23 مارس 2020

القدس في زمن الـ"كورونا"

القدس في زمن الـ"كورونا"

منذ إعلان وزارة الصّحة الفلسطينيّة في الخامس من مارس/آذار الجاري عن أولى الإصابات بفيروس "كورونا" في بيت لحم، بدأت تداعياتُ ذلك تظهرُ في القدس. ولأنّها مدينة ترزح تحت سطوة الاحتلال الإسرائيليّ، وهي الحيّز الذي يصارعُ فيه على إثبات سيادتِه وتحكمه المُطلق، فإنّ التعامل مع الـ"كورونا" ومحاولات الوقاية من مرض كوفيد-19 لم تخلُ من تأثيراتِ وحساباتِ السياسة ومعادلاتها. 

بدا ذلك بشكلٍ واضحٍ في قطاع التعليم من خلال التنازع على من يملكُ سلطة َالإعلان عن تعطيل المدارس أو استمرارها. وكذلك فيما يتعلق بالمسجد الأقصى وسؤال إغلاقه أو فتحه في وجه المصلين.

إضافةً إلى ذلك، فإنّ القدس، مثل سائر بلدات ومدن فلسطين، تتحمّل في هذه الأيام تأثيراتٍ صعبةً على المستوى الاقتصاديّ، وخاصّة في قطاعه الأبرز في المدينة: قطاع السياحة وما يرتبط به من انتعاشٍ للحركة التجاريّة.

من يُعطّل المدارس؟

بعكس الضّفة التي "تأتمر" مدارسها بقرار وزارة التربية والتعليم الفلسطينيّة، فإنّ مدارس القدس تتبع 4 جهات مختلفة: مدارس تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا"، والمدارس الخاصّة، ومدارس الأوقاف، والمدارس التابعة لوزارة المعارف الإسرائيليّة.

الطلبة، الذين يُقدّر عددهم في القدس بحوالي 120 ألف طالب وطالبة من الروضات إلى الثانويّة، وجدوا أنفسهم مُنقسمين ما بين مستمرٍ بالدوام وبين متغيّب عنه. التزمت مدارس الأونروا، وهي قليلة في القدس، بقرار السلطة. فيما تنوّعت ردود أفعال المدارس الخاصة بين استمرارٍ في التعليم دون أي إجراء، أو تعطيل ليوم واحد لغرض التعقيم،أو تعطيلٍ إلى إشعار آخر.

أما مدارس الأوقاف التابعة بشكلٍ أو بآخر للسلطة، فقد سادها الصمت. قبل 4 أشهر تقريباً، منع الاحتلال عملها في القدس لمدة 6 أشهر، وذلك ضمن خطواته لاستهداف التعليم الفلسطينيّ المستقل عنها في المدينة. انعكست تأثيراتُ ذلك حتى على إعلان التعطيل، فعلى مدار يومين لم يخرج أيٌّ من ممثليها الرسميين بأيّ إعلان، فيما أُوكِلَت المهمةُ لمدير كلّ مدرسةٍ من هذه المدارس ليعلن عن ذلك بمفرده.

في المقابل، فإنّ المعارف الإسرائيليّة، التي يدرس في مدارسها ما يقارب 50% من طلبة القدس، أصرّت على استمرار التعليم، مع إرسال كلّ معلم أو طالبٍ كان في بيت لحم للحجر المنزليّ 14 يوماً. في هذا المضمار بالذات، حرص الاحتلال على التأكد من بسط سيطرته. ففي حين أعلن "اتحاد لجان أولياء الأمور"، وهو جسمٌ يمُثل الأهالي في هذه المدارس، تعطيل الدوام، أصّرت المعارف الإسرائيلية أنّها "الجهة الوحيدة المسؤولة عن إصدار التعليمات". في النهاية لم يحضر الطلاب في غالبية المدارس، فيما استمرّت "مناشدات" الوزارة الإسرائيليّة لهم بالانتظام إلى أن صدر القرار الإسرائيلي الرسميّ بتعطيل المدارس في 16 مارس/ آذار، أي بعد 10 أيام من القرار الفلسطينيّ.

وهكذا، عكست تداعيات الـ"كورونا" على التعليم في القدس بعضاً مما يعيشه هذا القطاع من تحديات؛ تعدد للمرجعيات التربويّة وتأثيرات ذلك –صحيّاً هذه المرة، ومحاولة انتهاز أي جديد لتبدو فيه "إسرائيل" من جديد هي "الآمر الناهي".

اقرأ/ي المزيد: "معركة المنهاج في القدس.. تسلسل تاريخيّ".

الأقصى.. ما بين السياسة وأخطار الفيروس

بادرت دائرة الأوقاف الإسلاميّة منذ اليوم الأول لإعلان إصابات بيت لحم إلى تعقيم سجاد المصليات المسقوفة في المسجد الأقصى وبادر بعض المتطوعين لتوزيع معقمات على المصلين. وبطبيعة الحال، فإنّ التعامل مع الأقصى لا يخلو من محاولاتٍ إسرائيليّةٍ لفرض مزيد من السطوة، من المستوطنين ومن شرطة الاحتلال.

الجائحة التي غيّبت كثيرين عن المسجد قسراً، انتهزتها "جماعات الهيكل"؛ فبدأ نشطاؤها بالنداء عبر صفحاتهم على "فيسبوك" لـ"خلق واقعٍ جديد في الجبل.. للصعود إليه والصلاة فيه". أحدهم نشر صورة لهم في الأقصى مع: "حتى في أيام الوباء والعزل لن يُهجر الهيكل من اليهود". يهودا غليك المعروف باقتحامه للأقصى ظهر مرتين خلال هذه الفترة من ساحات الأقصى، وهو يلبس كمامةً، ويبث تسجيل فيديو مباشر "يدعو للإنسانية لحمايتها من الفيروس".

اقرأ/ي المزيد: "ماذا تعرف عن اقتحام المستوطنين للأقصى؟"

في 15 مارس/ آذار، أعلنت الأوقاف أنّها ستُقفل المصليات المسقوفة وتقيم الصّلاة في الساحات المكشوفة، وطلبت من المصلين تفريق الصفوف والابتعاد مسافة مترين. في نفس اليوم، حاولت الشّرطة فرض كلمتها بإغلاق بوابات المسجد، والإبقاء على أربعة فقط؛ باب المغاربة لاقتحامات المستوطنين، وثلاثة آخرين لدخول الفلسطينيين. احتجّ عدد من حراس المسجد وأصرّوا أن تفتح الأبواب جميعها، وكان لهم ذلك. كانت تلك واحدة من المحاولات الإسرائيلية في إطار التنازع على السيادة في المسجد.

لاحقاً، بدأت الشرطة بالتضييق أكثر. في 18 و19 مارس/آذار مثلاً، منعتْ الناسَ من الدخول إلى صلاة الفجر إلا بتسليم بطاقات هويّاتهم. رفض الناس، وصلّوا على الأبواب، لأن إبقاء هوياتهم يعني تصويرها وإرسالها إلى وزارة الصّحة، والتي بدورها ستخرج في دوريات مع الشرطة لفحص التزام هؤلاء بالحجر المنزليّ (على اعتبار أنهم خالفوا أوامر الطوارئ و تجمهروا بأكثر من العدد المسموح به).

بعد أن أعلن رئيس وزراء الاحتلال الخميس الماضي عن قرارات أكثر صرامة في تقييد الحركة، كان النّاس مهمومين بالسؤال: هل سيُغلق الأقصى؟ ومن سيكون صاحب الخطوة فعليّاً: الأوقاف أم الاحتلال؟ 

التدقيق في بطاقات هويات الوافدين إلى القدس الجمعة الماضية، حيث سمح بدخول البلدة القديمة فقط لسكانها.

في اليوم التالي، الجمعة، 20 مارس/آذار، منعت شرطة الاحتلال المقدسيين ممن يقطنون خارج البلدة القديمة من دخولها والوصول للأقصى للصلاة فيه. نتيجةً لذلك، صلّى في الأقصى 500 شخص غالبيتهم من سكان البلدة القديمة. البقية تجمعوا للصلاة متفرقين في الشوارع، حتى ضربتهم قوات الاحتلال بقنابل الصوت، واعتقلت عدداً منهم. في اليوم التالي، 21 مارس/ آذار، اقتحمت الشرطة منزل رئيس مجلس الأوقاف، عبد العظيم سلهب، وسلّمته مخالفة مقدارها 5 آلاف شيكل، بحجة عدم "منعه الناس من أداء صلاة الجمعة".

بدا واضحاً، أن قرار الإغلاق في الطريق. يوم أمس الأحد 22 مارس/ آذار، أصدرت دائرة الأوقاف بياناً يشير إلى "تعليق أداء الصّلوات في المسجد"، مع الإبقاء على رفع الأذان وإقامة الصّلاة من الموظفين. في خبرها عن الموضوع، نقلت "هآرتس" عمن قالت إنهم مصادر أردنية وإسرائيليّة أنّ الأردن أوضحت خلال المحادثات مع الإسرائيليين حول إغلاق المسجد "إنّ إغلاقه أمام المستوطنين والسيّاح سيُسهّل عليها اتخاذ خطوة الإعلان عن إغلاقه أمام المسلمين". فيما نقلت وسائل الإعلام العبرية الأخرى الخبر بصيغة توحي أن القرار جاء بضغوطات من الشرطة.

بدلاً من بيع التذكارات السياحيّة، نبيع المعقّم

كذلك تبرز تداعيات الـ"كورونا" على موسم السيّاحة في القدس وما يتبعه من حركة تجاريّة. لا توجد في القدس مصانع ولا ورش عمل كبيرة أو شركات ضخمة تُشكّل اقتصاد المدينة وأهلها. وعدا عن العمل في القطاعات التابعة مباشرة للسوق الإسرائيلي (العمال والأطباء والمعلمون..)، فإنّ اقتصاد المدينة وبلدتها القديمة بالذات يعتمد على من يأتونها زائرين من خارجها.  

تصل أسواقُ المدينة التاريخيّة وفنادقها ذروة انتعاشها في موسم سياحيّ يأتيها مرةً في العام، في شهري الربيّع؛ مارس/آذار وأبريل/ نيسان، وبالذات حول أيام عيد الفصح المسيحيّ والذي ترتبط مناسبته الدينيّة التاريخية بمدينة القدس وكنيسة القيامة. لذلك يكثر السيّاح والحجاج إلى البلاد المقدسة في مثل هذا الوقت.

كما تصاعدت في السنوات الخمس الأخيرة ما تُسمّى بـ"السياحة الإسلاميّة"؛ مسلمون أجانب يأتون في رحلٍ منظمة من دولٍ عدّة. وبما أنّ عيد الفصح المسيحيّ عطلةٌ رسميّةٌ في بعض تلك البلاد، بريطانيا مثلاً، يستغل بعض منهم الإجازة لزيارة المسجد الأقصى، وأحياناً المسجد الإبراهيميّ في الخليل. 

كما أن شهر رمضان على الأبواب مما يعني زيادة الأفواج السياحية الإسلاميّة المتوقعة. وكذلك "تسمح" القيود الإسرائيليّة خلال رمضان بدخول بعض الآلاف من أهالي الضّفة إلى القدس، مما يعني أن موسماً منتعشاً كان بانتظار تجار المدينة.

إلا أنّ شهرا الذهب المنتظران في كلّ عام تبدّلا ليصبحا شهريّ الحجر ومنع التجوّل. بعد أن كانت الفنادق الفلسطينية العشرين في المدينة، بغرفها الـ1500 تقريباً، تتحضر لنسبة إشغال ما بين 80%-100%، فإنّها أصبحت اليوم مجبرة على تسريح عمالها. أصغر هذه الفنادق، ممن لديه 14 غرفة فقط، التغت لديه كلّ الحجوزات حتى نهاية مايو/ أيار القادم، واضطر إلى تسريح 28 موظفاً. ينضم هؤلاء إلى "جيش" العاطلين عن العمل الذين سرحّهم أرباب العمل، وإلى خسارات وهمومٍ أخرى تتكبدها العائلات.

أسواق القدس خالية من روّادها، الأحد الماضي.

أما الأسواق، معلم المدينة الاقتصاديّ المتبقي والمتهالك، فمنذ الإعلان في بيت لحم بدأت الحركة فيها تخف تدريجيّاً. هذا الأسبوع تجوّلت قواتُ الشرطة على بعض المحلّات وهددت بتحرير مخالفاتٍ تصل قيمتها إلى 5 آلاف شيكل لمن يُبقي محلّه مفتوحاً. وأن يمشي أكثر من اثنين معاً في الأزقة فهذا تجمهر يستحق المخالفة كذلك، وفقاً لـ"أوامر الطوارئ". 

أحد تجار البلدة القديمة أشار إلى سلسلة من الانهيارات الاقتصاديّة يخاف منها التجار من أصحاب المصالح الصغيرة: "90% منا نحن التجار نشتري بضاعتنا بطريقة الاعتماد البنكيّ، نُعطي الموّزع شيكات مؤجلة ونسدّها بمجرد أن نبيع، الآن لا أحد يبيع، ولا أحد يشتري، سنقع نحن في الدين، والموزع الذي في الغالب يتاجر بنفس طريقتنا سيقع في الدين.. ولا نعرف متى تنتهي الأزمة".

وكما في كلّ مرة، تبحث "إسرائيل" عن الثغرات لتقتحم وتسود. في العام 2016، وبعد أشهر من "هبّة القدس"، عرضت مؤسسات إسرائيليّة منها بلدية الاحتلال على عددٍ من تجار البلدة القديمة تقديم مساعدةٍ ماليّة لهم (عدا عن مستحقات "التأمين الوطنيّ" للبطالة). سوُّقت هذه "المساعدات" كدعم لهم بعد تدهور التجارة خلال تلك الفترة، وذلك مقابل ضمان "تنظيم عملهم" عن طريق فتح ملفاتٍ ضريبيّة في سلطة الضرائب الإسرائيلية. لم يقبل التجار في غالبهم تلك المساومة، وهم الذين لم تُوّفر فيهم شرطة الاحتلال اعتداءً، وقرروا النأي عمّا اعتبروه أموالاً إسرائيلية تُمهّد لإحكام القبضة عليهم. فيما تبقى المدينة وأهلها اليوم في بحثٍ مستمر عن مقومات صمود وانتعاش بعد فترة انتكاسةٍ شبّه أثرَهَا أحدُهم بـحرب الخليج.

وفي ظلّ ترقب تطوّر انتشار الفيروس، تتعاظم الحاجة إلى استجابة مجتمعيّة داخليّة بعيداً عن انتظار "مسؤولية" سلطات الاحتلال. هنا يبرز السؤال مثلاً عن استعداد مستشفيات المدينة، كالمقاصد والفرنسيّ لاستقبال أي حالات مُصابة، والتي على ما يبدو تفتقر حتى الآن للتجهيزات، وتكتفي بجمل "نحمل الاحتلال المسؤولية" و"نعاني من الضائقة المالية". 

على المستوى المجتمعيّ كذلك، تحتاج شريحة واسعة من العائلات التي وجدت أربابها فجأة عاطلين عن العمل، والذين قد يضيق بهم الحال إن استمرّت الأزمة، لمساعداتٍ عينية. وتبدو هناك بعض المحاولات الشبابيّة والتطوعيّة لنشر معلومات توعيّة عن المرض، ولمساعدة المحتاجين بالمؤن دون انتظار منّة "التأمين الوطني" وأخواته. وأخيراً، لم يخلُ المشهد من محاولات حزبيّة ومؤسساتية للنشاط في إطار الاستجابة لخطر الـ"كورونا"، وهو نشاط ذكّر البعض بافتقاد القدس لمرجعيات شعبيّة وطنيّة يضعُ النّاس فيها ثقتهم حتى النهاية. 

*تنشر هذه المادة بالتعاون مع شبكة قدس الإخبارية.