جنديان يمسكان أسيراً كأنما يجرّان ظلاً منهكاً لا جسداً، مقيّد اليدين، ومعصوب العينين، تغطي الكدمات ملامحه، يترنّح بين أيديهما لا تعباً فقط، بل من متعة ساديّة ينهلونها من عجزه، ثم يقذفانه في شاحنة مفتوحة كما تُقذف أكياس الطحين، بلا رحمة، بلا اكتراث، بلا حتى لمحة اعتراف بإنسانيته.
صُنعت شاحنة "البوسطة" التي تنقل الأسرى، لتحمل 20 جندياً، ولكن تتكوّم فيها أكثر من 100 روح مقيدة، كأنما جُمعت قسراً في سرداب ضيق موحش. لتتحول إلى نعش جماعي، ينقل الأسرى من جحيم إلى جحيم، ويُشكل اختباراً جديداً للروح، يُقاس فيه مدى قدرتها على الصمود دون أن تنكسر.
يقود الشاحنة وحش يمسك المقود، ينهش الطريق بنهم، ويتعمّد المرور فوق الحفر كأنّها أفواه العذاب تبتلع الأجساد المتكوّمة، فتتطاير الأجساد المقيدة ثم تهوي أرضاً، تسقط معها بقايا الروح، وتنكسر العظام كما تنكسر الكرامة على عتبات اللا مبالاة.
من يسقط لا يقوم، فكيف ينهض ويداه مقيدتان خلف ظهره؟ يظل ملتصقاً بأرضية الشاحنة، يتلقى الأقدام فوق جسده، كأنّه عتبة منسية في ممر الذلّ، تُداس مع كل اهتزاز، مع كل ارتجاج، مع كل حفرة جديدة. تمرّ الدقائق كالأعوام، والزمن يتثاءب فوق ظهره، حتى تصل الشاحنة إلى محطتها، ويسدل الستار على أول فصلٍ من مسرحية الموت البطيء.
عندما تُصبح رقماً
يُنقل الأسرى مرة واحدة فقط من غزة إلى داخل الأراضي المحتلة، حيث لا أرض تُنصت، ولا سماء تُبصر. بعدها يُسلَّم الأسرى إلى وحدة خاصة في جيش الاحتلال تقتات من وجع الضحية، ولا تجيد سوى لغة الإذلال.
تبداً رحلة العذاب، عندما يناديك السجان برقمك داخل السجن، ويقرع جرس إنذار أبواب الخوف في قلبك - الرقم هو اسمك في هذا العالم المطمور، هو الهوية التي ألبسوها لك حين جرّدوك من اسمك، من وجهك، من ذاتك - وحين تُنادى، تعلم أن موعدك مع "النقل" قد حان، لكن لا أحد يخاف الوجهة، فالوجهات كلها واحدة سواء كانت عيادة السجن، أو قاعة محكمة، أو زنزانة أخرى.
تحرص "وحدة النقل" على أن تقيد الأسير جيداً قبل إخراجه من زنزانته، يداه مكبلتان بأصفاد حديدية خلف ظهره، لا تدع مجالاً للحركة، ولا فسحة للراحة. ثم تُربط عصبة سوداء بشدة فوق عينيه، وتقيَّد قدماه بسلاسل تشبه ما يُشدّ به الأسرى في مواكب الإعدام.
اقرؤوا المزيد: صلاة بأطراف الرموش في "سدي تيمان"
ثم يبدأ التعذيب الجماعي، ويتعاون الجنود في مشهد إذلال طويل، هذا يركلك في وجهك، وذاك يضرب صدرك، وثالث يُسقطك أرضاً، ورابع يتلذذ بصعقات كهربائية توجّه إلى جسدك الذي لا حول له ولا قوة، وخامس يهوِي بهراوته على رأسك كمطرقة تُسكت الحياة فيك، وسادس ينهال عليك بوابل من الشتائم، وسابع يضع قدمه بين قدميك ليُعرقلك عمداً، كأنك لست إنساناً يُنقل، بل جسدٌ يُقدَّم قرباناً لشهية الجنود المفتوحة على التلذذ بالألم.
في ممرات السجن لا يُرافقك أحد، الكلّ يشترك في تمزيقك، وكلّ خطوة نحو الحافلة هي حفنة من العذاب. وما إن ينتهي الممر الطويل، ويُفتح لك باب الحافلة، حتى تظن واهماً أن بإمكانك التقاط أنفاسك، لكن الحقيقة أن ما مضى لم يكن إلا المقدمة، وما ينتظرك داخل الحافلة هو عين الجحيم.
تصل بالكاد إلى "البوسطة"، تتهاوى خطواتك من أثر الركل والضرب والدوس على السلاسل التي قيدت قدميك، تلك التي حرص الجنود على دوسها كل بضعة أمتار، وكأنّ سقوطك في الطريق هو جزء من الطقوس.
صندوق الجزار
في الحافلة الشاحبة، مقاعد تآكلت من فرط ما شهدته من صرخات، فيها جنود أكثر من عدد الأسرى، يفتحون صندوقا معدنيّا داخل الحافلة، يشبه صندوق أدوات الجزار، يضمّ هراوات، عصياً معدنية، وأدوات صعق كهربائي، ومخزوناً هائلاً من الشتائم، ويعلنون بدء التعذيب. فهنا، لا رقابة، ولا قانون، ولا شاهد سوى الجدران الصامتة.
وما إن تُدار عجلة القيادة حتى يُعلن البدء عن حلقة أخرى من الألم المركز، تتوزع أدوارها بين الجنود، ويُقدَّم فيها جسدك هدفاً يتسابقون على تمزيقه، في حافلة ليست وسيلة نقل، بل قبو تعذيبٍ متحرك، تدور عجلاته على صراخ لا يسمعه أحد.
يغلق الجنود أبواب شاحنة "البوسطة"، لعزل الأسير الذي يُنزع من مقعده، ويُسحب أرضاً كالخرقة البالية، تُثبَّت قدماه تحت المقعد، وتسلط الكهرباء على جسده، كل صرخة تُقابل بضحكة، وكل ارتعاشة جسد تُستدعى فيها صاعقة جديدة، يُدلق عليه الماء البارد في عزّ الشتاء، ثم تبدأ حصة الركل التي لا تنتهي، الشتائم هنا تنهال كالسياط، بعضها يخترق كرامتك، وبعضها يمس دينك، أمك، اسمك، وجودك كله.
اقرؤوا المزيد: وحوش بزي أطباء.. شهادتي عن سجن "سدي تيمان"
ويتعمد الجنود في بعض الأحيان، إدخال كلب مدرب إلى الحافلة، يطلقونه على الأسير المقيد، ينهش ذراعه، أو يعض فخذه، بينما الجنود يلتقطون الصور للذكرى، كأنهم يصطادون فريسة نادرة، وجودك في الحافلة ليس نقلاً، بل طحنٌ متعمد للكرامة، وامتحان يوميّ لقدرة الجسد على الموت، ولكن دون أن يموت.
ما يُرعب الأسرى حقاً ليس المكان بل الطريق إليه، الطريق التي لا تُقاس بالكيلومترات، بل بمقدار ما تُسلب فيها من نفسك، وما يُهدر فيها من إنسانيتك، وما يُزرع في جسدك من وجعٍ جديد، إن وصلت حياً، فقد كُتب لك عمرٌ إضافي، لكنه عمرٌ لا يُحتفى به بل يُندب، عمرٌ تتمنى دائماً لو أنه لم يُمنح لك.
تشريف بلا شرف
وما إن تتوقف الحافلة حتى تظن أنك وصلت إلى شاطئ النجاة، لكن الحقيقة ليست كذلك، إنما هو اكتمال لحلقات التعذيب المستمرة، وفصل جديد اسمه "التشريف".
لفظة واحدة تُخفي خلفها سعيراً كاملاً، يُستقبل فيها الأسير عند نقله من قسم إلى آخر أو من سجن إلى آخر، فبعد أن تنجو من جحيم الحافلة يتلقفك لظى "التشريف"، فبمجرد نزولك من الحافلة تقودك أقدامك المرتجفة نحو حلقةٍ أخرى من الموت، ليس بالموت الذي يُفضي إلى الراحة، بل موتٌ متكرّر.
"التشريف" كما يسمونه، لا يحمل من الشرف شيئاً، بل يُسقِط عنك ما تبقى من كرامة، ينهالون عليك بالضرب من اللحظة الأولى، وتُصفع، وتُركل، وتُضرب بالهراوات على أعضائك المصابة والمكسورة، ويسكب الماء المغلي على جسدك لتُفتَح مسامات الألم أكثر. تتبع ذلك صعقات كهربائية تسري في عروقك كأنها النار، ويُمزق جلدك بأدوات حادة، كي يتركوا توقيعهم على جسدك قبل أن يرحلوا.
اقرؤوا المزيد: الناجي من جحيم "سدي تيمان"
"التشريف" ما هو إلا فصل الختام في ملحمة الذلّ، يُطبع على جسدك قبل أن تُودَع زنزانةً أخرى، كأنك قُذفت من موتٍ إلى موت، دون أن تمرّ بالحياة.
هذه ليست حكاية تُروى لتأجيج الأسى، ولا جرحاً يُعرض من أجل البكاء على أطلاله، بل هي شهادة، كُتبت من شظايا العظام، ومن لحمٍ مزّقته سياط السجان، لتكون صوتاً لمن لا صوت له.
وكل ما قرأتموه هنا، ما زال يحدث الآن، في هذه اللحظة على أجساد من هم أحياء في الظلّ، غرباء في ذاكرة العالم، أسرى يقاسون الجحيم يوماً بيوم، وليلةً بليلة، دون أن يلتفت إليهم أحد.
لهذا نكتب، لا لنُحيي الألم، بل لنُبقي الأمل، نكتب لأن الصمت خيانة، ولأن الوقوف إلى جوارهم أقل ما تفرضه علينا إنسانيتنا، نكتب حتى لا يظلوا وحدهم في العتمة، وحتى يعرف العالم أنه خلف كل رقم في السجن، روح تنزف وتنتظر من يُنصت، كونوا أصواتهم، فثمن الصمت أن يُمحى وجودهم من الذاكرة، كما تُمحى أجسادهم بالهراوات.