أسطورة الحماية الإسرائيليّة للفلسطينيّين المثليّين والمثليات أو المتحوّلين والمتحوّلات جنسيّاً واستقبالهم كلاجئين ليست جديدة. إلّا أن حدثين مختلفين وقعا في الشّهور الماضية، أوصلا خطاب "الحماية" الإسرائيليّ إلى ذروته. حادثان جعلا طرح الموضوع على الطاولة وفضحه، والإشارة إلى السّياسات الاستعماريّة العنيفة الكامنة خلفه، أمراً في غاية الضرورة.
نهاية شهر يوليو/ تمّوز، طُعن فتى فلسطينيّ من بلدةٍ فلسطينيّةٍ في الأراضي المحتلّة عام 1948 بيد أخيه، وأصابه إصابةً خطيرةً نُقل إثرها إلى المستشفى. وقعت هذه الجريمة بالقرب من ملجأ في تل أبيب يستقبل فتيةٍ مثليين ومتحولين يعانون ضائقةٍ أو يتعرّضون لخطرٍ بسبب ميولهم الجنسيّة أو هويتهم الجندريّة. بعدها، وفي شهر أغسطس/ آب، نشر المتحدّث باسم شرطة السّلطة الفلسطينيّة بياناً يُعلِنُ فيه عن منع أنشطة مؤسسة القوس، وملاحقة القائمين عليها.
ردّاً على الأحداث التي وقعت أعلاه، وبطريقة تكشف عن العقليّة الاستعماريّة "المنقِذَة" وحاملة الوصاية؛ شعرت مجموعةٌ من المؤسسات الإسرائيليّة بضرورة التحرّك للحدث وظهروا في الإعلام الإسرائيليّ متحدّثين عن الموضوع، كما نُظِّمَت مظاهرةٌ مندّدةٌ بحادثة الطّعن ورهاب المثلية. الأنكى من ذلك أن المؤسسات الإسرائيليّة ذاتها عقدت "اجتماعاَ طارئاَ" لمناقشة سبل العمل في أعقاب بيان الشّرطة الفلسطينيّة. ولتكتمل المسرحيّةُ الكوميديّة، دعت المؤسسات الإسرائيليّة مؤسسةَ القوس للمشاركة في الاجتماع!
صناعة لجوء الفلسطينيّين الكويريين تحت أسطورة "الحماية" الإسرائيليّة ليست إلّا جانباً آخر من السّياسات الاستعماريّة العنيفة تجاه الفلسطينيّين بشكلٍ عام، والفلسطينيّين الكويريين بشكلٍ أخصّ.1 "كوير"(Queer): هو مصطلح يضمّ مختلف التوجّهات الجنسيّة والجندريّة المُتعدّدة، كما يشكّل اليوم توجّهاً سياسيّاً يُشير إلى نُشطاء يُخالفون السلطة والمنظومة الاجتماعيّة السائدة تقوم هذه الأسطورة على مقولة بسيطة: "يعيش الفلسطينيون الكويريون في مجتمع متخلف وهمجي وهم في خطر دائمٍ، وعلينا كإسرائيليين متحضّرين حمايتهم من مجتمعهم وإنقاذهم منه".
يُتَرجم هذا المعتقدّ المتجذّر في العقليّة الاستعماريّة الإسرائيليّة إلى إجراءات على أرض الواقع، تتجسّد غالباً من خلال تشجيع المثليين والمتحوّلين، من الضفّة الغربيّة والقدس غالباً، على التوجّه إلى أراضي الـ48، وبالتحديد في تل أبيب، للإقامة هناك، وتحوّلهم إلى لاجئين من مجتمعهم، "تحميهم" دولةُ الاستعمار.
مسار الخذلان
يمكن التمعّن في قصصٍ عديدةٍ لفلسطينيين خاضوا سيرورات اللجوء أو "الهرب" إلى "إسرائيل". 2 إضافة إلى العمل على أرض الواقع، يمكن التعرّف على أسطورة الحماية وصناعة اللجوء ببساطة من خلال الإنتاج الثقافي الإسرائيلي سواء أكان الصحافي أو السينمائي. حيث تزخر الصحافة الإسرائيليّة والعالميّة بعشرات القصص والموادّ التي تتشابه حدّ الضحك، والتي تتناول قصص لفلسطينيين حياتهم معرّضة للخطر، فيلجأون إلى "ملاذهم الآمن" في الكيان الصهيوني. إضافة إلى إنتاجات سينمائيّة كثيرة في العقدين الأخيرين، منها ما هو روائي مثل The Bubble أو Out in The Dark، ومها ما هو وثائقي مثل The Invisible Men.ويمكننا بسهولة تتبّع هذه السيرورة؛ تبدأ بأن ترد إلى مسامع الفلسطينيّ الكويري الذي قد يحيط به الخطر- أو في بعض الأحيان مجرّد عدم الراحة في حياته - معلوماتٌ عن إمكانيّة التوجّه إلى كيان الاستعمار، و"العيش هناك بحريّة وراحة باختلاف الهويّات الجنسيّة والجندريّة"3 لا يناقش المقال إن كان هناك تهديد أو خطر فعلي على حياة الفلسطينيين المتوجّهين إلى الكيان الصهيوني، بل الواقع الذي يحاول المستعمر أن يخلقه والذي سواء كان حقيقياً أم لا يغدو واقعاً في نهاية المطاف، وتداعيات هذا الواقع السياسية والاجتماعيّة على مجتمعنا الفلسطيني.. تتعدد مصادر ورود هذه المعلومات إلى الفلسطينيّين المعنيين؛ سواء كانت من معارف عاشوا أو يعيشون تجربةً شبيهةً أو رغبةً مشتركةً بالهرب، أو من خلال جهودٍ فعّالةٍ لمؤسساتٍ إسرائيليّة تسعى للوصول إلى فلسطينيّين "في خطر"، حسب تعبيرها.
اقرأ/ي المزيد: "الغسيل الوردي".. حين تغدو "إسرائيل" منقذاً".
تتجسّد هذه الجهود الإسرائيليّة بفتح خطوط تواصل عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ، وقد تصل أحياناً إلى إعلانات مدفوعة على غوغل تُشجّع المثليّين الفلسطينيّين على الهرب. تبرز هنا بشكلٍ جليٍّ الجهودُ الفعّالةُ للمؤسسات الإسرائيليّة في استقطاب أشخاص كويريين فلسطينيّين دون أن يقتصر ذلك على الحالات العينيّة لمن يعانون أزمة جديّة.
بعد تواصلٍ بسيط بين الفلسطينيّ المعني والمؤسسة الإسرائيليّة، تبدأ رحلة "اللجوء" من خلال التهريب إلى داخل حدود الكيان في حال كان الفلسطينيّ من الضّفة الغربيّة، أو من خلال التوجه مباشرةً إلى تل أبيب من القدس أو المدن العربيّة في الدّاخل. تحدث المفاجأة بعد ذلك بالاكتشاف بأن الموضوع ليس بالسهولة التي أُوهم بها الفلسطيني، بل هناك معايير معيّنة يجب تحقيقها لإثبات كونه "تحت الخطر" أو ليكون جديراً بالاستقبال في الملاجئ الإسرائيليّة أو المؤسسات المختلفة.
ولا يكون إثبات التعرّض للعنف أو الخطر أمراً سهلاً في العادة، وقد لا تُستوفى "شروط القبول" لتلقّي صفة "لاجئٍ". يزداد الأمر تعقيداً هنا، حيث يتحوّل الفلسطيني إلى "لاجئ غير قانوني" بالنسبة للسلطات الإسرائيليّة، ويتعزّز الدور البطوليّ الذي تلعبه المؤسسات المثليّة الإسرائيليّة بأنّها تحمي الفلسطينيّين الكويريين حتّى وإن كان ذلك مخالفاً للقانون. أمّا إمكانيّة الرجوع إلى عائلاتهم أو البلدان التي "هربوا" منها، فتغدو خياراً شبه معدوم بعد حرق كافّة جسور التواصل مع العائلة، وفي بعض الأحيان بسبب انتباه الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة عن الانتقال ومسائلة الشخص في حال عودته.
كيف بدأت الأسطورة؟
تعود صناعة اللجوء الإسرائيليّة إلى التسعينيات، مع بدء كويريين فلسطينيّين بالبحث عن حيوات مختلفة في المدن الإسرائيليّة الكبيرة. كان من بينهم من يبحثون عن حياة سريّة بعيداً عن مدنهم أو بلدانهم الأصليّة، وبالتالي كانت تل أبيب فرصة مغرية لهم. بعد انطلاق الانتفاضة الثانيّة وما سُمّي "بالفلتان الأمنيّ"، بدأت أعينُ الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة والتنظيمات المختلفة تلاحق من يقطن في الداخل، وكان الكويريّون من بين الملاحقين. استجوبتهم الأجهزة مراراً عن طبيعة حياتهم في تل أبيب، وفي بعض الحالات اتُّهموا بالعمالة واستبيحت حياتهم الشخصيّة. عزّز تدخل الأجهزة الأمنيّة والتنظيمات الفلسطينيّة سردية "إسرائيل" حول قمع الكويريين في فلسطين وملاحقتهم، وشكّلت هذه فرصة ممتازة للمخيال الاستشراقيّ والعقليّة الصهيونيّة، وساهم في خلق رواية محكمة ومغرية للعقل الاستعماريّ حول القمع، وبالتالي الاستثمار في أسطورة الحماية وصناعة اللجوء.
في هذه السنوات بدأت مؤسساتٌ إسرائيليّة عديدة منها "الأجودة" (وهي أقدم وأضخم المؤسسات الإسرائيليّة المعنيّة بالقضايا الكويريّة)، والتي تنظّم برنامجاً خاصّاً لاستقطاب كويريين فلسطينيّين في تل أبيب وحيفا، و"عيادة اللاجئين في جامعة تل أبيب"، ومؤسسة "هياس"، بدأت جميعها بتطوير توّجهات عملٍ مختلفة لـ"مساعدة" المثليين الفلسطينيّين الهاربين ليس فقط من عنف عائلاتهم وإنّما من السّلطة الفلسطينية أيضاً.
أمّا التغيّر الخطير الذي طرأ هذا العام، فكان تأسيس جمعيّة باسم "البيت المختلف" التي يقوم عليها فلسطينيّون يعملون في فلك المؤسسات الإسرائيليّة، ويلعبون الدور ذاته، لكن ضمن مؤسسة "عربيّة". تقول الجمعيّة بشكل واضح إنّها تساعد المثليين الذين فرّوا من منازلهم ومدنهم الفلسطينيّة بسبب تعرّضهم للخطر. تكمن الخطورة في هذه الخطوة بتبرئة المؤسسات الإسرائيليّة من دورها التاريخي في صناعة اللاجئين، وتنقله ليصبح في يدّ وكلاء عرب يحملون مهمّة الغسيل الورديّ، ما يضفي شرعيّةً على هذه الاستراتيجيّة، ويجعلها تبدو "ألطف" على اعتبار أنّها "من العرب إلى العرب"، وليست صادرة عن المؤسسات الإستعماريّة.
واقع "إسرائيل" يُبدّد الأسطورة
حاولت مؤسسات مثليّة إسرائيلية الضغط على وزارة الداخليّة الإسرائيليّة لمنح الكويريين الفلسطينيّين الإقامة لأسباب إنسانيّة. إلّا أنّه بعد سنوات عديدة، وبعد وصول عدة قضايا للمحاكم الإسرائيليّة في هذا الشأن، أقِيمت لجنة خاصة لتوضيح وضع الكويريين الفلسطينيّين. ورأت اللجنة في تقريرها الصادر عام 2014 ألّا وجود لملاحقة ممنهجةٍ ضدّهم في أراضي الضّفة العربيّة، وأن رجوعهم إلى مدنهم وقراهم ممكن.
لا يقتصر الأمر على وزارة الداخليّة والمحكمة العليا، بل يقوّض طموحَ المؤسسات الإسرائيليّة التي تريد "إنقاذ" الفلسطينيين قرارٌ آخر من وزارة الرفاه الاجتماعيّ في السنوات الأخيرة. ينصّ القرار على أنّ الملاجئ المعدّة لاستقبال الأشخاص الكويريين الموجودين في ضائقة لا تستقبل سوى "مواطني الدّولة" ما يضع تناقضاً آخر في التركيبة الاستعماريّة بين ما تريده المؤسسات الإسرائيليّة وما تقوله الأجهزة الرسميّة.
في بعض الحالات تنصح المؤسسات الإسرائيليّة المثليّة الفلسطينيين أن يتقدّموا للمحاكم أو لوزارة الداخليّة بصفتهم أزواجاَ أو شركاء لشخصٍ إسرائيليّ. وفي هذه الحالة يستطيع الإسرائيليّ تقديم طلب لوقف الترحيل، وفي هذه الحالة فقط يمكن أن يبقى الفلسطينيّ في الداخل، دون أية إمكانيّة للعمل أو فتح حسابٍ بنكيّ أو قيادة سيّارة وغيرها من ضرورات الحياة. أيّ أنّه حتى في حالة كشف أشخاص مقيمين "بشكل غير قانوني" فإن بقاءهم منوط بالإسرائيليّ. ويؤدّي هذا الارتباط القسري للأسف إلى الكثير من حالات الابتزاز النفسيّ أو حتى العاطفيّ والجنسيّ، على اعتبار أن "حياة الكويري الفلسطيني معلّقة بيد شريكه"، ما يضاعف من حالة الخضوع والسيطرة.
العنف الكامن في الأسطورة
تقوم أسطورة الحماية وصناعة اللاجئين هذه على عدّة أعمدة، لا شكّ أن أبرزها هو العقليّة الاستعماريّة المتوهّمة فعلاً أن دورها إنقاذ المستعمَر وحمايته. بالإضافة إلى ذلك، يجب ألاّ نغفل عن الجانب القصديّ من هذه السياسات والذي يرتبط بسياسات التمويل وتخصيص الميزانيّات في مؤسسات الاستعمار وأجهزته، وبالتالي قد تشكّل مشاريع كاستقبال ومساعدة لاجئين فلسطينيين فرصةً ممتازةً للتمويل والحصول على الميزانيّات من مؤسسات مختلفة سواء كانت حكوميّة مثل ملاجئ الفتية والمراهقين، أو مؤسسات خاصّة؛ حتّى أثار انتباهنا خلق حالة من التنافس بين هذه المؤسسات للقيام بهذه المهمّة.
إلّا أنّه وبغضّ النّظر عن النوايا والدوافع التي تنطلق منها هذه السياسات، يبقى المهم خدمتها لسرديّة الغسيل الوردي الاستعماريّة العنيفة، التي تُشعِر المستعمِر بالتفوّق الدائم على المستعمَر بل و"حمايته وإنقاذ حياته"، واستخدام ذلك في دعاية "إسرائيل" العالميّة وترويجها لنفسها دوليّاً كحاميةِ الحقوق والحريّات في المنطقة. أمّا الأهمّ فهو ما تنعكس عليه هذه السياسات من أثر على المجتمع الفلسطينيّ بإعادة إنتاج فكرة أن قضايا التعددية الجنسيّة والجندريّة هي خارجة عن المجتمع الفلسطيني ومرتبطة بالاستعمار، وعلى الأشخاص الكويريين الفلسطينيّين بشعورهم بالعزلة والاغتراب عن مجتمعهم، وبناء صورة من انعدام إمكانيات الحياة بين عائلاتهم وأصدقائهم، وتحوّل علاقتهم مع الكيان الصهيوني من علاقة مستعمِر- مستعمَر إلى علاقة منقِذ - ضحيّة. الكيان الإجراميّ الذي أسس وجوده على تهجير مجموعة كاملة من السكّان وتحويلهم لاجئين على مدار أكثر من سبعة عقود، مستمرّ في صناعة أشكالٍ مختلفةٍ من اللجوء.
كما تنعكس هذه السياسات على النظرة المجتمعيّة او التعاطي الشعبيّ مع المؤسسات الكويريّة الفاعلة. في ظل الصورة التي شكّلتها المؤسسات الإسرائيليّة، يغدو التوقّع من الكويريّين الفلسطينيين لعب الدور ذاته، وتُقيّم مؤسساتنا بحسب إن كنّا "ننقذ" أشخاصاً يعيشون في خطر ونساعدهم في الحصول على تصاريح وإقامات أو حتّى هجرة إلى الخارج. ليست هذه رؤية المؤسسات الكويريّة الفلسطينيّة، إنما هي تحمل مفهوم الحماية الشعبيّة، وتهدف إلى خلق مساحات مجتمعيّة فلسطينيّة تستوعب التجارب الجنسية والجندريّة المختلفة. على المجتمع الفلسطينيّ، ومؤسساته خاصةً، أخذ مسؤوليّة ولعب دور في مجابهة الاستعمار وغسيله الوردي، وذلك يكون بفتح مساحات واحتواء التجارب الجنسيّة والجندريّة على اختلافها.
يُنشر هذا المقال ضمن تعاون بين متراس ومؤسسة القوس للتعددية الجنسية والجندرية.