27 نوفمبر 2021

كيف اختفى عمّال الضفة؟

كيف اختفى عمّال الضفة؟

في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 أعلن مكتبُ المتحدث باسم "وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق"،1وهي الوحدة التي تُمثّل الشكل الجديد لما كان يُعرف بالإدارة المدنية قبل تأسيس السلطة الفلسطينيّة عن زيادة تصاريح العمل للفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة، للعملِ في قطاع البناء، بتسعة آلاف تصريح. يندرجُ ذلك في إطار خطّةٍ للوصول بتصاريح العمل الإسرائيليّة إلى خمسة عشر ألف تصريحٍ جديد، لهذا القطاع تحديداً. وذلك في حين تشير تقديرات غير رسميّة إلى أنّ أعداد الفلسطينيّين من الضفّة الغربيّة، العاملين داخل كيان الاحتلال وفي مستوطنات الضفّة والقدس، قد بلغت حتي نهاية عام 2020، أكثر من 170 ألف عامل، يصبّون مداخيلهم من العمل داخل كيان الاحتلال، في الدورة الاقتصاديّة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة.

جاءت هذه الخطّة إثر لقاءِ وزير الجيش الإسرائيليّ بني غانتس بالرئيس الفلسطينيّ محمود عباس، في أغسطس/ آب الماضي. تضمّنت التسهيلاتُ الاقتصاديّةُ التي أُعلِنَ عنها بعد هذا اللقاء كذلك قروضاً إسرائيليّة للسلطة الفلسطينيّة بواقع 150 مليون دولار، تُخصم من أموال المقاصة التي تجبيها "إسرائيل" من أموال الفلسطينيّين لحساب السلطة الفلسطينيّة. وإذا كانت التسهيلات الاقتصاديّة الشيءَ الوحيد الذي يُمكن أن تُقدِّمَهُ حكومة نفتالي بينت للسلطة الفلسطينيّة، بلا أيّ وعودٍ سياسيّة، فإنّها في الوقت ذاته لا تُخفي سعيها لزيادة الدعم الإقليميّ والدوليّ للسلطة الفلسطينيّة خشيةَ انهيارها، ومنعاً لأيّ تصعيدٍ أمنيٍّ في ساحة الضفّة. 

يلتقي ذلك السعي مع توجّه الإدارة الأميركيّة الحالية التي تدفع نحو منعِ هذا التصعيد، وتُراعي خصوصيةَ حكومة بينت الهشّة، وهو الأمر الذي اتَّضح في زيارة مدير وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة "سي آي إيه" وليام بيرنز لرام الله في أغسطس/ آب، وهادي عمرو نائب مساعد وزير الخارجيّة الأميركيّ للشؤون الإسرائيليّة والفلسطينية، الذي زار رام الله وكيان الاحتلال مرتين في يوليو/ تموز وأكتوبر/ تشرين الأول، وقدّم خلالهما أفكاراً لتعزيز السلطة الفلسطينيّة اقتصاديّاً.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس يلتقي بنائب الولايات المتحدة ومساعد وزير الخارجية للشؤون الإسرائيلية والفلسطينية هادي عمرو (الرابع من اليسار) في رام الله، 4 أكتوبر 2021 (تصوير الرئاسة الفلسطينية / وكالة الأناضول).

"استقرار" السلطة أولويّة!

إذا أردنا رصد الأسباب الطارئة والمباشرة لهذه التحركات، فإنّها تأتي بعد معركة "سيف القدس" التي كشفت عن التفاف الجماهير حول المقاومة الفلسطينيّة في مقابل انحسار شعبية السلطة الفلسطينيّة. وقد ظلّت السلطة الفلسطينيّة تتخذُ إجراءتٍ تزيدُ من هذا الانحسار، مثل إلغاء الانتخابات، وصفقة اللقاحات منتهية الصلاحية، ومقتل الناشط نزار بنات، دون أن تملك أيّ مشروعٍ سياسيٍّ واضح. جعلت هذه الظروف مجتمعةً السلطةَ الفلسطينيّة هدفاً في ذاته2أي بعد أن تأكدت عدم إمكانية التحوّل إلى دولة، أصبحت السلطة الفلسطينية نفسها (والبقاء على شكلها الحالي) هدفاً بذاته، لا يملك أي أفق سياسيّ يستمدّ قوّتَه من وظيفته المؤسِّسة، والتي تستدعي الدعم الخارجيّ. 

اقرؤوا المزيد: "الانتخابات وقد تأجلت.. متى نخرج من نفق السلطة المُظلم؟".

كلّ ذلك يلتقي مع الظروف الخاصّة بكلِّ من حكومة بنيت الهشّة، وبإدارة بايدن الحريصة على تماسك حكومة بينت في مواجهة تربّص نتنياهو غير المرغوب فيه من هذه الإدارة، وحينئذٍ فإنَّ ضمان الاستقرار عند السلطة هو الأولوية لدى إدارة بايدن. يأتي ذلك على حساب كلِّ ما يُمكن قوله، عن ضغوطٍ أميركيّة أو أوروبيّة على السلطة الفلسطينيّة متعلقةٍ بالشرعية الانتخابيّة أو بالشفافية الماليّة، فما يُمكن وصفُهُ بالنفاق الغربيّ معروفٌ في هذه السياقات.

بيد أنّ سياسات الاستيعاب الاقتصاديّ للفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة سابقة على تلك الأسباب الطارئة، كما أنّها سابقة على حكومة بينت. إنَّ تلك السياسات استراتيجيةٌ احتلاليّة ثابتة، تستندُ جوهريّاً إلى اضطرار السلطة الفلسطينيّة لوظيفتها الشارطة والمؤسّسة، مع انعدام الأفق السياسيّ لها، ويقينها بانقطاع آمالها بأيّ إمكانية للتحوّل السياسي على سكّة مسار التسوية. 

ومع افتقاد السلطةِ لجملةِ الشرعيات السياسيّة والشعبيّة وعجزها عن تعزيز صمود الناس، فإنّها تجدُ نفسها جزءاً من سياسات الاستيعاب الاقتصاديّ، وبالتالي جزءاً من أدوات ضبط الحالة الجماهيريّة في الضفّة الغربيّة. والملفت أنّ ذلك يحصل حتّى لو كانت تلك السياسات تتجاوز السلطة فعليّاً، كما في تعامل "وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق" مع الفلسطينيّين، إذ أنَّ ذلك التعامل يتم من خارج القنوات الرسميّة التي يُفترض أن تمرّ بالسلطة. يعني ذلك تقدّم "وحدة التنسيق هذه/ الإدارة المدنيّة" في مساحات السلطة، لتقضي على الحدّ الأدنى من بقايا الحكم الذاتيّ. كما أنّ سياسات الاستيعاب الاقتصاديّ تُرَحّل المشكلاتِ نحو مستقبلٍ يفقد فيه الفلسطينيّون الممكنات العصاميّة الذاتيّة بالكامل، وهو أمرٌ مُتَحقِّق الآن إلى حدٍّ كبير.

اقرؤوا المزيد: "كيف ننجو من المقصلة؟ تجربة تعاونيّة أرض اليأس".

تهدف "إسرائيل" بالدرجة الأولى، إلى شراء الهدوء بالاقتصاد، وتأتي العمالة داخل كيان الاحتلال عنصراً في المُعطى الاقتصاديّ الشامل الذي تُسهّله "إسرائيل" للسلطة. السلطة، في المقابل، أخفقت تماماً في بناء المؤسسات التي وعدت بها وألحّت عليها كثيراً في دعايتها السياسيّة من بعد الانقسام الفلسطينيّ، ولا سيما أثناء حكومة سلام فياض. كما أخفقت في أهمّ ما يتعلق بهذه الدعاية، وهو الاستقلالية الاقتصاديّة والاعتماد على الذات. فقد أفضت تلك الوعود إلى حديثٍ متكررٍ عن الإفلاس، واحتمالية الانهيار الاقتصاديّ، وتسوّل الدعم من الغرب. بل وصل الأمر حدّ الاقتراض ممن يُفترض أنّه العدوّ المحتلّ، والاستعانة بهذا العدوّ للنفوذ لدى الإدارة الأميركية، والضغط على الدول العربيّة لتمويل السلطة الفلسطينيّة. وهو الأمر الذي يعني الارتهانَ الكامل للعامل الإسرائيلي في مآلات تجربة مشروع التسوية وتأسيس سلطة في ظلّ الاحتلال.

عمّال أكثر؟ الشرط: هدوء أكثر

تشيرُ المعطيات الاقتصاديّة إلى أنّ سوق العمل الفلسطينيّ، بما في ذلك القطاع العام منه، يتَّسع سنويّاً لعدد يتراوح بين 6 آلاف إلى 8 آلاف فلسطينيّ، في حين تضخُّ الجامعات الفلسطينية سنويّاً أكثر من 40 ألف خريج فلسطينيّ. يعني ذلك بالضرورة تحويل مجال السلطة الفلسطينيّة الجغرافيّ (الضفّة وغزّة) إلى بيئةٍ طاردةٍ، في وقت يفترض فيه تعزيز صمود الناس في أرضهم، في مواجهة سياسات الترانسفير الناعم. كما يعني ذلك الاضطرار لسوق العمل الإسرائيليّ، الذي يفرض شرطاً سياسيّاً عامّاً على السلطة، وعلى الناس، وهو الهدوء مقابل استمرار العمالة داخل الكيان.

يؤسس الاحتلال لهذا الشرط على جملةٍ من الهزّات الاقتصاديّة التي فرضها على الفلسطينيّين لكيّ وعيهم، بحسب مصطلحه الأثير. ففي الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية، التي حوّل فيها الاحتلالُ آفاق الحركة داخل الضفّة الغربيّة إلى ما يشبه الممرات داخل الجحيم، أغلق كذلك بابَ العمل داخل كيانه، لتتعاظم الأزمات الاقتصاديّة بعد أن أصبح لدى الضفة والقطاع  فائضٌ في العمالة الداخليّة استدعت تدنّياً مريعاً في الأجور. بينما يقابل ذلك الآن شحٌّ في العمالة الداخليّة، إذ تتوجّه أكثر هذه العمالة إلى الداخل المحتلّ، ليستدعي هذا الشحُّ ارتفاعاً نسبيّاً في الأجور قد لا تُطيقه قدراتُ الكيانات الاقتصاديّة الفلسطينيّة الصغيرة، كالمتعهدين الصغار، الذي هم الأكثر تضرّراً من نقص الأيدي العاملة، وهو ما يكشف عن استنادٍ فلسطينيٍّ كامل على الاقتصاد الإسرائيليّ.

اقرؤوا المزيد: "الناس بتشتغل عشان تتزوج، احنا منتزوج عشان نشتغل".

تستفيد "إسرائيل" بالتأكيد من اليد الفلسطينيّة العاملة الماهرة، ومن إعادة تدوير مدفوعاتِها من الأجور داخل اقتصادها، بخلاف ما كان عليه الحال مع اليد العاملة الآسيويّة التي استدعتها أثناء انتفاضة الأقصى (والتي كانت تحوّل أجورها إلى بلادها). إلا أنّ الأهمّ من كلّ ذلك، أنّ "إسرائيل" تشتري الهدوء مقابل هذه اليد العاملة، وتبتزُّ الناس في لقمة عيشها، مما يكرُّس من الدور الوظيفيّ للسلطة، غير القادرة على الاستيعاب الاقتصاديّ الذاتيّ للفلسطينيين. هذا فضلاً عن كون هذه الأجور، من أهم المداخيل التي تحرك الدورة الاقتصاديّة داخل الضفّة الغربية، وهذه الدورة بدورها مرتبطةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ بالاقتصاد الإسرائيليّ، وهكذا يجري تبادل المنفعة بين الحكم الذاتيّ المحدود وبين السلطات الاستعماريّة.

بيْد أنَّ "إسرائيل" تراهن أيضاً على ما هو أكبر من ذلك. إنّها من خلال هذه السياسات تفحصُ قدرتَها، ومن ثمَّ تُطوّرُ أدواتِها لاستيعاب المجتمع الفلسطينيّ في الضفّة الغربيّة، (يمكن القول إنَّ لها أدواتها بأشكال أخرى في غزّة والقدس والأراضي المحتلة عام 1948)، بالقدر الذي يجعلها مستعدّةً لأيّة مفاجآت. تريد "إسرائيل" أن تكون قادرةً على التعامل مع الفلسطينيّين في الضفّة بلا وسيطٍ اقتصاديٍّ أو وكيلٍ أمنيّ، أو أن تكون أكثر نفوذاً وهيمنةً بما يضبط الواقعَ الفلسطينيّ بالكامل في الضفّة لمصالحها السياسيّة والأمنيّة.

عمال فلسطينيون يمرون عبر حاجز بين مدينة الخليل بالضفة الغربية وبئر السبع أثناء حملهم البطانيات والمراتب في 18 مارس 2020، وللمرة الأولى يتعين عليهم البقاء ما بين شهر إلى شهرين داخل "إسرائيل" وسط فيروس كورونا. تصوير: حازم بدر / وكالة الصحافة الفرنسية.

 

كما أنّها تراهن على مساهمة هذه العمالة في عملية هندسة المجتمع الفلسطينيّ من جديد، لا بتوفير ما يخشى الفلسطينيون من خسارتِه، بعد تجربة خسارته من قبل (العمل والوظيفة)، فحسب، ولكن أيضاً بربط معاش أكثر من مليون فلسطينيّ في الضفّة الغربيّة، مباشرةً بالعمل داخل الكيان.3 في حال كان عدد العمال في الداخل نهاية 2020 هم 170 ألف فلسطيني، وفي حال افترضنا أن متوسط العائلة الفلسطينية 5 أفراد، فإنّ حوالي 850 ألف فلسطيني هم الذين يرتبط معاشهم بالعمل داخل كيان الاحتلال. وبطبيعة الحال فإنّ الرقم أكبر من ذلك، مع ازدياد عدد العمال مؤخراً تزداد خطورة هذه الهندسة وإمكانياتها في حال ذكرنا أيضاً مساهمة هذه المداخيل في الدورة الاقتصاديّة الكاملة للضفّة الغربيّة، بالإضافة إلى العلاقات الاجتماعيّة التي قد تنشأ بين بعض التجمّعات الفلسطينيّة المحاذية لكيان الاحتلال ومستوطناتِه، وبين سكان كيان الاحتلال وأرباب العمل فيه.

هذا ما تُريده "إسرائيل"، بينما يبحثُ الفلسطينيون عمّا يعزّز صمودَهم داخل أرضهم، مع فشل السلطة الفلسطينيّة في القيام بهذا الدور. وفي حين لا يمكن علاج هذه المشكلة جذريّاً ومن الناحية الاقتصاديّة، فإنّه من الضروري قراءة أهداف الاحتلال، والنظر في الانعكاسات السياسيّة والاجتماعيّة لسياساته الاقتصاديّة تجاه الفلسطينيّين.