29 نوفمبر 2019

كيف يُفلِت رجالُ مؤسساتنا من تُهم التحرّش؟

كيف يُفلِت رجالُ مؤسساتنا من تُهم التحرّش؟

خلال حراك "طالعات" وتزامنا مع خروج المتظاهرات للتظاهر في فلسطين وخارجها، تعالت أصوات النساء عبر منصّات التواصل الاجتماعيّ بهدف الحشد والنشر. كلّ على طريقتها ومن تجربتها الشخصيّة حاولت أن تحكي عن أهمية تواجد النساء وخروجهنّ الى الشّوارع ودعم حراك نسويّ وطنيّ وتحرريّ.

الأهم من ذلك هو تميّز الحراك بمركزيّة النساء الفلسطينيّات ونضالهن ضدّ كل أنواع القمع. وذلك بخلاف ما عهدناه سابقاً، حين كانت فلسفة النضال الوطنيّ وتطبيقها تُملَى من قبل الرجال، بما في ذلك خلق الأولويات في داخلها وإرجاء القضايا النسويّة إلى أجل غير مسمّى. نتج عن ذلك تهميشٌ للنضال النسويّ على شكليه المجتمعيّ والسياسيّ، وفصله عن القضية الجامعة -تحرير فلسطين-، ما أنزل ضرراً كبيراً بالحركات النسويّة في فلسطين.

إحدى تجليّات مركزية النضال النسويّ في حراك "طالعات" ظهرت من خلال هتافات دعوات علنيّة من قبل الناشطات لمحاسبة ومعاقبة المتحرشين جنسيّاً في الحيز المجتمعيّ والسياسيّ وإقصائهم من الحراك الذي بدأ بالتشكّل. في مظاهرة حيفا، على سبيل المثال، أدّت هذه الهتافات إلى مواجهةٍ مع رجلٍ يشغل منصب مدير واحدة من أكبر المؤسسات الحقوقيّة الفلسطينيّة في أراضي الـ48، والذي وُجِّهت ضدّه تهم تحرّشٍ جنسيّ في الآونة الأخيرة، وطالبته المتظاهراتُ بالمغادرة.

تسعى نضالات نسويّة كثيرة في السنوات الأخيرة لإعادة صياغة فلسفة النضال للتحرر، بحيث يكون التوجه النسويّ جزءاً لا يتجزأ منها. يعني هذا دفع القضايا النسويّة واحتياجاتها إلى مركز كافة النضالات، ومن هنا يأتي الإلحاح على كشف هؤلاء "القيادات" و-"الأبطال" أصحاب الرصيد الوطنيّ والمجتمعيّ بضوءٍ مغايرٍ: معتدون يجب أن تتم محاسبتهم.

ترقيةٌ بدل الإقصاء

كانت من بين المتظاهرات والناشطات في حراك "طالعات" مجموعة من النساء الفاعلات في الحيّز السياسيّ والمجتمعيّ الفلسطينيّ (أحزاب وفصائل، ومؤسسات مجتمعيّة وثقافيّة وحقوقيّة)، ممن عبرنّ عن سأمهنّ من العنف الذكوريّ وحالات التحرش الجنسيّ داخل هذه الأطر. لوحظت كذلك العديد من اللافتات والمنشورات التي استنكرت وهاجمت استمرار العمل بنهج التسامح والتغاضي عن مظاهر العنف والهيمنة الذكوريّة الممارسة ضدّ النساء في داخل هذه الأطر، وفي المساحات التي تصرّح مراراً بأنّها "آمنة للنساء" أو "مدافعة عن حقوقهنّ". عبّرت المتظاهرات عن رفضهنّ للهيمنة الذكوريّة ونسخ علاقات القوة التقليديّة، داخل أطرٍ يُفترض أن تكون تحرريّة وتقدميّة. تجدر الإشارة هنا إلى أن الحديث عن العنف الذكوريّ والتحرّش الجنسيّ في الأطر المذكورة ورفض طريقة تعاملها مع التهم الموجهة للناشطين فيها، برز مع حراك "طالعات" لكنّه وُجد قبل هذا الحراك كذلك.

في أراضي الـ48، قررت ناشطة حزبيّة قبل بضعة سنوات أن تخرج عن صمتها ضدّ قياديّ من ذات الحزب قام بابتزازها وتهديدها بماضيها الجنسيّ إثر خلافات أيديولوجيّة. كانت النتيجة في حينه صمت الحزب ثم خروج منتمين لهذا الحزب للدفاع عن القياديّ وتبجيله. لم تُفعّل أية آليّات محاسبةٍ جديّة بحق القياديّ، بل جرت ترقيته لاحقاً لمناصب تمثيليّة أعلى. كذلك حصل أمر مشابه بحق ناشطٍ بارز في الضفّة الغربيّة، طالبت نساء عديدات بمحاسبته وإقصائه، بالمقابل لم يُتخذ ضدّه أي إجراء عقابيّ رغم ضغوطات عددٍ من التنظيمات الفلسطينيّة، وهو أيضاً لا زال يمثّل الأطر التي ينشط فيها، داخل فلسطين وخارجها.

وبالطبع هناك غير ذلك من الأمثلة التي يتضح منها أنّ نشطاء وقيادات في الحيّز المجتمعيّ والسياسيّ ما زالوا حتى اللحظة يمارسون أعمالهم في مناصب عامّة أو مهام حزبيّة، وذلك رغم توجيه تهمٍ علنيّة وغير علنيّة لهم بخصوص مضايقات وتحرّشات جنسيّة بحقّ زميلاتهم من النساء. فكيف يتمكّن الرجال من أصحاب النفوذ من البقاء في مناصبهم، بل والاستمرار في تحرّشاتهم، دون أن يتعرّضوا لأيّ محاسبة؟

اقرأ/ي المزيد: "طالعات.. نضالنا لاستعادة السياسة "منهم"". 

ذكوريّة المؤسسات امتداداً لذكوريّة البيت

لا يخفى على أحد تعامل غالب المجتمعات، خاصّةً تلك التي تجاهر بذكوريّتها وأبويّتها، مع ادعاءات النساء بشأن التحرّش الجنسيّ. بدءاً من العائلة التي يختار أفرادها الصّمت (في أحسن الحالات) أو تذنيب الضحيّة، والطعن في صحّة ادعائِها. والأمر ذاته في الأماكن والمؤسسات العامّة التي تعمل وفق ذات النهج، وكذلك الأمر في أماكن العمل والأطر المهنيّة والاجتماعيّة المختلفة. ينتج هذا النهج عن علاقات قوّة مُجحِفَة بحقّ النساء، تُنتِج تفوّقاً لصالح الذكور وتمنحهم الامتيازات والاستحقاقات فقط لكونهم رجالاً (بحسب التعريف البيولوجيّ والاجتماعيّ).

تستبعد غالبيّتنا أن تحصل حالات التحرش في أماكن ارتبطت رؤيتُها وعملها بقيم إنسانيّة عُليا مثل المساواة، والكرامة والعدالة. خاصةً حين تكون مؤسسات سُجِّلت في رصيدها إنجازاتٌ من أجل أبناء وبنات المجتمع الفلسطينيّ. أما الحقيقة، فهي أنّ حالات التحرّش في هذه الأماكن هي جزء من الإحصائيّات العامّة لحالات التحرّش في أماكن العمل. إذ يُفيد الإحصاء بأن ثلث حالات التحرّش تحصل في أماكن العمل.

بل أكثر من ذلك: يتم أحياناً التعامل مع شكاوى النساء في الحيّز المجتمعيّ والسياسيّ وأطره بنهج التشكيك والطعن في صحة إدعاءاتهنّ. لأجل ذلك، يستخدم الرجالُ نفوذَهم وقوّتَهم المشتقة من مكانتهم الحزبيّة أو المؤسساتيّة، ورصيدهم في العمل الوطنيّ والمنصب الذي يشغلونه، والذي بطبيعة الحال، يمنحهم سلطة على موظّفين أو كوادر أو مجموعات ومنصّات ومنابر لا حصر لها، وسيطرة مباشرة وغير مباشرة على الميزانيّات في الأحزاب أو المؤسسات. هذا كلّه إلى جانب العلاقات المحليّة والدوليّة في الصّحافة أو في الجامعات أو العلاقات مع الصناديق المانحة أو مع جهات سياسيّة قادرة على دعمهم.

أدوات الضغط

على سبيل المثال، يستطيع المعتدي أن يضغط على موظّفيه وموظّفاته في الجمعيّة، أو يضغط على أعضاء الكوادر الحزبيّة. يستطيع دفعهم للصمت، وإلى مقاطعة المشتكية وتكذيب اتهاماتها. يستطيع المعتدي أن يصوّر الاتهام ضدّه على أنّه اتهامٌ ضدّ المؤسسة أو الحزب، وبالتالي ضدّ القضيّة الوطنيّة. أو أن يشغّل الضغط من خلال المصالح المشتركة والتغطية المتبادلة والتهديد المباشر – والذي يصل حدّ ابتزاز رجال آخرين في مؤسسات أخرى بكشف "ملفّاتهم" وبالتالي تجنيدهم للالتفاف حوله. وهذه كلّها ليست فرضيّات ولا إمكانيّات نظريّة - بل واقع تشهده المناضلات النسويّات وتعرفه.

يمتلك المعتدي إمكانيّة الضغط، ليحوّل كل من يخضع للضغط إلى بوقٍ يفنّد ادعاء المشتكيات من النساء؛ التشكيك بقدراتهنّ المهنيّة وصفاتهم الشخصيّة، وادعاء وجود نوايا مبطنة، وشيطنة المرأة المشتكية، وتوجيه "اتهامات" لها تتعلّق بحريّتها وخياراتها الشخصيّة، وما إلى ذلك من ضغط على المشتكية من خلال محيطها المهنيّ والاجتماعيّ.  

نحن نعي جيّداً أن هذه كلّها أدوات سهلة الاستخدام بالنسبة لأي رجلٍ ذي منصبٍ. وصحيح أنّ النساء في هذه المؤسسات أو الجمعيّات أو الأحزاب يتمتّعن بقوة إضافيّةٍ (تعليم، موارد شخصيّة، استقلاليّة) مقارنةً بنساء أخريات تقع ضدّهن أهوال العنف اليوميّ، وصحيح أن هذا يوّفر للمرأة هنا أدواتٍ إضافيّةً لكشف الاعتداء ومحاولة محاسبته، إلا أن الرجال أيضاً في هذه الأطر يتمتّعون بقوّةٍ إضافيّة تفوقهنّ بكثير، وهذا كفيل بالحفاظ على الفجوة الهائلة.

عندما تصبح المؤسسة قبيلةً

يتمتّع الناشط أو القياديّ الاجتماعيّ أو السياسيّ بحصانةٍ اجتماعيّةٍ بفضل نشاطِهِ أو منصبه تعادل المكانةَ الاجتماعيّةَ العائليّة في كثيرٍ من الأحيان. وعلى غرار الهرميّة العائليّة والحصانة التي تُمنح لربّ العائلة وذكورها؛ مثل ألّا يُعاقب الذكر على مخالفة التقاليد مثلما تُعاقب الأنثى، أو التستّر على التحرّش والعنف داخل العائلة، تُمكِّن هذه الحصانة الناشطَ أو القياديَّ من الاستمرار بأفعاله والإفلات من العقاب والمحاسبة في حال أفصحت النساء عن الاعتداء. إذ يستهجن الرجال (والنساء أحياناً) أي اتهامٍ لهذا الشخص ويدافعون عنه دفاعاً مُستميتاً. لا تنتهي المقاربات مع المنظومة العائليّة هنا، اذ يتصرّف أعضاء الحزب أو المؤسسة أو الجمعيّة بنهج التعصّب العائليّ والانتماء للقبيلة. إذ يُستوعَب ويصوَّر الهجوم على الفرد منهم هجوماً ضدّ المؤسسة بأسرها.

ينظر أعضاء الحزب أو المؤسسة أو الجمعيّة، خاصةً حين تنتمي الجمعيّة إلى تيّار عينيّ أو شريحة اجتماعيّة محدّدة، إلى الهجوم ضدّ أحد الأعضاء (خاصةً إن كان قياديّاً، على غرار الأب)، كتصفيةِ حساباتٍ أو حرب بين أحزاب أو شرائح اجتماعيّة مختلفة. تتحوّل القضيّة إلى قضيّة دفاعٍ عن "سُمعة" و"صورة" المؤسسة أيّاً كانت. يُضعف هذا إلى حدٍ بعيدٍ احتمالَ خروج الحزب وأفراده ضدَّ ناشطٍ حزبيٍّ من أجل قضيّة نسويّة استمر دفنها لسنوات طويلة في أسفل سلم أولويّات العمل الوطنيّ. وفي الحالات الساحقة، فإنّ الاصطفاف المباشر لدعم المعتدي "مفهوم" مسبقاً، وهو يَحُول أصلاً دون كشف القضيّة، ويؤدّي مسبقاً إلى إسكات النساء اللواتي تعرّضن للتعنيف والتحرّش.

اقرأ/ي المزيد: "العنف ضدّ النساء.. هل نسعى لحماية من السّلطات؟"

هل من سبيلٍ للمواجهة؟

تَصْعُب مجابهةُ الرجال المتحرشين أصحاب النفوذ. ويُصبح في أحيانٍ كثيرة، كشف الرجال المتحرّشين من شرائح اجتماعيّة أو مكانات أضعف، ممن لا يمتلكون العلاقات والقوّة في الإعلام والميزانيّات والكوادر، أسهل بكثير من كشف من يتسلّحون بالمكانة الوطنيّة.

تعي كلُّ امرأة جيّداً أنّ هذه المواجهة ستُسَبِّب -لا شك- حرباً ستطال ماضيها، وعائلتها، و"سمعتها"، وعملها الحالي، وحتى فرص عملها المستقبليّة في مؤسساتٍ أخرى (يسيطر عليها رجال آخرون أيضاً)، إذ ستُوصم من قبل الرجال باعتبارها "مُسببّةً للمشاكل"، وذلك بغض النظر عن خلفيتها، وقدراتها وتجربتها. من الممكن أيضاً أن يؤدّي الكشف إلى حرب نفسيّة تَكسِرُ المرأة، إذ تتعرّض لضغوطات وتهديدات وتعنيف.

تعرف النساء أنّ رواية الرجل هي الطاغية والتي تُصَدَّق بشكلٍ شبه أوتوماتيكيّ مقابل رواية المرأة. وتعرف النساء تقديس وتبجيل الذكر في "العائلة" الوطنيّة. وتعرف أنَ الشخصيّات والمؤسسات التي تحدّثت لسنوات طويلة عن عدم ثقتها بالشرطة الإسرائيليّة وبجهاز القضاء الإسرائيليّ (في الداخل والقدس) أو بأجهزة الأمن الفلسطينيّة والقضاء الفلسطينيّ (في الضفّة وغزّة) – ستكون أوّل من تتهم المرأة بالكذب بدليل أنّها لم تُقدّم شكوى لنفس هذه السلطات التي انتقدوها.

ماذا نفعل إن لم نكن قادرات على خوض هذه التجربة القاسية حين تجتمع الذكوريّة بالنفوذ والعلاقات والمال؟ هنا يأتي دور الناشطات والناشطين، العاملات والعاملين في الحيز السياسيّ والمجتمعيّ: علينا أن نعي أولاً وجود موازين قوّة مجحفة وعنيفة وغير متماثلة. وأن هذه العلاقة هي المنظار التي يجب أن نتوجّه فيه وننظر منه إلى أي قضيّة تحرّش جنسيّ. لكنّ هذا وحده ليس كافياً: علينا أن نحمّل مسؤوليّتنا الفرديّة في مواجهة المتحرّشين، وأن نضع، كما نفعل في أيّ نضال، خوفنا ومصالحنا الشخصيّة جانباً ونتجرأ على دعم الضحيّة علناً وبوضوح، وأن نضغط على أماكن عملنا وزملائنا وأرباب وربّات عملنا لاتخاذ موقفٍ شخصيّ ومؤسساتيّ. علينا أن نقف في وجه محاولات إسكات النساء وترهيبهن وأن نهتف بصوتهن ضد المتحرشين إذا لم يتمكن هن من ذلك. علينا أن نعمل على كشف المصالح المتبادلة والضيقة في الحيز المجتمعي والسياسي، وتبادل التغطية والتستر بين الرجال فيها، وإخضاع هذه المصالح للرقابة والمحاسبة.