"مخابرة هاتفية من يتسحاق نافون – وصل من هيئة الأركان العامة خبر أن حافلة تٌقّل مسافرين كانت عائدة من إيلات بعد يوم 16/3 تعرّضت لإطلاق نار من كمين بالقرب من "معاليه عقرفيم". وهناك قتلى وجرحى. [...] قدّم رئيس الأركان الذي حضر الجلسة [الوزارية] تقريراً. سقط عشرة قتلى. في الرشقة الأولى قتل السائق. وبفضل معجزة لم تتدهور الحافلة إلى أسفل المنحدر الحادّ. انصبّ وابلٌ من الرصاص من جميع الجهات. بعد ذلك دخل بضعة أشخاص إلى الباص، وقتلوا وفتكوا يميناً ويساراً". موشيه شاريت. الأربعاء 17 مارس/ آذار 19541موشيه شاريت. يوميات شخصية. ترجمة عن العبرية: أحمد خليفة؛ راجع الترجمة: صبري جريس. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1996. ص161- 162..
"اتصل لافون هاتفياً وبلّغني بشأن حادث قتل وقع الليلة. هوجم خفيران في قرية كسلون في ممر القدس. قتل أحدهما، وجرح الآخر. سرقت بندقيتاهما". موشيه شاريت. السبت 27 مارس/ آذار 19542شاريت. ص166..
صدمت الدولة، هكذا علّق مصدر صهيوني على الهجوم الذي وثق بعض تفاصيله رئيس وزراء الدولة الصهيونية الوليدة موشيه شاريت يوم 17 مارس/ آذار 1954 كما ورد في الاقتباس الأوّل. لم يكن هذا الحدث استثناءً، فخلال هذا الشهر سيوثّق شاريت كما يظهر الاقتباس الثاني هجوماً آخر بالقرب من قرية كسلا المدمرة غربي القدس. فيما ستوثق المصادر الصهيونية أيضاً إصابة جُنديّ صهيوني على حدود غزة يوم 25 مارس/ آذار 1954. في مؤشّر على فعل عربي مقاوم استهدف الصهاينة في مناطق مختلفة من فلسطين، في الوسط والجنوب وأقصى الجنوب.
هل كان فعل مارس/ آذار هذا هامشيّاً، لكي يُنسى ولا يهتمّ بدراسته عربياً بالحدّ الأدنى!
رغم أنّ الإحصائيات المتعلّقة بالفعل المقاوم قد تكون في كثير من الأحيان مضلّلة، إذ أنّ حدثاً واحداً قد يحدث تأثيرات متعدّدة الأوجه تفوق الكثير من الفعل التراكمي، لظروف كل فعل وسياقه. لكن في دراسة تهميش التأريخ العربي بالحدّ الأدنى للفعل المقاوم خلال الفترة التالية لحرب 1948- 1949 قد يكون مفيداً بيان بعض الإحصائيات التي تبرز قوّة وتأثير هذا الفعل ميدانياً. من ذلك مثلاً الحديث الصهيوني عن مئات الهجمات التي نفذت خلال الأعوام (1953- 1957)، قتل خلالها في العام 1953 ما يقارب 71 صهيونياً منهم 27 جندياً. وقتل في العام 1954 أيضاً 57 صهيونيَا منهم 24 جندياً. فيما قتل عام 1955 ما يقارب 74 صهيونياً منهم 50 جندياً.
قوّة هذا الفعل وتأثيره لم تكن مقتصرة على الميدان، وإنما انعكست بشكل جليّ في الحياة السياسية للكيان الناشئ، فكما تظهر القراءة المتأنية لمحاضر جلسات الحكومة الصهيونية خلال السنوات التالية لتأسيس الكيان الصهيوني، وليوميات وسير شخصيات صهيونية فاعلة أبرزها يوميات رئيس الوزراء الصهيوني موشيه شاريت المشار إليها أعلاه. فإن هذا الفعل كان أحد القضايا الأكثر حضوراً في الحياة السياسية والعسكرية الصهيونية. وكان سبباً لخلافات جوهرية بين تيارات الحكم المتباينة (تيار شاريت – تيار بن غوريون).
لعلّ هذا الحضور كان دافعاً لاهتمام الكتّاب الصهاينة لتأريخ هذه الحرب والعمليات الصهيونية خلالها، ومن أبرز ما دُوّن في هذا المجال نص بيني موريس Benny Morris "حرب إسرائيل الحدودية 1949- 1956: التسلّل العربي، العمليات الانتقامية الإسرائيلية، والعدّ التنازلي لحرب السويس" الذي صدر لأول مرة بالإنكليزية عام 1993، ونصّ شاؤول بارتال Shaul Bartal "الفلسطينيون من النكبة للفدائيين، 1949- 1956" الذي صدر لأول مرّة بالعبرية عام 2009، وهو في الأصل أطروحة دكتوراة قدمت عام 2004 في "جامعة بار إيلان".
تأريخ عربي منسيّ، أو ثانويّ!
"وقد روعي، عند عملية اختيار المادّة، إثبات كلّ ما له علاقة بصلب الموضوعات التي تُشكّل مصادر اليوميات، بينما حُذفت المواد أو الموضوعات ذات الأهمية الثانوية"3شاريت. مصدر سبق ذكره..
دُوّنت هذه الملاحظة في تقديم الترجمة العربية الصادرة عن "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" ليوميات موشيه شاريت المشار إليها أعلاه. ورغم ضخامة الترجمة وأهميتها إلّا أنّها كما يُشير الاقتباس كانت انتقائية لضخامة اليوميات المترجمة. فأهمل ما اعتبر ثانوياً! بحثاً عن الثانوي. وبالعودة إلى النصّ العبري من يوميات شاريت، ستجد في يومية شاريت ليوم الأحد 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1954: "العربيّ من النبي صموئيل ["صمويلي"] -المسؤول عن 17 حالة قتل- صُفيّ"4لمراجعة اليومية كما وردت في النسخة العبرية ينظر النسخة الإلكترونية من اليوميات على الرابط: https://goo.gl/7B4kJ3.. إذن استشهاد الصمويلي وفعله عموماً ثانوي!5التفتت الصحافيّة هنادي قواسمي التفاتة جميلة ومهمّة للشهيد مصطفى عبيد الصمويلي (1925- 1956)، وقدّمت مادة ثريّة من النماذج البكر للاهتمام بهذه الفترة المنسية؛ يمكن قراءتها في موقع "باب الواد". الهايبرلينك في النص..
تختصر كلمات "منسي، ثانوي، مهمل" حضور المقاومة الفلسطينية المنطلقة بعد الإعلان الرسمي عن انتهاء حرب 1947- 1949 بتوقيع آخر اتفاقية هدنة مع سوريا يوم 20 يوليو/ تموز 1949 في النصوص التاريخية العربية. فلا ذكر لأيّ فعلٍ عربي مقاوم إلا كهامش في بعض نصوص السير والمذكرات أو بعض النصوص المهتمة بتأريخ الفلسطينيين في ظل حكم الدول العربية، حكم المملكة الأردنية الهاشمية لبقية فلسطين الوسطى، والحكم المصري لبقية قضاء غزة. وإن حضرت في هذا الهامش بعض نماذج المقاومة وفعلها خصوصاً المنطلقة من قطاع غزة برعاية مصرية رسمية إثر حراك يوليو/ تموز 1952 والتحوّلات السياسية التالية له. فإن فعلاً آخر انطلق من معظم المناطق الحدودية للكيان الوليد بقي طيّ النسيان.
"النزلة" كفعل مقاوم!
الصمويلي لم يكن نموذجاً فريداً خلال سنوات الخمسينيات، وتعجّ كلّ قرية فلسطينية حدودية بحكايا للعشرات من "النزلات" التي عاد فيها المهجّرون أو المصادرة أرضهم من أبناء القرى الحدودية لبلادهم وأراضيهم المحتلة. استهدفت بعض هذه العمليات تنفيذ فعل عسكري مباشر ضد الأهداف الصهيونية المختلفة. كما في عملية "معاليه عقرفيم" وعملية "موشاف كسلون" المشار إليهما أعلاه. لكن، في المقابل، نفذت العشرات من "النزلات" لتحقيق أهداف أخرى، كان الهدف الاقتصاديّ أحدها:
"لقد حاول الكثير العودة لإرجاع بعض ممتلكاته الثمينة من نقود وذهب وملابس، كانت الحياة صعبة جدّاً فلا يوجد عمل للناس أو أي مصدر رزق سوى ما يزرعون من قمح وحبوب، أما اللاجئون فكان الجوع والبرد مصيرهم، وشهدت حلحول في سنة 1949 أكبر "ثلجة" في تاريخها، فقد غطّى الثلج كل أبواب الدور والبلدة بشكل كامل فقطعوا الأشجار وكان [ثائرنا إبراهيم شحدة العالول] لا يقبل هذا الوضع والجلوس مكتوف الأيدي والكل في جوع وحصار. في هذه الأوضاع الصعبة أخذ ثائرنا يفكّر في طريقة لكسب الرزق وكان له رفاق أيام الثورة [العربية الكبرى 1936- 1939] وبدأ مع رفاقه يذهبون إلى قرى فلسطين المحتلّة غرب الخليل لمساعدة بعض الناس الذين تركوا قراهم مُكرهين، ولإحضار بعضٍ من ممتلكاتهم من بيوتهم وقراهم التي تركوها قهراً وبالحرب [...] وكانوا يقومون بجلب الأسلحة والذخائر من مخازن المستعمرات لدعم الثورة ومنظمات فلسطينية ثورية وليستطيعوا العيش وكان في كثير من الأحيان يجلبون الأغنام والأبقار والخيل والبغال إلى الضفة للبيع ليكسبوا زرقهم"6إبراهيم شحدة العالول (إعداد). ثائر من فلسطين شحدة إبراهيم العالول. (عمان: دار أسامة للنشر والتوزيع، 2012). ص84- 85..
يوثّق هذا الاقتباس الذي صيغ بلغة الحاضر، خلاصة تجربة "نزلات" أحد المشاركين في ثورة 1936- 1939 وفي حرب 1947- 1949 شحدة شريم العالول (1909- 1994) كما دوّنها ابنه إبراهيم. ويوثّق النصّ الدوافع وراء فعل المئات من الفلسطينيين من سكان المناطق الحدودية الذين بدأوا بـ"النزلات"، وهو يؤشّر كما العشرات من الشهادات الشفوية التي تسمع من سكان المناطق الحدودية، إلى تحوّل "النزلة" إلى فعل مقاوم -وهكذا قرأته المؤسسة الأمنية الصهيونية في معظم الأحيان- بشكل عسكري مباشر في أحيان، وبشكل غير مباشر في أحيان أخرى.
وتبقى هذه الشذرات التفاتة لضرورة إعادة الاهتمام لتوثيق الفعل العربي المقاوم في هذه المرحلة المهمة، التي كانت بكل تأكيد مدخلاً مهمًا للمراحل التاريخية التالية، وسطوة صورة الفدائي الفلسطيني، الذي لم يكن خروجه فعلاً منبتاً، بل تراكماً لخبرات وتجارب تأسّس الكثير منها خلال هذه الفترة. ويحتفظ الكثير من أهالي القرى الحدودية بقصص وحكايا لهذا الفعل تنتظر من يهتم بتوثيقها ودراستها قبل فوات الأوان. كما تحتفظ السجّلات الرسمية الصهيونية والدولية بالعشرات من الملفات الوثائقية التي يمكن الانطلاق منها كما فعل موريس وبارتال للتأسيس لرواية تاريخية عربية متجاوزة للروايات السائدة، رواية تنطلق أولاً من إعادة النظر في تعريف "التسلل" و"المتسلل"، والاهتمام بالمفاهيم المحلية كـ"النزلة" أو "الغزوة"، وتنتهي بتقديم تأريخ دقيق لهذه التجربة وأثرها في تجارب المقاومة التالية.