18 سبتمبر 2025

رسالة إلى بيتي العزيز في غزة 

رسالة إلى بيتي العزيز في غزة 

إلى بيتي العزيز،

أكتب عنك بدموع عيني، وكل ركن في الذاكرة ينفض الدمار والغبار الذي افتعله الاحتلال الإسرائيلي في أركانك.

"الله يعوضنا خير فيك يا بيتنا". كانت أولى الكلمات التي نطقتها حين شاهدتك، يا بيت العمر والذكريات، بطوابقك الأربعة منسوفاً وغائراً أسفل الأرض، بلا أي أثر لوجودك ولا لذاكرتنا فيك، بعدما دمّرتك قوات الاحتلال التي دخلت حي الزيتون في 30 حزيران/ يونيو 2025، فمحَت معالمك وجرفت أشجار زيتونك.

سنرجع يوماً

على مدار 30 يوماً عشنا أطول نزوح بعيداً عن جدرانك الدافئة، لم تفارقني صورتك ولو لحظة. لطالما تهورت وحاولت تغيير اتجاه الطريق للعودة إليك، لكن حال دون ذلك صوت الأحزمة النارية وقذائف المدفعية وشظاياها التي كانت تتساقط ككتل اللهب من السماء. كنت أراقبها وأردد: "يا نار كوني برداً وسلاماً على بيتنا وعلى حارتنا والمستضعفين في غزة".

وكعادتها، كانت أمي تحاول زرع الطمأنينة في روحي قائلة: "سنرجع، لن يطول الغياب"، فيما الدموع تغسل مقلتيها. لكن سرعان ما توالت الأنباء السيئة؛ بأن جنود الاحتلال اتخذوك ثكنة عسكرية، ثم أحرقوك وفجروا الحارة بالروبوتات المفخخة، فيما جرفت الدبابات أراضي الزيتون المقابلة لك. ذرفنا الدموع وتواصينا بالصبر، وأوهمنا أنفسنا أن أعمدتك ما زالت واقفة، وأننا سنعود لنلوذ بك بعد انسحاب الاحتلال.

اقرؤوا المزيد: هكذا نجونا من مجازر حي الزيتون

وحين انسحب جيش الاحتلال جزئياً من حي الزيتون في الأول من آب/ أغسطس، وصلت الحارة برفقة شقيقتي إيمان. للوهلة الأولى همسنا: "أضعنا الطريق" التي شهدت طفولتنا ومدارسنا وجامعتنا وخطوات عملنا. لم نجد من معالم الحي سوى وجوه الجيران المبللة بالدموع وصوت صراخهم ودعائهم بالانتقام.

صفحات من المصحف نجت من تفجير المنزل. (تصوير: أميرة نصار/ متراس)

بخطوات ثقيلة، كنت أصعد فوق الركام والأنقاض. وصلت حارتنا، ولم يبقَ منك يا بيتنا سوى سطحك المحترق الذي تعلوه أصص ريحان ونعناع ميتة، مكسوة برماد البارود والشظايا الإسرائيلية. هناك تناثر المصحف الشريف محروقًا على السطح، مفتوحًا على آيات: "إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ"، و*"نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ"، و"الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ". كانت هذه الآيات طمأنةً روحية أوقفت دموعي وهدأت رجفة قلبي، فيما لعنت في سري وعلني ما اقترفه الاحتلال الإسرائيلي، وقد محا كل أثر لك.

كنت حياتي كلها

لم تكن يا بيتنا مجرد أربعة طوابق بحجارة متراصة، بل كانت كل خطوة فيك تحكي قصة: فرحة عرس، دمعة عزاء، طبق فاحت رائحته الزكية فيك في يوم جمعة جامعة، قطع أثرية متوارثة من أثواب جدتي المطرزة بأناملها، وفناجينها الإنجليزية والصينية التي رافقت مناسباتها السعيدة.

كنت حياتي كلها: بهدايا السفر، ملابس الطفولة، شهادة الجامعة، والأوراق الثبوتية. بغرفتي وسجادتها الحمراء، برواياتي التي تجاوزت 300 رواية، بكؤوسك الملونة وستائرك التي احتميت خلفها من الضربات الإسرائيلية. حتى حين دخل الجنود شوارعنا، لم يفصلنا عنهم سوى جدرانك التي صدت عنا الشظايا.

اقرؤوا المزيد: رعب اسمه: حقيبة الطوارئ

ولا تزال يا بيتنا تسكنني بشجرة التين في ساحتك، ودالية العنب، وشتلات النعناع والريحان التي اقتسمنا أوراقها في المجاعة الأولى فأنقذتنا من الجوع. تسكنني بصوت دعاء أمي، وباستضافتك لأقارب وجيران فقدوا بيوتهم في حرب الإبادة. وحتى حين نزحنا سريعًا دون وداع، كان عقلي يخبرني أني سأعود لاحتضان جدرانك كما في المرات التسع السابقة. لكن هذه المرة عدت إليك أنقاضاً.

أما الآن، وقد فقدتك، أسأل نفسي: ماذا يعني البيت؟ لماذا كل هذه الدموع حين يُهدم؟ أجد أنه الحضن الدافئ، والذراعان اللتان تمسدان جراحنا اليومية. وهو امتداد لنكبة أجدادنا؛ حين سرق الاحتلال بيت جدي وأرضه في "بيت دراس"، مجبرًا إيّاه على النزوح إلى غزة حاملاً بطاقة الأمم المتحدة الموصومة بكلمة "لاجئ". بيت يُبنى من جديد، فتعود "إسرائيل" لتهدمه وتهجرنا بالقوة، لنورّث لقب "لاجئ نازح" جيلاً بعد جيل.