منذ بداية عام 2017 وحتى نهاية يناير/كانون الثاني 2021، رصدت مؤسسةُ "أوتشا" التابعة للأمم المتحدة ما يقارب ثلاثة آلاف اعتداءٍ نفّذها مستوطنون في أراضي الضفة الغربيّة بحقّ الفلسطينيين، وممتلكاتهم، ومزروعاتهم. ينطلق جزءٌ كبير من هذه الاعتداءات من المستوطنات والبؤر الاستيطانية التي تُعدُّ معقلاً لشبيبة التلال، مثل مستوطنة يتسهار. في هذا المقال، نحاولُ الإضاءة على هذه المجموعات وتاريخ نشأتها ونشاطها الاستيطانيّ.
البحثُ عن "خلاص" اليهود
يُطلق تعبير "شبيبة التلال" على مجموعاتٍ شبابيّةٍ من المستوطنين يصلُ تعدادها إلى المئات مع آلاف المتعاطفين معهم، ينتظمون على شكل خلايا صغيرة، ولا تتجاوز أعمارهم في الغالب الـ25 عاماً. يشتركُ أفراد هذه المجموعات في جذورهم الأيديولوجية التي تعودُ إلى تيار الصهيونيّة الدينيّة، ويجمعهم إيمانٌ بالسيادة المطلقة لليهود على فلسطين، والحلم بإقامة "مملكة داوود" عليها، وهو ما لن يتم باعتقادهم دون تعزيز وجودهم على الأرض وفرضهم لأمرٍ واقعٍ من خلال الاستيطان ومصادرة الأراضي والعنف حتى "يتسنّى للرب مساعدتهم في الخلاص"، حسب تعبيرهم.1 تيار أساسي في الحركة الصهيونية يجمع بين النزعة الدينيّة والتوجهات القومية المتطرفة، يؤمنون بـ"إسرائيل كاملةً" وأنَّ عليهم التمهيدَ لمجيء المسيح المنتظر من خلال التوسع الاستيطانيّ واتخاذ خطواتٍ بشرية باتجاه "الخلاص" حتى يمكن للرب مساعدة اليهود في "الخلاص"
اقرؤوا المزيد: ماذا فعل الـ"راف كوك"؟ فكرة الخلاص في الصهيونيّة الدينيّة
يقضي هؤلاء جلَّ وقتهم في دراسة التوراة والمقرَّرات الدينية اليهوديّة، وفي العمل بالأرض من خلال البؤر الاستيطانية التي يقيمونها. وينتمون إلى تياراتٍ وحركات شعبيّة عنصرية ومتطرفة مختلفة، مثل حركة "أرض إسرائيل" بزعامة الحاخام أفراهام ساغرون وحركة "درب الحياة" بقيادة الحاخام إسحق غينزبورغ وحركة "نواة المدينة العبرية" برئاسة مائير بارتلر.
وتعد مدرسة "عود يوسف خي"، وهي مدرسةٌ يهودية دينية تخرّج طلاب شريعة يهودية تقع في مستوطنة يتسهار تحت رعاية الحاخام يتسحاق غينزبيرغ، الحاضنةَ الأيديولوجية الرئيسية لشبيبة التلال في الضفّة الغربيّة، فيما يعدُّ كتاب "تورات هميلخ" للرابي يوسف شبيرا من ذات المدرسة من أبرز الكتب الموجّهة لسلوكهم الاستيطانيّ.
"ما لا تقعُ يدكَ عليه.. يأخذهُ عدوك"
لا يمكن تحديد توقيت نشأة "شبيبة التلال" بدقّة، لكنْ تحيلنا جذورها إلى أواخر التسعينيات وأوائل الألفية الثالثة، إذ يمكن قراءة ظهورهم ونشاطهم بالعلاقة مع اتفاقية أوسلو. بعد الاتفاقية امتنعت "إسرائيل" إلى حدٍّ ما عن بناء مستوطناتٍ جديدةٍ في الضفة الغربيّة، فركّزت على التوسع داخل المستوطنات القائمة وإقامة "أحياء" جديدة داخلها تحت ذريعة النمو الطبيعيّ للمستوطنات.2 عملياً بعد التعهّد الإسرائيلي للولايات المتحدة في منتصف التسعينات على إثر اتفاقيات أوسلو، لم تقم أيُّ مستوطنة جديدة بإقرارٍ إسرائيليٍّ رسمي باستثناء مستوطنتي "كريات سيفر" و"مينوراه" في عامي 1996 و1998 على التوالي. وثمة مستوطنة ثالثة بنيت بقرارٍ إسرائيليٍّ رسميّ عام 2017 على إثر هدم بؤرة "عمونة" الاستيطانية.
في المقابل، أثارَ ذلك حفيظةَ التيارات الصهيونية الدينيّة التي خشيت من احتمالية الانسحاب الإسرائيليّ من الضفة الغربيّة يوماً ما. وفّرت هذه الأجواء بيئةً خصبةً لتصاعد النشاط الاستيطاني بمبادرة من الجيل الشاب من المستوطنين، فخرج هؤلاء الفتية لإقامة بؤرٍ جديدة باعتبارها أبرز استراتيجياتهم لفرض الأمر الواقع وتثبيت الاستيطان. ولأنّ هؤلاء كانوا يتجهونَ عادةً لتلال الضفة الغربية -بما فيها مدينة القدس- فقد أطلق الإعلام الإسرائيلي عليهم "شبيبة التلال".
تقول مستوطِنة من الشبيبة في مقابلة مع نيويورك تايمز عام 2003: "هذا هو الشيء الوحيد الذي يفهمه العرب.. الشيء الوحيد الذي سيوقف العرب هو نصب نجمةٍ يهودية على كلّ تلة [تقصد بؤرة استيطانية]". ووجد هذا التوجه تعبيراً له عام 1998 على لسان وزير خارجية الاحتلال آنذاك آرئيل شارون، فقد حثّ المستوطنين على "احتلال التلال" [الضفة الغربية] بهدف إحباط أيِّ إمكانية للانسحاب من خلال فرض الأمر الواقع، قائلاً: "يتوجب على كلِّ فرد التحرك والإسراع للاستيلاء على أكبر قدرٍ ممكن من التلال من أجل توسيع المستوطنات. كلُّ ما نستولي عليه سيكون في أيدينا، وكلُّ ما لا ننتزعه سيكون لهم. [يقصد: الفلسطينيين]."
اطرد العرب.. وابنِ بيتاً فوق التلة
يتركَّز نشاط "شبيبة التلال" على مسارين أساسيين: أولاً، الاعتداءات على الفلسطينيين وممتلكاتهم ومساجدهم وكنائسهم ومزروعاتهم في الضفة والقدس وأراضي الـ1948، وثانياً، سرقة الأراضي لإقامة البؤر الاستيطانية.
يُنفّذ هؤلاء هجماتهم بإعداد وتنظيمٍ مسبق، ويتركون وراءهم شعاراتٍ تعبّر عن دوافعهم الأيديولوجيّة وطموحاتهم بتهجير الفلسطينيين مثل "الموتُ للعرب"، و"إما الطرد أو الموت"، و"اليهود لا يسكتون"، و"الموت للقتلة". يطلق على هذه الاعتداءات في العادة تعبير "تدفيع الثمن"، وهو مصطلحٌ بدأ استخدامه منذ عام 2008 تقريباً. يعكس هذا التعبير رغبة المستوطنين في تدفيع الفلسطينيين ثمن وجودهم وصمودهم في أرضهم، وكذلك ثمنَ مقاومتهم للاحتلال، إذ تتكثَّف هذه الاعتداءات بعد أيِّ عملية للمقاومة. ومن الاعتداءات البارزة التي نفذوها حرق عائلة دوابشة وقتل السيدة عائشة الرابي بالحجارة.
اقرؤوا المزيد: دولة المستوطنين...كيف تُرك الناس وحدهم دون حماية
أما فيما يخصّ الاستيطان، فتعدّ البؤر الاستيطانيّة علامة مميِّزة لهؤلاء الشبيبة الذين حملوا "شرف" إعادة إحياء هذا النمط الاستيطانيّ بعد خمود دور غوش إيمونيم.3 تختلف البؤرة الاستيطانية عن المستوطنة في أنَّ الأخيرة أقيمت بقرار إسرائيلي رسمي أو اعتُرفَ بها باعتبارها "تجمعاً" رسمياً لدى سلطات الاحتلال، في حين أنّ البؤر الاستيطانية هي عبارة عن مستوطنات (عادة صغيرة قد لا تتعدّى عند نشأتها بعض البيوت المتنقلة) غير معترف بها رسمياً. يسعى هؤلاء بشكلٍ متواصلٍ إلى إقامة بؤرٍ استيطانية على رؤوس التلال بالقرب من التجمعات الفلسطينية، سعياً لطرد الفلسطينيين من بلادهم ومنع أيِّ إمكانية للانسحاب من الضفة. منذ نهاية التسعينيات، وحتى نهاية عام 2020، تمكّن شبيبة التلال من إقامة 170 بؤرة استيطانية، علماً بأنَّ محاولات إنشاء بؤر استيطانية على أراضي الفلسطينيين لا تتوقف، إلا أنَّ كثيراً منها تفشلها مقاومة الفلسطينيين وأصحاب الأراضي، مثل بؤرة "عادي عاد" المقامة على أراضي قرية المغيّر، و"ديرخ هأفوت" المقامة على أراضي قرية الخضر، وبؤرة "أحياه" على أراضي قرية جالود.
تدعمهم في ذلك عدّة جهاتٍ استيطانية، منها منظّمة "أمانا" الذراع الاستيطانيّ لحركة غوش إيمونيم التي تساهم مثلاً من خلال توفير مواد ومعدات البناء في البؤر، ويحصلُ ذلك في كثيرٍ من الأحيان بتمويل من المجالس الإقليمية للمستوطنات. عبّر عن ذلك بوضوح الرئيس التنفيذي لـ "أمانا" زئيف حيفر مؤخراً بقوله: " فيما يتعلق بنهب الأراضي الفلسطينية وتشجيع الترحيل، فإنَّ هذه المزارع [البؤر الاستيطانية الزراعية] أكثر كفاءةً من البناء في المستوطنات". ويقصد بذلك أنّ نهج شبّيبة التلال في بناء البؤر الاستيطانية شكّل نموذجاً أكثر نجاعةً لطرد الفلسطينيين من نموذج الحكومة الرسميّ من خلال البناء داخل المستوطنات القائمة.
اقرؤوا المزيد: مع أو بدون "قانون التسوية".. سرقة الأراضي مستمرة!
ولم يكن اختيارُ هؤلاء للتلال كمساحاتٍ للاستيطان منفصلاً عن منطق الاستيطان الذي حكم الأراضي المحتلة منذ عام 1967. فقد تجلّى استيطان تلال الضفّة الغربية لاعتباراتٍ "أمنيّة" وظّفتها دولة الاحتلال في هندسة إحكامها للسيطرة على الأراضي المحتلّة، ولتمزيق سلامة التواصل الجغرافيّ والاجتماعيّ للبلدات والمدن الفلسطينية.
"إسرائيل".. الراعي والمنظِّم الأكبر
تعبّر دولة الاحتلال عن دعمها لهذه المجموعات بأشكالٍ مختلفة، أبرزها شرعنة الكثيرِ من البؤر الاستيطانيّة وتوفير الحماية لها من خلال الجيش، وقد بلغ عددها إلى اليوم 15 بؤرة مشرعنة، بالإضافة إلى 35 بؤرة أخرى تمرُّ في إجراءات الشرعنة. ومن ناحيةٍ أخرى، تُقدّم المجالس الإقليمية للمستوطنات والوزارات الحكوميّة الإسرائيليّة وشخصيات استيطانيّة ودينيّة بارزة الدعمَ الماديّ من خلال التمويل وتقديم الخدمات الأساسيّة لأيِّ بؤرة، والدعم المعنويّ بالتواجد والتشجيع.
وقد خلُصتْ لجنة "ساسون" الإسرائيلية الرسمية عام 2005، والتي شُكّلت لغرض تقديم مشورة لحكومة الاحتلال بهذا الصدد، إلى انخراط جهاتٍ رسميّة في دعم وتمويل وتسهيل إقامة البؤر مثل وزارة الأمن والإدارة المدنيّة ووزارة الإسكان. على سبيل المثال، منحت وزارة الأمن المستوطنينَ رخصَ الحصول على كرافاناتٍ على الرغم من علمها بأنها ستذهب إلى بؤرٍ استيطانيّة "غير مرخّصة"، ومنحت الإدارة المدنيّة في حالاتٍ عديدة رخصَ إيصال شبكة كهرباء وماء لتلك البؤر.4 Shimi Friedman, “Hilltop youth: political-anthropological research in the hills of Judea and Samaria,” Israel Affairs 21, no. 3 (2015): 399.
ومنذ نشوء هذه المجموعات قبل أكثر من عشرين عاماً، احتضنتهم الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وتواطأت معهم، بل وتقدّمُ لهم الحماية خلال تنفيذهم اعتداءاتٍ ضدّ الفلسطينيين. كما قدّمت عناصر قضائية مساعدة لهؤلاء المستوطنين وأرشدتهم إلى كيفية التملّص والتحايل على التحقيقات. أظهرت ورقة حقائق أصدرتها منظمة "يش دين" الإسرائيلية أن 91% من ملفات التحقيق، وعددها 1200 ملف، التي فتحتها الشرطة الإسرائيلية في الضفة الغربية ضدَّ مستوطنين بين الأعوام 2005-2019 بسبب اعتداءاتهم على الفلسطينيين، أُغلقتْ دون تقديم لائحة اتهام. وذلك بحجةِ أنَّ المتَّهم لم يُعرفْ، أو فقدان الشرطة الإسرائيلية الملف أو عدم وجود ذنبٍ جنائي! وفي حالات أخرى أُخرجَ العديد منهم بحجّة وجود اضطراباتٍ نفسية.
في سياق تعليقه على "ملاحقة" الحكومة لبعض شبيبة التلال، كتب ذات مرة النائبُ في الكنيست بتسالئل سموتريتش في صفحته على "فيسبوك" أنّه "لو أنّ إسرائيل لم تكن قد شطبت كلمة انتقام من قاموسها، ونفّذت ذلك بطرقٍ شرعيّة وراجعة للعدو، لما كنا سنصادف هذه الحالات القاسية بأن يأخذ أفرادٌ القانون وينتقموا بأيديهم".
يعكس تصريح سموتريتش جانباً من طريقة تعامل "إسرائيل" الرسميّة مع توجهات ونشاطات شبيبة التلال. يقول هذا التصريح فيما يقوله إنّه لا يوجد خلافٌ جوهريٌّ بين هؤلاء المستوطنين وبين الأجهزة الرسمية للاحتلال حول ضرورة "الانتقام" من الفلسطينيين. لكنَّ الاعتراض الرسميّ – على صعيد الخطاب على الأقل – على تصرفات الشبيبة لا يعدو كونه رغبةً في تنظيم هذا الفعل العدائيّ وتقييده بمحدداتِ "القانون" الإسرائيلي حتى لا يخرجَ عن أُطُر اللباقة السياسية، وحتى يكون "شرعياً" بتعبير سموتريتش.
وفي الوقت ذاته، يمكنُ القول إنَّ العملَ القذر الذي لا تستطيع السلطات الرسمية القيام به بشكلٍ مباشر، تتركه لهؤلاء الفتية، من خلال تراخيها في ملاحقتهم، وتوفير الدعم لهم بطرقٍ غير مباشرة، ثم شدّ الحبل حولهم حين يستلزمُ الأمر ذلك لتجنب "الإحراجات الدوليّة" مثلاً (كما في حالة الحكم على قاتلي عائلة دوابشة).
في المحصلة، لا تناقضَ بين "إسرائيل" الرسميّة وبين توجُّهات الشبيبة، بل يشكّل كلاهما وحدةً واحدة في المشروع الاستيطاني الذي قد تختلف مكوّناته وأدواته في التكتيك والأسلوب والتوقيت. بمعنى آخر، فإنّ عصابة "شبيبة التلال" ليست مجرّد مجموعات مستوطنين "متطرفين" خارج الإجماع الصهيونيّ وشذوذاً عنه، إنما هي أحد تمظهرات الحركة الصهيونية الأصيلة التي تعبّر عن جوهر فكرة استيطانِ ما يسمّى "أرض إسرائيل كاملةً".