذا. بل نشير عليكم أن تسائلوا أنفسكم والرجال الآخرين، وأن تدركوا أن المساءَلة الوحيدة التي ندين بها اليوم؛ المسؤوليّة الوحيدة والالتزام الوحيد، هو تجاه من عاشوا منفيّات ومنفيين في الهوامش.