28 يناير 2019

إبل النقب

لماذا تستهدف "إسرائيل" الحيوانات؟

لماذا تستهدف "إسرائيل" الحيوانات؟

لا يخلو التّاريخ الاستعماريّ لفلسطين من سياساتٍ متنوعةٍ، الظاهر منها والمبطّن، لمحاولات هدم نسيج حياة الإنسان الفلسطيني ونمط معيشته وعلاقته بالأرض والحيوان والنبات والطبيعة عامّةً. تارةً تتخذ هذه السّياسات صورةَ هدمِ البيوت بحجة غياب الترخيص أو عدم الاعتراف بالملكيّة الفلسطينيّة على الأرض، وتارةً تظهر على شكل مصادرة الأراضي لصالح مخططات تحريش وتوسّع محميّات طبيعية، وتارةً يُجرّم ويلاحق من يقطف النباتات البريّة، وفي أحيانٍ أخرى تُستهدف الحيوانات، مثل ما وقع في الأيام الأخيرة في النقب، إذ صادرت قوات الاحتلال عدداً من الجمال في قرية بير هدّاج.  

في المجمل، تجتمع هذه الآليات الاستعمارية في كونها سياسات مقوننة في قوالب فضفاضة تختفي تحت شعارات "المصلحة العامة" و"حماية الطبيعة" و"التخطيط والتمدين" وغيرها، ويُحرِّكُها عطش المستعمِر للسيطرة على الحيّز الطبيعي وإعادة هندسته بما يتناسب مع مخططاته الاستيطانيّة والسّيطرة على الأرض، بالتوازي مع عزل الإنسان الفلسطينيّ وحصره في بؤر إسمنتية متراصّة.

الماعز والإبل في دائرة الاستهداف.. من بريطانيا إلى "إسرائيل"

ضمن سيرورة ابتدأت عند سلطات الاستعمار البريطانيّ، واستمرّت بعد النكبة بتنفيذ إسرائيليّ، تسارعت مطاردة ثقافة الرعيّ المحليّة، وتجريم تلك التي تخصّ الماعز الأسود تحديداً. في تقرير بريطانيّ قُدّم لرئيس هيئة الزراعة والصيد في فلسطين عام 1943، نرى ما يُشير إلى ذلك، مكتوباً بنفسٍ استعماريّ استعلائيّ: "هي حقيقةٌ معروفةٌ أنّ الماعز والإبل والغنم هم السّبب الأساسيّ للفيضانات وتعرية التّربة في هذه البلاد [فلسطين]... الرعيّ المكثف يمنع أيضاً تجميل البلاد عبر إضفاء الخضار بجانب الطرقات أو في البلدات... فالمواشي مستعدة للتغلب على أيّ عائقٍ لتلتهمَ كلَّ ما هو أخضر".

بعد النكبة، تسارعت هذه السيرورة، ففي العام 1950 سنّ الـ"كنيست" ما أسمّاه قانون حماية النبات -أضرار الماعز، والذي عُرف بقانون العنزة السوداء (إذ كانت عنزات المستعمرات الصهيونية بيضاء مستوردة)، والذي ينصّ على "منع أيّ شخصٍ من امتلاك أو رعيّ الماعز إلا في حدود قطعة الأرض التي يمتلكها وبالنسبة المسموحة". يخوّل هذا القانون سلطات الاحتلال الإسرائيلي مصادرةَ الماعز بحجج مثل الرعيّ خارج المناطق المحدّدة، أو امتلاك ماعز بنسبة تَفوق "عنزة واحدة لكلّ أربعين دونماً من الأرض الزراعيّة". كذلك، يَفرِضُ القانون عقوباتٍ جنائيّة على كلّ من يخالف أوامره.

في رسالة تعود إلى عام 1952، توجّه أصحاب ماعز من قريّة عارة المثلث باحتجاجٍ على نيّة سلطات الاحتلال الإسرائيليّ تطبيق قانون الماعز الأسود: "[أُعلِمنا أنّ] الحكومة قررت إبادة الماعز خلال خمسة أشهر ... تقول الحكومة إنّ الماعز العدوّ اللدود للأحراش والأشجار، لكنها لم تكن في يوم من الأيام كذلك".

تعكس هذه الصّيغة البسيطة، المتأثرة بصدمة النكبة وواقع العيش تحت حكم المستعمِر الجديد، علاقة الإنسان الفلسطينيّ العفويّة بأرضه وطبيعته التي طالما حافظَ عليها من خلال ثقافة رعيه للمواشي.  يبدو في هذه الرسالة حديثُ الفلسطينيين عن ماعزهم بكونها صديقةً للطبيعة لا عدوّةً لها، حديثاً فطريّاً، لا يلجأ للاستشهاد بأبحاثٍ علميّةٍ، بل بتجربةٍ حياةٍ حقيقيةٍ وغنيّةٍ وشائعة بين أصحاب البلاد الحقيقيين. وهو حديث، سيُـثْـبِت لاحقاً، رغم أنّه لا يحتاج، حقيقتَه العلميّةَ أيضاً، حيث دحضَت أبحاثٌ منشورةٌ في السّنوات الأخيرة إدعاءات الأضرار البيئيّة لرعيّ الماعز، وأثبتتْ تأثيراتها الإيجابيّة مثل المساهمة في منع اندلاع الحرائق، والمحافظة على تعدّد النبات البريّ وتجدّده.

لكن سلطات الاحتلال الإسرائيليّ استمرت بمطاردة الماعز الأسود وأصحابها الفلسطينيين، ومصادرته بحملات أمنيّة عنيفة، متزوّدةً بادعاءات علميّة وبيئيّة باطلة وموّجهة لخدمة أهدافها السّياسيّة الاستيطانيّة. وفقاً لذلك، كُثِّفَ عملُ وحدة "الدوريّة الخضراء" التي أقامتها حكومةُ الاحتلال عام 1977 لفرض السّيطرة على الماعز والإنسان والمحاصيل الزراعيّة، خاصّةً في أراضي النقب.

ورغم أنّ مصادرة الماعز وفرض الغرامات على أصحابها توقّف تدريجياً في نهاية سنوات الثمانينيات، إلا أن قانون الماعز الأسود لم يُلغَ إلاّ في نهاية عام 2017، إذ سوّقت حكومةُ الاحتلال إلغاءه كإنجازٍ لها ضمن سلسلة خطواتٍ للحدّ من أضرار الحرائق (رغم أنّ من بادر لإبطال القانون هو في الحقيقة النائب جمال زحالقة)!.

أما الإبل، فقد اختلفتْ الصلاحيات "القانونيّة" الإسرائيلية بشأنها، ولكن يبقى السّياق الاستعماريّ الجامعُ واحداً.

الإبل.. من أيقونة استشراقية إلى "مسبب لحوادث الطرق"

منذ ثلاثينيات القرن الماضي، أصبح وجودُ الجمل في الحيّز الفلسطينيّ العامّ وتوظيفه في الحياة اليوميّة مستهدفاً. بدايّة، حُوِّلَ الجملُ إلى أيقونةٍ استشراقيّةٍ مرحّبٍ بها فقط ما دامت تخدم المستعمِرَ في تحقيق "فانتازيا الجَمَل"، وما عدا ذلك فهو مُدمر. هكذا مثلاً، تحت عنوان "العربيّ، والماعز، و الجمل: مُدمّرو الصّحراء"، The Arab, the Goat, and the Camel: Destroyers of the Desert، نشر عام 1934 حاكمُ سيناء البريطانيّ كلود جارفيس مقالةً في الجريدة الصهيونيّة آنذاك The Palestine Post، يتهمُ فيها الإبل والغنم وأصحابها العرب بتدمير الطبيعة.

رغم انعدامِ صحتها "العلميّة"، توسّعت هذه النظرةُ الاستعماريّةُ تدريجياً وتحوّلتْ إلى صلاحياتٍ قانونيّة، تمّ ترسيخ بعضها في "أمر السّيطرة على البدو" عام 1942 الذي يمنح صلاحيات "ممارسة سلطة عامة ورقابة على كل أو قسم من القبائل المتنقلة والحدّ من حركتها". في العام ذاته، أرسل تايلور، المهندس البريطانيّ للقطارات في مدينة اللد، رسالةً إلى حكومة الانتداب، يشتكي فيها من الإبل قائلاً إنّها تُعرقِلُ حركةَ القطارات وتعترض السّكك الحديدية، وهو إدعاءٌ ستستخدمه لاحقاً "إسرائيل" من أجل فرض عقوبات وتوسيع السّيطرة على الإبل وأصحابها.

بالرغم من ذلك، لم تسع سلطات الاستعمار البريطانيّ في فلسطين إلى محاربة ثقافة استخدام الإبل بشكلٍ مباشرٍ وواسعٍ، واكتفت بفرض ضرائب عالية عليها، إذ كان الاعتماد على الإبل -في ذلك الوقت- حاضراً حتّى في المدن الساحليّة، وشكّلت الجمالُ وسيلةً أساسيةً للحركة والتّنقل التّجاريّ. يكتب الباحث الأمريكي راي كاستو E.Ray Casto في هذا السّياق عام 1937 أنّه "حتى في تجارة البرتقال سريعة التّطور، لعب الجمل دوراً مهماً في نقل المحاصيل إلى الأسواق".

لكن واقع الإنسان والجمَل اختلف كليّاً بعد النكبة. رافق استيلاءُ الحركة الصهيونية على الأرض تغييرٌ كاملٌ في تضاريسها ووظيفتها، بمشاريع بدأت ما قبل النكبة ونُفِّذَت بشكل أكثر وضوحاً وكثافةً بعدها، كما حصل مع طريق الإبل شمال يافا. في قضية وصلت المحكمة الإسرائيلية العليا عام 1961، اختلفت حكومة الاحتلال مع بلدية تل أبيب حول مصير قطعة أرض تقع على الشّاطئ جنوب غرب قرية الشّيخ مؤنس المهجّرة. تذكر المحكمة – دون وعي كامل لاعترافها بالجريمة – أنّ قطعة الأرض تلك استُخدِمت في السّابق "طريقاً لقوافل الإبل، خاصّة لأصحابها من قرية الشّيخ مؤنس، في طريقهم جنوباً إلى يافا".

في العام 1936، بُني ميناءُ تل أبيب على مساحةٍ من الأرض شملتْ تلك القطعة -موضع الخلاف-، وكما تذكر المحكمة: "استخدام هذه الأرض للسباحة والاستجمام يرتبط مع تطوّر مدينة تل أبيب، التي نشأت في جيلنا هذا". يشكّل هذا الاستنتاج من المحكمة الإسرائيليّة واحداً من قرارات "قانونية" مختلفة ومتباعدة زمنيّاً ومضموناً تتضمن إضراراً بالإبل ودورها ووجودها في فلسطين، وهو واحد من قرارات إسرائيلية كثيرة تشهد على تاريخ "التّطور" الإسرائيلي الذي يدحر الإنسان ويهدم البنيان ويخفي الحيوان من حيّز تطورهم الطبيعيّ، من أجل توسّع المستعمِر وزيادة رفاهيته. في مسارات شبيهة بهذه القصة، أضحت مساحاتٌ كاملةٌ، بما يشمل مدناً مثل يافا، خالية من الجِمَال كليّاً، تماماً كما أصبحت بيوتها خاليةً من سكانها وأصحابها الأصليين.

قانون تسجيل الإبل لعام 2018

عدا عن تغيير وجه الأرض وتغيير استخدامها، سُنّ في العام 1961 قانونٌ يفرض واجب تسجيل الإبل، ومن ثمّ وُسّع القانون عام 2018 بحجة تسبب الإبل بحوادث طرق، ليسمح بملاحقة أصحاب الإبل جنائيّاً في حال وقوع حوادث طرق أو تسبب بأضرار أخرى. القانون الذي تمت المصادقة عليه في يونيو/ حزيران الماضي أَجبر أصحاب الإبل التي يزيد عمرها عن 3 شهور على تسجيلها لدى وزارة الزراعة الإسرائيلية، بالإضافة إلى فرض زراعة شرائح إلكترونيّة فيها لتسهيل تتبعها ومعاقبة صاحبها إن لزم.

لم يكتفِ القانون بواجب تسجيل الإبل فحسب، بل أُصدِرَت أوامر تقيّد رعايتها وتشترطها بتراخيص كثيرة: تراخيص للإبل، وأخرى لأصحابها وتراخيص إضافيّة لمناطق الرعاية. وبهذا، أنشأت المنظومة البيروقراطيّة المعقّدة معيقاتٍ عديدةٍ أمام أصحاب الإبل. وفي الواقع رفضتْ سلطات الاحتلال الإسرائيليّ الاعتراف برعاية الإبل كقطاعٍ زراعيّ مرخّص، وبالتالي لم تمنح تراخيص تتيح رعايتها أساساً. في العام 2008، توّجه مركز "عدالة" القانونيّ في الداخل مطالباً بتخصيص أراضٍ في النقب تتيح رعاية الإبل، ردّت سلطات الاحتلال بالقول إنّها "غير مسؤولة عن تخصيص أراضٍ لأصحاب مواشي لم يتم الاعتراف بها كقطاع زراعيّ بحسب القانون".

تبعاً لهذه التضييقات الإسرائيلية الممتدة على سنوات الاحتلال، أصبحت الإبل "غير قانونية" على أرضها، واضطر أصحابُها إلى رعايتها في مناطق لا تخلو من الأخطار والملاحقة، إذ حُظِرَ الرعيّ في مناطق أُعلِنت كمحمياتٍ طبيعيّةٍ وأخرى تم استخدامها كمناطق عسكريّة، خاصةً بعدما انسحب الاحتلال من سيناء وما تبع ذلك من استخدام أراضي النقب الموّسع للأغراض العسكريّة. هكذا مثلاً، في العام 2003 انفجر لغمٌ وأصاب راعي أبل بدويّ، بعدما دخل -دون علمه- إلى منطقةٍ مفتوحةٍ ذات استخدامات عسكريّة، ولاحقاً رفضت المحكمة مطالبتَه بتعويضات. وفي العام 2015، في مشهد مصوّر وعلى خلفية قهقهات مثيرة للتقيّؤ، أطلق مجنّدان إسرائيليّان من وحدة "دوفدفان" النّار على جمل في منطقة البحر الميّت، وفي العام 2017 قَـتَـل جنديٌّ إسرائيليّ جملاً في منطقة وادي المليح.

شاحنات تابعة لسلطات الاحتلال الإسرائيلي تصادر مجموعة من الجمال في قرية بير هدّاج في النقب، 20.01.2019
شاحنات تابعة لسلطات الاحتلال الإسرائيلي تصادر مجموعة من الجمال في قرية بير هدّاج في النقب، 20.01.2019

وفي العام 2012، استُدعي الفلسطينيّ سلمان سدن من النقب لتحقيقٍ في سلطة حماية الطبيعة الإسرائيلية بعد رعيّه للإبل في الأراضي المُحيطة بقريته في وادي أريحا والتي أُعلِنَت "محمية طبيعيّة". في حالة أُخرى، فَقَدَ راعٍ آخر خمسةً من جماله بعدما شربت مياهاً مُسمّمة خلال رعيها في منطقة صناعّية. بحسب الإحصائيات المتوفّرة، انخفض عدد الإبل في العقود الأخيرة في النقب من 11 ألف إلى ما يقارب 3 آلاف في العام 2008.

جاءت ذروة الاستهداف في القانون الأخير، الذي يتخذ من حوادث الطرق التي قد تسببها الجمال ذريعةً، لكنه ينبع في الأساس من سياسات التّخطيط والاستيطان الزراعيّ التي حاصرت الإنسان الفلسطيني وصادرت الأرض وسلبت الاعتراف من الإبل وإمكانية رعايتها، وهي ذاتها السّياسة التي دفعت الإبل إلى الشّارع، ثمّ أنتجت ما أسمّته "خطر الإبل في الطرقات"، ثمّ شنّت الحرب عليها.

والأهمّ من ذلك، لا يُمكن فصل هذه التّشديدات "القانونيّة" الإسرائيليّة على الإبل وأصحابها عن مخططات المحو الأوسع للفلسطينيين والحياة البدويّة في النقب بهدف الاستيلاء على الأرض وتهويدها. وهي مخططات شهدت في السّنوات الأخيرة تصاعداً، منها مخطط توسيع امتداد "شارع 6" السريع  جنوباً على حساب تهجير مئات العائلات الفلسطينية في النقب، ومخطط مد سكّة "يروحام-ديمونا" الذي يحاصر أهالي قرية رخمة مسلوبة الاعتراف ويصادر ما يقارب 3,600 دونم من أراضيها. إضافةً إلى مخطط برافر (الذي تم إفشاله) وقانون كامينتس الذي يسهّل عملية هدم البيوت؛ وتهجير قرية أم الحيران بإشراف المحكمة العليا الإسرائيلية من أجل بناء مستعمرة حيران الإسرائيليّة على أنقاضها؛ وليس أخيراً اعتقال الشيخ صياح الطوري من قرية العراقيب مسلوبة الاعتراف بتهمة "تجاوز أراضي الدولة"؛ وغيرها.

متسلّحة مجدداً براية "المصلحة العامة" و"التّخطيط والتّمدين" و"حماية الطّبيعة" و"الأمان في الطّرق"، تحاصر المنظومة الاستعماريّة الإبل والإنسان وأبسط تفاصيل الحياة الفلسطينيّة اليومية، في قافلة النكبة المستمرة.