أصدر الرئيس الفلسطينيّ محمود عبّاس مطلع مارس/آذار الجاري قرار بقانون رقم (7) بشأن الجمعيات الخيريّة والهيئات الأهليّة، يُعدّل فيه بعضَ مواد القانون الأصليّ الخاصّ بالجمعيات بصيغةٍ تمنحُ السُّلطة الفلسطينيّة مزيداً من الصّلاحيات في إدارتها لنشاط المجتمع المدنيّ، وهو ما رفضته المؤسساتُ واعتبرته تغوّلاً على عملها.
شملت التعديلات الأخيرة بنوداً عديدة، أبرزها: إلزام المؤسسات بتقديم خططِ عملٍ لكلِّ سنة جديدة تنسجمُ مع خطط الوزارات المختصة، وإلزام المؤسساتِ بعدم تجاوز الرواتب والمصاريف التشغيليّة لها نسبة 25% من إجمالي ميزانيتها السنويّة. فضلاً عن إضافة بند يمنح وزارة الداخليّة صلاحياتِ تصفيّة ممتلكات المؤسّسات المنحلّة.1يُقصد بالتصفية مجموع إجراءات وعمليات تسوية الحسابات المالية وحقوق الشركة أو المنظّمة المنحلّة وسداد وتحصيل ديونها وبيع أصولها حتى تنتهي من الوجود قانونيّاً. كما تشمل التعديلات إلزام المؤسسات بتقديم موازنة تقديريّة لكلّ سنة، ودفع رسومٍ على أيّ طلبٍ تُقدّمه لوزارة الداخليّة.
وقد بدأت فكرة إجراء تعديلات على هذا القانون عام 2017، حين رفعت وزارةُ الداخليّة مقترحاً بذلك. لاحقاً، شكّلت الحكومةُ لجنةً لصياغة ودراسة التعديلات، والتي طرحتها لأول مرّة على مجلس الوزراء عام 2018، إلى أن أُقِرّت بصيغتها النهائيّة هذا الشهر.
ماذا تعني التعديلات الأخيرة بالضبط؟
تُتَرجم الموادُ المعدّلة في القرار بقانون على أرض الواقع بأشكالٍ عديدة، لا يقلّ أحدُها سوءاً عن الآخر. تحمل تلك التعديلاتُ آثاراً يمكنها تضييقُ مساحاتِ واتجاهاتِ عمل المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ المقدّر بأكثر من 4600 مؤسّسة، وإعاقة أنشطته، واستكمال حلقات ضبطه ليسير وفق مزاج وأجندات السّلطة الفلسطينيّة بشكل تام.
من خلال البند الذي يُلزم المؤسسات بتقديم خطط عمل سنويّة "منسجمة مع خطّة الوزارة المختصّة"، تتحول المؤسساتُ إلى دمىً شبه حكوميّة فاقدة للاستقلالية ومرهونة لخطط السّلطة وسياساتها التي قد لا تتفق معها هذه المؤسساتُ بالضرورة. على سبيل المثال، فإنّ المؤسسات المهتمة بالشأن الزراعيّ مُلزمةٌ بتقديم خططها السنويّة بما يتواءم مع خطط وزارة الزراعة، وليس وفقاً لبرامجها وتوجهاتها التي قد تكون معاكسة تماماً للتوجه الحكوميّ ومساحات العمل المريحة للسلطة، أو التي قد تكون على الأقلّ معنية بسدّ النقص والعجز في جوانب لا تغطيها الحكومة ولا تضعها ضمن أولوياتها.
وكذلك الحال بالنسبة لمؤسسات حقوق الإنسان، فعليها وفقاً للتعديل أن تُقدّم خططاً منسجمةً مع خطط وزارة العدل، ويمكن للمرء أن يتساءل في أبسط الأمثلة كيف يمكن لمؤسسة حقوقيّة مثلاً العمل على مناوئة قانون الجرائم الإلكترونيّة، وهو القانون الصادر عن الحكومة التي يجب أن ينسجم عملُ المؤسسة - وفق القانون الجديد - مع خططها وتوجهاتها.
ومن ناحية أخرى، فإنّ إلزامَ المؤسسات بتقديم تفاصيل حول أثر نشاطاتِها وخططها المنفّذة غير واضح، وقد يحوّل الحكومةَ إلى قاضٍ يحكم بالفشل والنجاح على نشاطات المؤسسات. ومن الممكن أن يجعل ذلك بعض المؤسسات عرضةً للابتزاز من خلال إمكانية تقييم عملها بناءً على مدى خضوعها للسلطة من عدمه.
من يوافق عليه الأمن يحصل على التمويل
أما فيما يتعلق بتحديد نسبة المصاريف التشغيليّة وأجور العاملين بما لا يتجاوز ربع الميزانية السنويّة، فتدّعي السّلطة الفلسطينيّة، في معرض دفاعها عن هذا التعديل، أنّ معظم إيرادات المجتمع المدنيّ يجب أن تتحوّل إلى أنشطةٍ إنتاجيّة. يتغاضى هذا الادعاء عن أنّ طبيعة عمل غالبية هذه المؤسسات تقوم على تنفيذ أنشطة وتقديم خدمات غير ماديّة. المؤسسات الحقوقيّة مثلاً تُنتِجُ تقارير دوريّة، وتوثّق الانتهاكات، وتُجري تدريباتٍ ومرافعات في المحاكم، والمؤسسات المهتمّة بالشأن الصحّي تقدم خدماتِ رعايةٍ صحيّة وطبابة، والمؤسسات التعليميّة والتدريبيّة تقدّم خدماتٍ وتنفّذ أنشطةً غير منتجةٍ ماديّاً، والمؤسسات الثقافيّة كذلك الحال. ولذلك فإنّ نسبة التكاليف التشغيليّة والرواتب تحتل من موازناتها النصيبَ الأكبر.
في ضوء ذلك، يتوقع البعض أن يؤدّي هذا التعديل - في حال لم يتم التراجع عنه - إلى تسريح نسبة كبيرة من موظّفي وموظّفات هذه المؤسسات وعددهم الإجماليّ حوالي 40 ألف شخص، وإغلاق بعضها. في المقابل، فإنّ ما تنهى عنه السّلطة لا تستطيع تطبيقه هي، فنسبة المصاريف التشغيليّة والأجور تصل إلى 95% من مجمل الميزانيّة العامّة للسلطة نفسها، بل إنّ أكبر شركات القطاع الخاصّ التي تهدف إلى الربح حصراً تتجاوز تكاليفها التشغيلية نصف موازناتها.
وفيما يخص الهبات والتبرعات، تشير التعديلاتُ الأخيرة إلى أنّ الحكومة ستُصدِرُ نظاماً خاصّاً لتنظيم آليات وسبل جمع التبرّعات لصالح المؤسسات. يعني ذلك أنّ الحكومة ستتحكّم بسيل التبرّعات وتقرر بشأن قبولها أو رفضها، وهو الأمر الذي تخبرنا التجارب السابقة أنّه خاضع لرضى السلّطة عن المؤسسات وطبيعة نشاطاتها. يُضاف هذا إلى الضغوطات الإسرائيليّة وحملات الدعاية التي تقودها دولة الاحتلال ضدّ بعض المؤسسات الفلسطينيّة من جهة، وإلى ضغوط الاتحاد الأوروبيّ واشتراطه "نبذ الإرهاب" للحصول على التمويل المطلوب.
اقرؤوا المزيد: "الاتحاد الأوروبيّ وشروطه الجديدة.. المزيد من محاصرة الفلسطينيّين"
كذلك منحت التعديلات الأخيرة وزارة الداخليّة صلاحيات تصفية المؤسسات المُنحلة، وهي صلاحيات لم يتضمّنها النصُّ الأصليُّ للقانون الذي أتاح للوزارة فقط تعيين مُصفٍّ لها.2يقصد بحلّ المؤسسة إنهاء ووقف أعمالها ونشاطاتها دون زوالها، وفي المرحلة الثانية تحال للتصفية من خلال الانتهاء من بعض الإجراءات القانونية حتى تزول قانونياً وعملياً من الوجود. وفقاً للتعديل، يمكن لوزارة الداخليّة تصفية أي مؤسّسة تُحلّ وتحال للتصفية وحسم العملية بأسرع وقت بدلاً من المرور بإجراءات اختيار المصفّي الذي يمثّل الجهة المُحالة للتصفية، ولربما الدخول بإجراءات قضائيّة تستغرق سنوات. هكذا، يمهّد هذا التعديل إلى تسهيل إجراءات حلّ وتصفية المؤسسات التي لا ترغب بها السّلطة.
حلقة تلو الأخرى.. استكمال عملية الضبط
ليس الأمر بالجديد. سبق أن استهدفت السّلطة الفلسطينيّة المؤسسات الأهليّة والجمعيات الخيريّة بسلسلة من الخطوات. بعد فوز حركة "حماس" في الانتخابات التشريعيّة، وعلى إثر أحداث عام 2007، أعلن عبّاس حالة الطوارئ وأصدر مرسوماً منح بموجبه وزيرَ الداخليّة صلاحيات مراجعة تراخيص المؤسسات الأهليّة واتخاذ إجراءات صارمة بحقها، وإغلاق تلك التي تقوم بـ"نشاطات منافية للقانون". على إثر هذه القرارات، حلّت السّلطة ما يزيد عن 100 مؤسسة أهليّة، جلّها محسوب على حركة "حماس"، وأنهت وجودها ونشاطها في الضفة الغربيّة.
لاحقاً، واجهت السُّلطة "إشكاليات" تتعلّق بكيفية التعامل مع الأموال المُصَادرة والمحجوزة وغيرها من الأملاك غير المنقولة الخاصّة بتلك المؤسسات. ذلك لأن القانون الخاصّ بالجمعيات حتّى ذلك الوقت نصّ على التصرّف بأموال الجمعيات المنحلّة حسب نظامها الأساسيّ، وفي حال لم يُجب نظامُها على ذلك تُحوّل أصولُها إلى جمعياتٍ شبيهة بعملها. للتعامل مع هذه الإشكالية، صدر قرار بقانون آخر عام 2011 بهدف استملاك أموال الجمعيات التي تُحَلّ، من خلال النصّ على صلاحية تحويل ممتلكاتها إلى خزينة السّلطة.
بهذه الطريقة تعاملت السُّلطة مع إشكالية مصادرة أموال الجمعيات دون مواجهة ردّ فعلي جدّي من المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ الذي لم يشعر على ما يبدو بالتهديد في حينه لأنّ الجمعيات المستهدفة محسوبة على تيار سياسيّ محدّد. إلا أنّ التعديلات الأخيرة (مارس 2021) ثبّتت صلاحية السلطة في مصادرة أموال الجمعيات المنحلّة وهو ما ينطبق على كافة مؤسسات المجتمع المدنيّ.
اقرؤوا المزيد: القضاء الفلسطينيّ.. كيف يؤمّن عبّاس نفسه؟
وضمن الخطوات الهادفة إلى إحكام سيطرة السّلطة على المجتمع المدنيّ، أنشأ عبّاس "هيئة شؤون المنظّمات الأهليّة" عام 2012، وهي هيئة حكوميّة تتبع له مباشرة، وتهدف إلى تنظيم وتنسيق عمل المؤسّسات مع الجهات الحكوميّة المختلفة. وفي 2015، شكّل الرئيس لجنةً استشاريّةً تعنى بشؤون الجمعيات الأهليّة، ثم بعدها بقليل بدأ يتناهى إلى المسامع كلام عن إمكانية إجراء تعديلات قانونية تعرقل عمل مؤسسات المجتمع المدنيّ وتعمل على ضبطها. لحق ذلك كلامٌ نُسِبَ إلى رئيس الحكومة الفلسطينيّة في حينه رامي الحمدلله اتهم فيه مؤسسات المجتمع المدنيّ بالفساد والحصول على أموال طائلة.
هل من مزيد؟
لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ. في العام 2015 أقرّت الحكومة الفلسطينيّة نظاماً لتنظيم التمويل والتبرعات والهبات التي تمنح للشركات غير الربحيّة، وهي إحدى الأشكال القانونيّة التي تنتظم تحتها بعض مؤسسات المجتمع المدنيّ.3ظهرت الشركات غير الربحية في فلسطين عام 2008 بعد صدور قرار بقانون آنذاك يعرّف هذا النوع من الشركات، عملها مشابه للجمعيات الأهليّة تهدف إلى تقديم خدمات للشعب الفلسطيني ولا تسعى إلى الربح. بلغ عددها في آخر إحصائية أواخر عام 2016 حوالي 270 شركة. يشترط هذا النظامُ حصول الشركات غير الربحية على موافقة الحكومة للحصول على أيّ تمويل، وقد تُرجم هذا الاشتراط على أرض الواقع باشتراط موافقة الأجهزة الأمنية، وهو ما قد يحدث لبقية المؤسسات وفق التعديلات الجديدة. ومن البديهي أنّ تحكّم السلطة بأموال المؤسسات واشتراط موافقتها عليها يجعل المجتمع المدنيّ عرضةً للابتزاز ويُهَدِّدُ استقلاليتها.
جاءت التعديلات في هذا السياق، وصولاً إلى القرار الأخير هذا الشهر. وبالكاد خرجت التعديلات الأخيرة إلى العلن، حتى أصدر عباس مرةً أخرى قراراً بقانون في تاريخ 5/3/2021 يُرجئ انعقاد انتخابات النقابات والاتحادات والمنظمات الشعبية لمدّة ستة شهور، فيما يبدو محاولةً لحماية حزبه السياسيّ من الانشقاقات والتفرّغ للانتخابات التشريعيّة المقبلة.
لا تبدو التعديلات الأخيرة غريبة عن السّلطة، إذ لا تخرج عن الخط الناظم لسياساتها في إعادة تشكيل الفضاء السياسيّ والمدنيّ الفلسطينيّ بشكلٍ يضمن للرئاسة والحكومة هيمنةً مُطلقةً على كافة مفاصل الحياة، وقمع أي جهة تحمل إمكانيات نقدٍ - مهما انخفض سقفه - للسلطة الفلسطينيّة.
وما استهداف المجتمع المدني إلّا جزء من كل، ضمن سياسات سعت وعملت على تحييد الأحزاب السياسية من خلال القمع والترهيب وقطع التمويل، وملاحقة الحركات الطلابية لتجريدها من البعد السياسي، وترويض النقابات، وحلّ الجمعيات الخيرية، واستهداف لجان الزكاة، وتحييد المجلس التشريعي، وتأمين القضاء الفلسطينيّ، وقمع الحراكات الشبابية وتسخيفها. وأخيراً، استهداف ما تبقى من مؤسسات أهلية ومنع أي إمكانية لتحوّلها إلى رقيب فعّال على سياسات السّلطة، وصولاً إلى استخدامها كأداة لخدمة مصالحها.