فجرَ الخميس الماضي قتلت الأجهزةُ الأمنيّةُ التابعةُ للسلطة الفلسطينيّة في الضفّة تحت وقع التعذيب الناشط نزار بنات. كانت تلك الجريمة ذروة سلسلةٍ طويلةٍ من الملاحقة تعرّض لها بنات. في السنوات الست الأخيرة، لم يغب اسمُه عن زنازين الاحتجاز وقاعات المحاكم وغرف التحقيق والتعذيب، إذ اعتُقِل مراراً لدى السّلطة بتهمة "قدح المقامات وذم السّلطة". وفي الشهرين الأخيرين، وخاصّةً بعد ترشّحه ضمن قائمة "الحريّة والكرامة" لانتخابات المجلس التشريعيّ، تلك التي أُلغيت لاحقاً لخوف السّلطة من نتائجها، تعرّض منزله لإطلاق نارٍ، كما سُلّم تبليغاً للمثول أمام النائب العام في الضفّة.
وفيما أشار البعض إلى أسماء عناصر وموظفين في جهاز الأمن، تُشير بعض التسريبات الإعلاميّة المنشورة مؤخراً إلى أنّ حسين الشيخ، رئيس هيئة الشؤون المدنيّة، "غضب" شخصيّاً من الفيديو الأخير الذي نشره بنات معلّقاً على "صفقة اللقاحات" التي أنجزها الشيخ مع الاحتلال. كما يُشير التسريب إلى تورّطه مُباشرةً في جريمة الاغتيال، بمشاركة كل من ماجد فرج، رئيس المخابرات العامة، وزياد هب الريح رئيس جهاز الأمن الوقائي.
إذا كنتم تخافون، فإنّهم يخافون كما تخافون
كان نزار يقولُ الشيءَ الذي يقوله النَّاسُ في البيوت والمقاهي، لكن صوتَهُ كان عالياً وشجاعاً، فقتلوه ليبثّوا الرعبَ في الناس جميعاً. يريدونَ أن يصمت الجميعُ حتى تستمرَّ السّلطة في ممارسة وظيفتها الأمنيّة دون "إزعاجٍ" من أحد، ودون كلامٍ عن "فضائحها" المتتالية. بهذا المعنى، فإن قمع الناس ومحاولة إخراسهم يعكس خوف نخبة السّلطة المتصاعد على بقائها واستمراريتها.
بعد تلك الجريمة خرجَ النّاسُ في تظاهراتٍ غاضبةٍ بالآلاف في الضفّة الغربيّة، في رام الله والخليل ونابلس، وشهدوا كلّ صنوف القمع والاعتداء. استخدمت السلطة سلاحَها المُفضَّل سعياً لتشتيت المظاهرات وإظهار ما يحدث كـ"طوشةٍ" لا علاقة للأمن بها؛ أي "شبيحتها" و"مناديبها" وضباط أجهزتها بزيّهم المدنيّ. كذلك، استدعت السّلطةُ أبناءَ حركة "فتح"، بعد أن ابتلعتهم بنيتُها بالوظائف والمصالح، فرأينا أفراد من شبيبة جامعة بيرزيت تشارك في ضرب الناس.
الضرب بالحجارة (سلاحُ الانتفاضة الأولى الذي طالما تغنّت به "فتح" ومثقفوها مقابل ذمِّ الرصاص)، بالهراوات والعصي الخشبيّة، والاعتداء المباشر على المتظاهرين والمتظاهرات، وضربهنّ وسحلهنّ، إضافة إلى تعمّد التحرش الجنسيّ بالشابات المشاركات، وإطلاق الشتائم بحقهنّ،. وصولاً إلى سرقة هواتفهنّ المحمولة والتهديد بنشر صورهنّ الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، ونشر بعضها فعلياً، مما يكشف حجم الانحطاط الأخلاقي الذي وصلوا إليه، وهو أسلوبٌ يُشبه أساليب المخابرات الإسرائيلية في إسقاط الناس.
كانت مشاهدُ القمع التي تعرّض لها الناس في الشوارع شبيهةً بتلك التي تعرّض لها المُتظاهرون في البلدان العربيّة، فالسلطة تنحدر من نفس المجرى الاستبداديّ للأنظمة العربيّة. أنظمة يمكنها أن تمسح شعوبَها عن بكرة أبيها لكي تستمرّ، وتراكمُ القوّة وتصرف الأموال على عناصرها الأمنيّة لكي تخوض معركتها بلا هوادةٍ مع شعبها. وهي بشكلٍ تبادليّ إما تكون ذراعاً للمستعمرين الغزاة، وإما تكون حاجزاً من الطُغاة أمام احتجاج الناس على ظلمهم.
لم يكن حادثاً عارضاً!
لم يعد لدى السّلطة الفلسطينيّة ما يدفعها لإخفاء مهمّتها الحقيقيّة؛ حراسة المُستوطنات وحماية أمن "إسرائيل". لم يكن لديها من الأساس ما تُخفي به ذلك، لكنَّ العار اليوم أصبح أكثر وضوحاً، بعد انتفاضة الوحدة ومعركة سيف القدس الأخيرة. انتفضت القدس ومن ثمّ الأراضي المحتلة عام 1948، وشاركت غزّة بثقلها العسكريّ، أما الضفّة فقد بدت بطيئة التحرك.
أَشعَرَ ذلك نخبةَ السُّلطة بنوعٍ من الفخر؛ الآن تجدّد اعتمادُ أوراقهم عند أعداء الشعب الفلسطينيّ، وأصبحت أوثق وأرسخ، فقد بقيت الجغرافيا التي تسيطر عليها هذه النخبّة هي الجغرافيا الوحيدة التي شُلّت فيها الحركة، ولم تنضم بشكلٍ واسع للهبّة الشعبيّة التي شهدتها فلسطين. في تلك الجغرافيا، وعلى مدار سنوات، اجتثت "إسرائيل"، ومعها أجهزة السّلطة، التنظيماتِ المقاومة واجتثت معها إمكانيةَ التنظيم، ودمّرت المؤسسات والتشكيلات الاجتماعية وأحلت محلها أجهزةَ الأمن وقروض البنوك وأنماط الاستهلاك والتمويل. ومشهد اليوم، هو إتمامٌ لهذا الشكل السلطويّ والقمعي الذي استقرّت عليه هذه المنظومة في علاقتها مع مجتمعها.
لماذا نقولُ هذا الكلام في سياق اغتيال نزار بنات؟ لأنهم يريدون إشعارَ النّاس أنَّ اغتيال بنات حادثٌ عارض تُمكن معالجتُه بلجنة تحقيق، وأنّه ليس في صلب عمل منظومتهم. تساعدهم في ذلك بنى هشةٌ من مؤسسات ونخبٍ نمت على هوامش هذه الحالة المزرية المسماة "سلطة وطنيّة"، وتُعينها في أداء مهامها.
لا يدافع الفلسطينيون اليوم عن حريتهم في التعبير -مع أهمية ذلك كحقٍ ثابت لهم، ولكنهم يدافعون عن حريتهم في التغيير، وهو موضوع التعبير نفسه، في أنهم بالفعل "قرفوا" ويريدون أن يتحرّروا ويخلعوا عنهم الاحتلال وأدواته، أو بوضوح تام: يريدون خلعَ دولة المستوطنات وحرّاسها معاً.
كي نكونَ أوفياء للدم
الوحدة لإنجاز مهام التحرير مسألة مستحيلة ما دام شرطها أن تشمل في أطرافها مشروعاً يحمي "إسرائيل". إعلاميون ومثقفون وسياسيون ومؤسسات كثر كانت مهمتهم في الفترة الأخيرة التسويق لهذا المشروع، وتمرير ديباجاتٍ طويلة وغامضة من الكلام عن "الإجماع الوطنيّ"، حتّى يُصبح وجود حرّاس المستوطنات بيننا على أنّهم منّا أمراً مُستساغاً. وكلّما صدّقنا ذلك أصبحنا أبعد عن حلم التحرير.
يعتاش هؤلاء على سردياتٍ من نوع: الانتخابات، والإجماع الوطنيّ، ولقاءات الوحدة الوطنيّة في القاهرة التي لا يُنجز فيها أي شيء. بالنسبة لهم، ليس المطلوبُ أن ينتجَ عن تلك اللقاءات والسرديات أي شيء، بل هي مطلوبةٌ لذاتها فقط، إذ يكفيهم أن يظهروا كحزبٍ فلسطينيٍّ على نفس المستوى مع بقية الفصائل التي حفر أبناؤها بأظافرهم أنفاق غزّة.
لكي نكون أوفياء لدم نزار بنات ودماء من استشهد قبله، علينا أن نضع تضحياتِهم في إطارها الحقيقي، وضمن سعي شعبنا لمحاربة هذا الجهاز الفاسد والمتواطئ شديد الوضوح. لكي نكون أوفياء لمن يُضرَبون اليوم في الشوارع ويُسحلون، لعائلات الأسرى الذين حوربوا في أرزاقهم، لمن ضاعت أعمارهم ولمن أُهينت كرامتهم، ولكي نكون أوفياء لباقي شعبنا، ولحلمنا بفلسطين حرّة وموحدة، علينا أن نفهم اليوم أنَّ من أراقوا دمنا وحموا دمَ عدونا يقفونَ عائقاً حقيقيّاً وجديّاً لمراكمتنا على إنجازنا الأخير وتوسيعه، ويطيلونَ الطريق نحو التحرير.
إذا فهمنا هذا الإطار الحقيقيّ لقتل نزار بنات، عندها لن يكون "الحلّ" هو المطالبة بلجنةِ تحقيق. إذ أنّ حراسة دولة المستوطنات، وتدمير قوانا الاجتماعيّة والسياسية، ليس أمراً عارضاً تفعله السُّلطة لِيُحلّ بلجان تحقيقٍ. ومشروع السّلطة الذي تقوم عليه ليس خصومةً حزبيّةً لكي تُحَل بالانتخابات، إنّه جوهرُ تعريفها: 70% من مستوطني الضفّة قالوا إنّهم اختاروا العيش فيها لشعورهم بالأمان، هكذا تُقـيّـم مخرجات شركة الحُرّاس هذه.
اقرؤوا المزيد: "لجان الزكاة.. فصل من تدمير العمل المجتمعيّ"
أما الضفّة فليست سوى 165 قطعةٍ مبعثرة بلا تواصلٍ بين سكّانها، تُسمّى مناطق "أ"، ولا يمكن أن يقوم عليها أيّ كيانٍ جديّ. كلّ ما هو موجود على أرضها هو دولة للمستوطنين على 60% من المساحة، والباقي اكتظاظاتٌ سكانيّةٌ فلسطينيّة في طريقها لتصبح أياديَ عاملةً ورخيصة للمستوطنات، تُشرف عليها شركةٌ أمنيّة تضبطها. نحن هنا لا نتحدث عن سلطة أوسلو، فتلك على سوئها كان لديها وهم الدولة، أما نخبة اليوم فليس لديها حتى هذه الأوهام. هم قانعونَ بشبكة المصالح الفاسدة التي بنوها، وتوصيفهم بالعصابة يعتبر إهانةً للعصابة، لأنّ العصابة على الأقل لديها قيم تحكمها.
لم تكتفِ النخبة الحاكمة بتدمير مجتمع الضفّة وإضعافه بل دمرت أيضاً حزبها حركة "فتح"؛ ابتلعته وأصبح أداة تشبيح بيدها. اليوم تحديداً، شعر العديد من كوادر "فتح" بالمهانة الشديدة لما حصل بهم وبحركتهم. لقد شعروا أنهم خانوا دماء شهدائهم وإرث قائدهم السابق، وأنّ عجوز المُقاطعة يقودهم إلى الهاوية وإلى كراهية الناس لهم. ولكنّهم، وإن لم يتحرّكوا ويحرّروا أنفسهم، فلن يعود هناك تمييز مقبول بين نخبة فاسدة وقاعدة لديها غضبٌ جبان، لكنّها بالمحصلة تُستعمل لحماية ما تكره.
حتّى لا نقمع أنفسَنَا بأنفسِنا
خلال 15 عاماً، تعرّضت الضفّة لكل أنواع الاجتثاث، وكانت الاعتقالاتُ تجري بشكلٍ يومي. يعني هذا أنّ محاولات الناس للتحرّك لم تقف، لكنها محاولاتٌ اجتُثّت قبل أن تنضج، بسبب تطوّر منظومة الأمن. يتطلّب ذلك منا ابتكار أدواتٍ جديدة وطرق تنظيم تتلائم مع شكل التحدي الحالي، والسؤال في الضفة اليوم لا يختلف عن السؤال في أي قطعة أخرى؛ إنّه سؤال التنظيم.
ويُعنى بالتنظيم كل أشكاله، من التنظيم المركزيّ إلى الحزبيّ والشبكيّ، والنقابيّ والحراكيّ، والجمعيات والمجموعات. أي أن يتحرك الناس بشكلٍ جماعيّ، ويحموا بعضهم البعض، ويضعوا خطط العمل ويراكموا عليها، فما دمرته السُّلطة في مجتمعنا هو قدرتنا على العمل الجماعي التي نحنّ بأمسّ الحاجة لاستعادتها.
كما أن علينا ألا ننجر لوهم التحليلات الاجتماعيّة التي أصبحت وظيفتها جلد الذات وإخفاء السياسة من المشهد بنفس الوقت. تتردّد هذه التحليلات بشكلٍ مغرق عن طريق القول إنَّ أهل الضفة "جرى تدجينهم"، وإنّ المجتمع بأكمله تشرّب سياسات السلطة ولم يعد قادراً على العمل خارجها. لكن، من يتذكر النقاشات عن طبيعة الناس كيف كانت قبل الانتفاضة الثانية بيوم، يعرف عُقم هذه التحليلات. هذا النوع من التحليلات، هو ما تحتاج السلطة لتثبيته في أذهان الناس عن أنفسهم، حتى يقمعوا ذاتهم بذاتهم.
لذا، فلندع الكلام عن طبائع الناس وكيف تغيّرت، وننشغل بسؤال التنظيم وتغيّر واقعه، فالناس على دين تنظيمهم.