في مايو/ أيّار الماضي، عشيَّة الذكرى الـ72 للنكبة، تجوَّل شبّانٌ فلسطينيّون في القرى المهجَّرة، ليجدوا المقامات فيها قد نُبِشَت وحُفرَت أرضيّاتها. استغلّ قراصنة الآثار والباحثون عن ذهب مفترض جائحةَ كورونا والإغلاقاتِ المرافقةَ لها لنبشِ المقامات، دون أن يستطيعَ أحدٌ ردعهم. تواجهُ المقاماتُ اليوم خطرَ الحفريَّات والإهمال، تضافُ إليها اعتداءاتُ الاحتلالِ بجيشِه، ومستوطنيه ومحاولات التهويد. في هذا المقال تعريفٌ أوليّ بالمقامات وما تركته في تاريخنا الفلسطينيّ من أثرٍ اجتماعيّ وسياسيّ.
حيثُ مرّوا
يُطلَقُ اسمُ "المقامِ" على عدَّة مواقعَ أثريَّة- على وجهٍ غيرِ دقيق- ليستْ كلّها مقامات. المقامُ هو موضع الإقامة، وموضع القدميْن، ويُنسَب لـ"أصحابه"، ولا يحتوي بالضرورة رفاتَهم (الضريح)، بل يكفي أنَّ صاحبَه مَرَّ أو استراح في المكان، وتناقل الناس ذلك. لذلك نجدُ مقاماتٍ دون ضريح كمقام يوسف والخضر، بينما توجد مزارات فيها مقام وضريح، مثل مقام رجال العمود والشيخ مسلم، وكلّها في نابلس.
تُنسَب بعضُ المقامات للأنبياء، مثل مقام "أولاد يعقوب"، وأخرى تُنسَب للصالحين والزُهاد، مثل مقام "إبراهيم الخواص" في قريةِ دير غسانة، فتضفي هذه المقامات صفةً دينيَّة تقديسيَّة لهؤلاء الصالحين، فيها نوعٌ من البطولة. كما تُنسَب المقامات للمجاهدين، أمثال القائد المملوكي مجير الدين، والواقع مقامه قرب مخيم العين، وتُنسَب أيضاً للمتعبّدين مثل مقام بِشِر الحافي في حارة الحبلة بنابلس.1دويكات، غسان محمد عبد الحليم، المقامات والمزارات في مدينة نابلس، مكتبة جامعة القدس المفتوحة، ص 3، 21. ازريق، مهيب أحمد حسن، أوقاف لواء نابلس منذ عام 1826م-1918م، رسالة ماجستير، جامعة النجاح، 2013م، ص 94. وفي بعض الأحيان، تُنسب عدّة مقامات لذات الشخص، كمقام النبي صالح، الذي يوجد في مدينة الرملة، وكذلك في قرية إذنا غرب الخليل.
ولا يوجد نمطٌ محدّد لانتشار المقامات في فلسطين، ولكنّها عادةً ما تكون على سفوح الجبال، وفي أطراف السهول، إذْ أنّ السمة المشتركة بينها هي إطلالة المقام على مساحةٍ كبيرةٍ حوله، وإمكانيَّة رؤيته من بعيد. قد يكونُ المقامُ بناءً حجريّاً من غرفةٍ واحدة، تُضافُ إليها غرفة أخرى أحياناً كمسجد، أو لغسيل الأموات، أو كغرفة كُتّاب للدراسة، أو لإقامة خادم المقام.
لكنَّ المقام قد يكون كهفاً كذلك، مثل مقام الشيخ عبد الله في كفر عقب، وقد يتمثّل في شجرة، أو نبعِ ماء، أو حتّى مجموعة حجارة تُسمى حويطة، أو صخرة، مثل صخرة الستّ سليميَّة في نابلس. إذْ يعتقدُ أنَّ الستّ سليميَّة هي متعبّدة مصريَّة دخلَ نعشُها في الصخرة، وتقولُ روايةٌ أخرى أنَّ الصخرةَ تُنسَب لشقيقيْن اسمهما سليم وسلمى، كانا يتعبدان هناك، فبنى أصحابُ كرومِ الصبر جداراً يظلّهما من الشمس.2النمر، إحسان، تاريخ جبل نابلس والبلقاء، ج 4، ص 166. سرحان، نمر، موسوعة الفلكلور الفلسطيني، ج 1، ص 20. الشوامرة، عوني، كفر عقب جغرافية المكان وتراث الإنسان، ص 75. دويكات، المقامات، ص 7، 12، 35. جولة ميدانية، دير غسانة، 9/3/2018م.
مقامات الحَرب
تُعمَّر المقامات لتبقى ذكرى أصحابها خالدة، وللدعاء والمناجاة، ولكنَّ لها وظائف أخرى. في فترةِ الحروبِ الصليبيَّة، أبدى السلاطين الأيوبيّون والمماليك اهتماماً بالغاً في إنشائها وتجديد القائم منها، كأداة من أدوات الصراع مع الصليبيين، ولمراقبة تحرّكات الجيوش الصليبيّة ورصدها. كما أظهرت المقاماتُ إسلاميَّةَ البلاد، وأسهمت في تحقيق استقرار المسلمين في فلسطين خلال تلك الحروب، وتعزيز وجودهم على الأرض، وتوالى بناء المقامات والاهتمام بها في العهود التالية لعهد الأيوبيّين.3سرحان، نمر، موسوعة، ج 1، ص 20. دويكات، المقامات، ص 35.
أكثرُ المقاماتِ حضوراً في هذا السياق هو مقامُ النبي موسى بالقربِ من أريحا، وهو أكبر مقامات فلسطين وأوسعها، إذ يتراوح طول أضلاع السورِ المحيط به بين الـ55 والـ70 متراً، وهو بارتفاع ثلاثة طوابق.4سرحان، موسوعة، ج 1، ص 120، 146-148. دويكات، المقامات، ص 2. مرار، خالد محمود، مقام النبي موسى، ص73. بعد تحرير القدس على يدِ صلاح الدين الأيوبيّ، بدأَ موسمُ "النبي موسى" السنويّ، في شهرِ أبريل/نيسان، أيْ بالتزامن مع حجّ الفرنجة المسيحيّين في فلسطين. حينها، اجتمعَ حشدٌ من أهالي القدس وقراها، وأطلقوا الموسم وهم يحملون أسلحتهم، تعبيراً عن الاستعداد الدائم للدفاع عن القدس في وجه الصليبيين آنذاك.
تتداولُ الروايات الشعبيَّة أنَّ صلاح الدين الأيوبيّ قد ابتكرَ ظاهرة "المواسم" الدينيّة، لتُنَظَّم بين أواخر شهر مارس/آذار وحتى نهاية شهر أبريل/نيسان من كلّ عام؛ كي يأتي هؤلاء الحجّاج ويجدوا البلاد في حالة استنفار، وقد اجتمعَ أهالي القرى والمدن معاً احتفالاً بالمواسم، والأهمّ؛ تأهّباً لأيّ اعتداء.
تمّت المحافظة على هذا الموسم حتى يومنا هذا، وإنْ أصبحت اليوم طقوسه احتفاليَّة وتراجعت دلالته الوطنيَّة. فاعتادَ رجالُ الدين وكبار القادة والأعيان قيادةَ المسيرة من القدس إلى المقام في الطريق الواصلة بين القدس وأريحا، وخلفهم آلاف الفلسطينيّين، يرفعون الأعلام والرايات العربيَّة والإسلاميَّة، ويهتفون رفضاً للانتداب البريطانيّ، وللاحتلال الإسرائيليّ لاحقاً. كما انطلقت منه شرارة عدّة انتفاضات ضد الانجليز سنة 1920، وخلال سنوات الثورة الفلسطينية 1936-1939. 5سرحان، نمر، موسوعة، ج 3، ص 568. مقال بعنوان موسم النبي موسى سيرة أمة مقاتلة، موقع ألترا صوت، حمزة العقرباوي.
كان موسم مقام النبي موسى يُقامُ بالتزامن مع موسم الحسين في عسقلان، والذي لعب هو الآخر دوراً في تأجيج المشاعر القوميَّة والوطنيَّة والدينيَّة، وغيره مواسمُ أخرى مثل النبي صالح في الرملة، وموسميْ علي بن عليم وروبين في يافا، وموسم المنطار (الداروم) في غزّة.6سرحان، نمر، موسوعة، ج 1، ص 20. ج 3، ص 565. مرار، مقام، ص 101-102. المواسم الشعبية الفلسطينية موقع وكالة وفا.
أما مقامات رجال المَناظِر أو المَراقِب فهي تعود إلى مجاهدين مسلمين خلال عصورٍ مختلفة، وعُمِّرت للمراقبة، فوظيفتها عسكريّة أمنيّة بحتة، ولذلك نراها على رؤوس الجبال المتقابلة، مكشوفةً لبعضها، كي تنتقل المعلومة– بالدخان نهاراً والنار ليلاً- من جبلٍ إلى الذي يليه، إلى أنْ تصلَ مقرَّ الجيش أو القيادة. ومن هذه المقامات والمواقع "الشيخ غانم" على جبل جرزيم، و"الشيخ بلال" على جبل الكبير، ومقام "علم الهدى" على جبل مطلٍّ على جماعين.7 النمر، تاريخ، ج 4، ص 177-178، 200. وفي حين بنى المسلمونَ عدداً كبيراً منها، إلا أنّ بعضها قد بناه الرّومان وسيطر عليه المسلمون عند فتحهم لفلسطين، أو عند تحريرها من الصليبيين لاحقاً، وتحوّل من معلم رومانيّ إلى إسلاميّ.8جولة ميدانية، برج الفارعة، 14/2/2020م..
أما المقامات المسيحيَّة في فلسطين، فهي أقدم من كلّ تلك المذكورة، بفعلِ ومنها مثلاً؛ مقام مار جريس، أو الخضر– كما يعرفه المسلمون- وله عدّة مزارات أحدها شمال بيت لحم، وآخر في نابلس.9سرحان، الموسوعة، ج 1، ص 33. دويكات، المقامات، ص 24.
شمعةٌ للصالحين
يزورُ الناسُ بعض المقامات بهدف الصلاة، وطلبِ البركات، والدعاء، فتسمّى مزارات. وتسمّى أخرى بالمَشهَد، وهي تلك التي يحضر إليها الناسُ لأداءِ صلواتٍ معيَّنة، كصلاة الجمعة أو على جبل عرفات، مثل مقاماتِ الأنبياء أو الأولياء والصالحين.
اقرأ/ي أيضاً: "عليك الأمان".. العيون المسكونة بالأرواح
يزورُها الناسُ لتلبيتها حاجةً وجدانيَّة روحيَّة لديهم، فيربطون أشرطةَ القماش، ويشعلون فيها الشموع والقناديل، كدليل على الزيارة وطلب الشفاعة، أو تقديم النذور، وأداء القسم لتبرئة متّهمٍ بجريمةٍ ما. كما تقام فيها الموالِد وخِتان الأطفال وتقصير شعر الصّبيان، وتقدَّم القرابين، وتودَع الممتلكاتُ في المقام حفاظاً عليها من الضياع10 النمر، تاريخ، ج 4، ص 164. ج 2، ص 326. سرحان، موسوعة، ج 1، ص 120، 251، ج 2، ص 353. دويكات، المقامات، ص 2، 36..
تلاشَت العادات الاجتماعيَّة والتراثيَّة المرتبطة بزيارة المقامات شيئاً فشيئاً، ويعود ذلك إلى تراجعِ سيطرةِ المعتقداتِ الشعبيَّة، وتنامي الثقافةِ الدينيَّة، ومعها اعتبار زيارة المقامات والأضرحة شركاً بالله. كما كانت المقامات ضحيَّةً للتمدّد العمرانيّ فأقيمت مكانها مبانٍ، وأُهملَ بعضها بسببِ صعوبة الوصولِ إليها، كوْنها إمّا بعيدةً عن مراكز القرى، أو واقعة في مناطق "ج".
وتعرَّضت المقاماتُ لطمسِ الاحتلال لها، مثلها مثل ملامح ثقافيَّة كثيرة لدى الشعبِ الفلسطينيّ، وحاول الاحتلالُ الاستيلاء على بعضها، وتهويدها بادعاء أنّها "مقامات يهوديّة"، كما هدمَ الاحتلالُ عدّة مقاماتٍ خاصّة تلك الواقعة في القرى والمدن المُهجّرة عام 1948، مثل مقام "أبي قميص أمير الصعيد" في صفد، وحوّل أرضه إلى موقف للحافلات.
لذلك، يكون من الأهمية بمكان العناية بالمقامات بأي شكلٍ متاح، سواء بدعوة المجموعاتِ الشبابيّة لتنظيم زيارات لها، بهدف التعرّف إليها والعناية بها، أو من خلال ترميمها، وتسهيل طرق الوصول إليها. ولا يحتاج الأمر سوى لمن يخلق الفكرة ويوجهها.