18 يناير 2020

الجولان السوريّ في مواجهة مراوح "إسرائيل"

الجولان السوريّ في مواجهة مراوح "إسرائيل"

عند السفر من الشّمال الفلسطينيّ إلى الجولان السوريّ المحتل عبر الشاطئ الشرقيّ لبحيرة طبريا، إلى الشّرق من شارع رقم (98)، تظهر عشر مراوح عملاقة لإنتاج الطاقة الكهربائية. تقع تحديداً على تل الغسانية جنوب مدينة القنيطرة. إنّها أول مزرعةٍ إسرائيليّة لإنتاج الطاقة من الرياح، أقامتها دولة الاحتلال الإسرائيليّ عام 1992.

تتألف المروحة الواحدة في تلك المزرعة من ساقٍ طوله 28 متراً، ترتفع على رأسه ثلاث شفرات، طول الواحدة منها 18 متراً. يعتبر هذا المشروع أحد النماذج على استغلال دولة الاحتلال للموارد الطبيعيّة في الجولان السّوريّ والذي يُعتبر ممرّاً أساسيّاً للرياح النشطة القادمة من الغرب، عدا عن أن تلك المراوح غدتْ رمزاً سياحيّاً عند الإسرائيليّين يُشير للهضبة المُحتلة.

بعد مرور عقدين على إنشاء هذا المشروع، وتحديداً عام 2013، وضع الاحتلال خطّةً لإقامة 25 مروحةٍ جديدةٍ لإنتاج الطاقة في الجولان. ضمن هذه الخطّة، ستُقام "مزرعة المراوح" الأكبر على الأراضي الخاصّة بالسكان السوريّين في قريتي مجدل شمس ومسعدة. كما يتبع جزءٌ من هذه الأراضي إلى قرية سحيتا المهجّرة، وهي واحدة من 130 قريةٍ هجّر الإسرائيليّون أهلها وسلبوا أرضها بعد حرب 1967.

في السنة الأخيرة، تحرّك الشارع السوريّ في الجولان ضدّ هذا المشروع. أُعلِن الإضراب العامّ يوماً واحداً في يونيو/حزيران،  وجُمعت تواقيع أكثر من 5000 سوريّ على عريضة لرفض المشروع. كما نُظمت لقاءات لفحص إمكانيات العمل القانونيّ بالمشاركة مع مؤسسات حقوقيّة، ونُشرت حملات إعلاميّة عديدة ضد مخاطر هذا المشروع وتهديده للأرض والمسكن.

في المقابل، تعتبر الحكومة الإسرائيليّة هذا المشروع "مشروعاً قوميّاً"، وهو تصنيفٌ إسرائيليٌّ يُتاح بموجبه لوزير الماليّة الإسرائيليّ أن يصادر الأراضي من أجل إقامة المشروع، ولصالح مرافقه؛ شق طرقٍ جديدةٍ أو توسيع الطرق القائمة، إضافةً إلى إقامة مجمّع تجاريّ تابعٍ له. يُذكر أن حكومة الاحتلال قد أصدرت عام 2009 قراراً (رقم 4450) يقضي بالعمل على أن تحصل "إسرائيل" على 10% من حاجتها للكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2020.

وبعد أن نال المشروع مصادقةَ "لجنة التخطيط والبناء القطريّة" التابعة لوزارة الداخليّة الإسرائيلية، يُنتظر تناقشه "إسرئيل" في جلسة حكوميّة بعد غدٍ الاثنين، 20 يناير/كانون الثاني 2020. 1إضافة على المقال بتاريخ 21.01.2020: تم في الجلسة تأجيل مناقشة مشروع المراوح إلى موعد لم يُحدد بعد.

ملصق منشور على صفحات التواصل الاجتماعي ضمن حملة للتنبه إلى خطر المرواح.

تفاصيل المشروع

يقع الموقع الذي يُخطط لإقامة المراوح الـ25 عليه شرق شارع 98 كذلك، ويبعد حوالي كيلومتراً واحداً فقط عن بلدات مجدل شمس ومسعدة وبقعاثا، ويبعد كيلومتراً ونصف عن بلدة عين قنية. تبلغ أحجام المراوح التي تخطط سلطات الاحتلال الإسرائيليّ لإقامتها 8 أضعاف أحجام المراوح التي أُقيمت عام 1992، إذ يصل طول ساق المروحة الواحدة إلى أكثر من 100 متر، بينما يبلغ طول كل شفرةٍ من الشفرات الثلاث 80 متراً. لغرض إقامة المروحة الواحدة من هؤلاء، يجب بناء منصّة من الاسمنت المسلّح تزن أكثر من 1,000 طن على مساحة 600 مترٍ مربّع. 

وفقاً للمخطط، سيُقام المشروع على مساحة كليّة تعادل 3,674 دونماً من أراضي أهالي الجولان. من هذه المساحة 3,644 دونماً تُقام عليها 25 مروحة بارتفاعٍ أقصاه 200 متر (أي ما يعادل مبنى من 65 طابقاً). ثمّ سيُخَصص 20 دونماً لإقامة طرق النقل الجديدة، و8 دونمات لإقامة منشآت مثل محطة خاصّة لشركة الكهرباء، ومنشآت ومبانٍ للصيانة والمخازن والعمل على المراوح، وغيرها. ثم أكثر من دونمٍ إضافيّ من "الأراضي المفتوحة" في خدمة جيش الاحتلال والقوّات الأمنيّة.

كما أنّ إقامة هذا المشروع في المنطقة الواقعة بين مجدل شمس ومسعدة يحدّ بشكلٍ كبيرٍ التوسع العمرانيّ للقريتين، ويقوم بخنقهما ويخلق أزمةَ سكن كبيرة فيها. في مجدل شمس مثلاً، لا يمكن للقرية التوسّع شمالاً أو شرقاً بسبب حقول الألغام وخطّ وقف إطلاق النار، كما لا يمكنها التوسّع غرباً بسبب إقامة معسكرٍ لجيش الاحتلال مؤخراً، وبسبب وجود مستوطنتي "النمرود" و"نفي أتيف" غربها، مما يجعل اتجاه التوسّع العمرانيّ الوحيد هو الجنوب، وهناك يقع الموقع الذي يُخطط لإنشاء المراوح فيه.

 

تفاصيل المشروع المتوقع أن يطرح للمصادقة عليه يوم الاثنين 20.01.2020

كائنات بيضاء تبتلع الأرض

يندرج مشروع المراوح هذا ضمن سياسات "إسرائيل" في استغلال موارد الجولان وحرمان أهلها منها. بدايةً، يُهـدِّدُ المشروع الارتباط الوثيق بين سكان الجولان وأرضهم، كما أنّه يُـهـدِّدُ مستقبلَ الزراعة في المنطقة. على مدى خمسة عقود من الاحتلال، ورغم محاولات الخنق الاقتصاديّة، استطاع أهالي الجولان التمسّك بالأرض وزراعتها والاعتماد على منتوجها والتحكّم فيه، وجعلوا منها وسادة أمانٍ ماديّ. أُقـيمـت جمعياتٌ زراعيّةٌ تتوّزع لمناطق زراعيّة وتقوم بإدارة مياه هذه المناطق وطرقاتها بالرغم من السياسات التمييزية في توزيع المياه بين السكان السوريين والمستوطنين، كما أقيمت برادات لحفظ التفاح -أشهر محاصيل الجولان- بهدف تسويقه خارج موسمه خلال السنة، وغيرها مشاريع أخرى كثيرة.

أتاحت هذه الإدارة الفلّاحيّة السليمة للموارد السوريّة الزراعيّة فك التبعيّة الاقتصاديّة للاحتلال (وإن بشكلٍ جزئيّ) خاصّةً في المرحلة التي سبقت الثورة السوريّة، إذ أُتيح تسويق المنتوج الزراعيّ الجولانيّ في أسواق الدول العربيّة عن طريق منظمة الصليب الأحمر. وبالتالي لم يكن المزارع السوريّ يعتمد على السوق الإسرائيليّ لتسويق منتجاته الزراعيّة، ولا على التجار الإسرائيليين، ولا حتى على التكنولوجيا الإسرائيليّة.

من بين 20 ألف نسمة في الجولان، يعمل المئات في هذا مجال الزراعة وتعتاش عائلاتهم منه: يعمل العشرات في برادات حفظ (هنالك 5 برادات تعمل في الوقت الحالي)، وعشرات آخرون في معربة الكرز (حيث تتم تعبئة الكرز) في مجدل شمس. كما يعمل كثيرون في دكاكين بيع المعدّات الزراعيّة والأسمدة، وآخرون يعملون كمهندسين زراعيّين في الجمعيّات الزراعية وإدارة المياه. كذلك يعتمد العديد من المزارعين على بيع محصولهم أو على السياحة الزراعيّة كمصدر دخل أساسيّ.

في المقابل، فإنّ مشروع المراوح الإسرائيليّ سيجعل عملَ المزارعين في أرضهم مستحيلاً خلال سنوات إقامة المراوح. بدءاً من أنّ الشاحنات والآليّات المطلوبة لنقل أجسامٍ يفوق طولها الـ100 متر ستؤدّي إلى إضرار جسيمة بالأشجار والأرض، إذ لن تكون حركتها ممكنةً بشكلٍ سلسٍ بين الأراضي، دون أن تُحدث ضرراً. كما ستُصادر مساحات شاسعة من الأراضي لشق الطرق وتوسيعها لمرور مثل هذه الشاحنات.

يهدّدُ المشروع بمحو الزراعة والقضاء على الأمن الاقتصاديّ والزراعيّ لسكان الجولان، محوّلاً المنطقة برمّتها إلى منطقةٍ صناعيّةٍ تتحكم فيها شركةُ عقاراتٍ صاحبة رأسمال كبير تعمل كذراعٍ تنفيذيٍّ للاحتلال في أراضينا الخاصّة. إلى جانب أن هذا المشروع سوف يسلب من منطقتنا كل الهدوء والرونق والجمال الذي يميّـزها الآن، فإنّ التقليص الكبير في  مساحة الأراضي الزراعيّة ومصادرة مئات الدونمات، والضرر المحتمل للبيئة المحيطة، سوف يتسبب قطعاً بتدهور المحصول الزراعيّ في الجولان.

"طاقة خضراء" ضدّ الطبيعة

لا يقتصر تأثير مراوح إنتاج الطاقة على إلحاق الضرر بالأرض والاقتصاد، بل يطال هذا الضرر البيئة نفسها التي جاء زاعماً حمايتها. تُعرّضُ هذه المراوحُ الحياةَ البريّة لخطرٍ كبيرٍ، وقد تتسبب بانقراض أصناف من الطيور والحشرات. والتجارب العالميّة كثيرة في هذا الشأن: تتحدث العديد من الأبحاث، مثلاً، عن أن المروحة الواحدة قد تتسبب بمقتل عشرات الطيور في السنة الواحدة. وتفيد بأنّ المتضرر الأكبر منها هي الطيور الجارحة، والتي لا تملك القدرة على النظر للأمام بل تنظر للأسفل بشكل دائم بحثاً عن الفريسة، مما يوقعها في الفخ - الاصطدام بمحركات تزن أطناناً.

في مثالٍ آخر، ألغت حكومة ولاية أونتاريو في كندا بداية الشهر الحالي مشروعاً يضم 29 مروحة لإنتاج الطاقة بسبب تقارير خبراء بأن المشروع يشكّل خطراً على الخفافيش في تلك المنطقة، وقد يتسبب بتضاؤل أعدادها بسرعة.

فضلاً عن هذا، فإنّ تأثير المراوح على الطيور والخفافيش، قد يؤثر سلباً على المحصول الزراعيّ، إذ أنّه من المعروف أنّ الطيور والخفافيش تساهم في تلقيح الأشجار، وتساهم في حماية الفاكهة من الحشرات الضارّة. كذلك، هناك نظريات عن إمكانيّة خلق سلسلة من التأثيرات البيئيّة تُلحِق الضّرر في النظام البيئيّ في الجولان وتُؤثِّر على المَواطِن الطبيعية للحيوانات.

يمكن قراءة هذه الوقائع في سياق منطقتنا التي تتمتّع بتنوّع بيئيّ كبير أيضاً، وتتميّز بكونها إحدى المسارات الطبيعيّة في طريق هجرة الطيور السنويّة من أوروبا إلى أفريقيا. كما يُعدّ الجولان موطناً طبيعيّاً للعديد من الطيور المحليّة والمهاجرة، مثل طيور الكركي، والعقبان، والنسور، والصقور، والخفافيش. كل هذه الطيور، بالأخصّ الجارحة منها والمُهـدّدة بالانقراض من منطقتنا (مثل النسور - بقيت 8 نسور فقط في الجولان المحتل)، قد تتسبّب المراوحُ بموتها. وقد أشارت تقارير إلى أنّ مراوح الرياح الإسرائيليّة تقتل في فلسطين أعداداً من الطيور تفوق المتوّقع، 17 طائراً يُقتل سنويّاً لكل مروحة في مزرعة "رامات سيرين"، و23 طائراً يُقتل سنويّاً في "مزرعة جلبوع".

استفحال ما بعد المأساة

يندرج هذا المشروع ضمن قائمة طويلة من التغييرات التي تفرضها سلطاتُ الاحتلال في الجولان بعد الثورة السوريّة، مستغلةً الحالة المأساوية في سوريا لتعميق استيلائها على الجولان وموارده. منذ إضراب أهالي الجولان عام 1982 وحتى عام 2011، حافظ الأهالي على الوضع القائم دون السماح بتغييرات جوهريّة في طبيعة المنطقة وحياة أهلها. ولكن، منذ عام 2011 وحتى الآن، ازداد تركيز حكومة الاحتلال على الهضبة المحتلة، من خلال فرض عدة مشاريع تهدف للأسرلة والتهويد والاستيلاء على الأرض.

ضمن هذه المشاريع إعادة إحياء مخططات الاستيطان في الجولان بعد أن كانت قد أوقفت منذ عام 1998. إذ أعلنت حكومة الاحتلال نيّتها رفع عدد المستوطنين في الجولان من 20 ألف حالياً، إلى 250 ألف حتّى عام 2030، عبر إقامة عشرات من المستوطنات الجديدة وتوسيع المستوطنات القائمة.  
كذلك يمكن أن نذكر فرض الانتخابات للمجالس المحلية في الجولان المحتل لأول مرة عام 2018، والتي رفضها سكان الجولان بشكل تام (صوّت أقل من 1% من السكان فيها). وإلزام السكان بتسجيل أراضيهم في "الطابو" الإسرائيلي، وإقامة شريط حدوديّ جديد وضخم على امتداد خطّ وقف إطلاق النار، وإقامة نقطةٍ عسكريّةٍ جديدة غربي مجدل شمس، واعتراف أميركا "بسيادة" الاحتلال على الجولان، ووضع حجر الأساس لمستوطنة "رامات ترمب" على أراضي قرية القنّعبة المهجرة والعديد من المشاريع الأخرى، يختمها -حتى اللحظة- أكبر المشاريع وأضخمها، مشروع المراوح، والذي يشكل تهديداً مصيريّاً لسورييّ الجولان المحتل.



23 مارس 2022
بئر السبع: هل هي بوادر اشتعال؟

طائراتٌ لم تهدأ فوق سماء المنطقة في الآونة الأخيرة، تُقِلُّ السياسيّين من قوى المنطقة وما حولها من مدينةٍ إلى أخرى،…